يسهل على أي ذائق أن ينال وفير الحظ من استشعار حال أيٍّ من أهل الله، كتب عنه من تحلى بحاله، فمثلا ستتبدى أشياء لذلك الذائق عن أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي لو طالع كتاب لطائف المنن لابن عطاء الله، والحال نفسه لو قرأ عن الشيخ سيدي المختار الكنتي كتاب ابنه الشيخ سيدي محمد الخليفة الطرائف والتلائد في مناقب الشيخين الوالدة والوالد... وغيرهما من كتب الأحوال عن أصحاب الأحوال. أما إذا بحث عن ذلك الصنف من خلق الله عن طريق غير أهل الحال فلن يروي غلة، ولن يشفي علة، فالأشياء تطلب في مظانها.
سألني أحدهم الكتابة عن المرابط، قبل اليوم فقلت له: لو تحليت بحاله لكتبت عنه، فرغبت اليوم في الكتابة عنه حين نهضت بي جرأة في أثواب الاستعانة بهمته هو، وقد تذكرت حديثا حدثنيه الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن فقال: إنه دخل في نقاش محتدم رفيع المستوى، مع ثلة من مفكري اليسار، وقد أيده الله بنصره، قال: وسبب ذلك النصر المؤزر هو دخولي المناظرة بهمة شيخي.
سأكتب عن هذا المرابط الفاذ عن أشباهه وأضرابه في زماننا هذا، وإني لعليم أن خيانات عباراتي ستترصدني في مراحل مما أرومه، ولكنه التنصل من درك إدراك مداركي، والتملص من الإذعان للوقوف على مراكز عجزي.
سأضع نفسي في حيز الحل مما درج عليه من كتبوا حول المرابط، وقالوا عنه، وسأزيح القلم عن سطور مستوى العلم، والكرامات، وخرق المعتادات، ومنافع الناس، وما اقترب من ذلك الحمى.
إن ميل الخاطر إلى مراداته يأتي أحيانا بمفارقة التعليل، ذلك ما يقع لي في كثير من الأوقات! ومنه ميل منقطع النظير إلى فهوم ابن عاشور في التفسير، جعلني قرَّاءً له.
ولا أروع عندي من ذوقه عند قوله تعالى: "ألم يجدك يتيما فآوى" فقال: إن الاستئناف هنا مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد، لجريانه على سنن ما سبق من عناية الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من مبدإ نشأته ولطفه به في الشدائد باطرادٍ، حيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر. حدثني من حدثه المرابط محمد سالم ولد عدود - رحمه الله - أنه كان يقرأ أحزابا من القرآن على عمته عند بئر "انْدُومْرِي" - وهي من أهل الكشف كما قال المرابط محمد سالم - حتى رأيا نوءا، فقالت: جعل الله هذا النوء خيرا على أهل آمْنَيْــگِـيرْ. حدثتني الصالحة توتُ بنت الكوري بن المحقق - رحمهاالله - أن والدها الصالح الكوري رأى ذلك النوء - وهم عند "مَانْ اگْوَيْنِي" - فنظر إليه، وقال: جعل الله هذا النوء خيرا على أهل آمْنَيْگِيرْ.
فكما قال ابن عاشور لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف، كما لتوارد كشوفات حول ذلك النوء إشارات تسوق الخير في طيات شيء آخر، فينساق الدليل على تحقق خفي الألطاف في مضامين سبق العناية.
والثكل واليتم يوم السفح من أُحُد *** بِرٌّ بأخيار أهل الملة البرره
كم مولمات أحزنت بمضرة *** جرت منافع لا تعد فسرت
بعد ذلك النوء تهاطلت شآبيب خير، فكانت الكلمة الأولى من أول سطر من قصة المرابط التي ما زلنا اليوم نجهل جميع فصولها، رغم مطالعات ومطالعات... أطلعت أهل الذوق منا على قصور باع عن إدراك شيء يسير من الحقيقة، كما زادت تلك المطالعات أهل الصدود صدودا.
سيتبين لاحقا أن ذلك اليتم المكتمل الشروط سيكون دالا على حالة يتيمة من تكوين إنسان بمقاسات أزمنة سحيقة، إنسان لا نجد أوصافه اليوم إلا في بطون الكتب!! حالة إنسان خارج عن سياقات زمنه بقطعه العلائق وصرمه حبال الوصل مع هذه الحياة الدنيا:
وقل لمفتون لذات الــــحياة إذا *** ظن الجهامة منها غير مقشعة
سائل مقابر بغداد الدواثر كم *** ضمت من أرباب تيجان مرصعة
فحين نرى من نعدّه من الأحياء ولا حياة له بقياسات معتاداتنا في زمان الكثافات المادية، إذ القوت اليومي لا يتعدى يسيرا من الحليب وما حواه ذلك المغراج من الماء، وما حواه إناء غيْره من غذاءٍ مخالفٍ لأغذية أهل العصر، وأما الملبس فقد فصل على كفن للزوم إعداد العدة، وغير هذا لا أعلمه مع استثناء للحاجِيِّ منَ النَّوم.
فالقلب يضعف إذا كسا البدن *** حوك يد الأضراس أبراد السمن
سئل المرابط محمذن ولد محنض بابه عن ابنه حامدن فقال: ذلك فتى أذابه الإحياء، وقد سرى عرق من تلك الشنشنة إلى المرابط، ففي الرابعة عشرة وجد جزءا من إحياء علوم الدين، فنهل من ذلك المورد وعلّ، وفي ريعان ذلك الشباب كان المرابط يلم بالمرابط محمد سالم ولد ألما - رحمه الله - وكان الأخير إذا رآه قادما قال لتلامذته: من سره أن يرى شابا تائبا فلينظر إلى هذا الشَّابِّ.
فتب وجــــدد المتاب كـل حــين *** ولو غدوت من كبار الصالحين
فليس يخلو كمل الأقطاب *** من بعض ما يدعو إلى المتاب
وفي طريق السير إلى الله الحقِّ كان كتاب السير والسلوك إلى ملك الملوك للقاسم بن صلاح الدين الحلبي من موجهات المرابط، فقد غذي ذلك اللِّبانَ الذي حلب صريحه من أثداء جده المرابط حامدن، وشيخه المرابط محمد سالم ولد ألما. لقد تعددت زياراته للمرابط محمد سالم، فمتح ذنوبا من العرفان من ذلك المورد العذب الصافي، فرق القلب واشتد عود المجاهدة، وتوالت هزائم النفس والهوى، وليس للشيطان سلطان على عباد الله.
وقدمن جـــهاد الـنفس واعــــترضن *** لـــــجندها برماح منك مشرعة
فالنفس كسلى عن الأعمال مـــائلة *** لكل حظ إذا في الحظ أطمعت
لكن إذا فطمت عن طبعها انفطمت *** وســـارعت للــــذي عنه تمنعت
فـــجانبت كــل مـكروه ومــــــــمتنع *** وأكـــملت كل فرض بل تطوعت
إن الحجب والقواطع ما زالت تمنع غير المختارين لتلك الحضرات من الدخول إليها أو حتى الوقوف ببابها، وتتعدد الموانع بتنوع أسباب الطرد والعياذ بالله، لكن حجب القرب والمعاصرة تبقى القاسم المشترك من بين كل تلك الأسباب.
فلو كان المرابط اليوم في بلاد نائية، نسمع عنه ونقرأ، لكانت رغبتنا إليه أكثر جموحا والقلوب إليه أشد جنوحا، إذ البعد حؤول دون مسد ثغرة الطلب، وإرواء عطش النفوس من رغبة العيان.
ولو كان المرابط - أطال الله بقاءه - في زمن مضى، وحدثتنا المصادر عن أحواله، لكنا نتمنى أن نكون في زمانه. أما ونحن نشترك معه المكان والزمان فسنكون أزهد الناس فيه، بسبب حواجب القرب والمعاصرة.
إن تلك الحجب وغيرها قد تبني سدودها دون المرابط عن الذين "على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر" إن قلوب أهل الله لا ينساق إليها إلا من سيقت قلوبهم بألطاف العناية وأمداد الهداية:
رب إن الهدى هداك وآيا *** تك نور تهدي بها من تشاء
في مقابل ذلك الطرف صنف آخر ممَّن هدوا إلى أولياء الله، فكُشفت عنهم الأستار فتبدت لهم الأنوار، وما وقفوا مع رسوم الديار، فأولئك وحدهم هم من يؤذن لهم إلى حضرة المرابط، في وقت ستر الله فيه أنوار السرائر بكثائف الظواهر، إجلالا لها أن تبتذل بوجود الإظهار، وأن ينادى عليها بلسان الاشتهار، كما قال ابن عطاء الله.
ومراد الله من خلائقه القيام بأمره، وأهل الله هم الأدلاَّء إليه، فمن وفق إليهم فاز فوزا عظيما:
وما مراد الله من عباده *** إلا وقوفهم على مراده
كانت وسائل القرابة، والمعاصرة تقيم سدود الموانع أمام رجال عن المرابط، إلى أن التقوا به، فبان لهم من البيان شيء، فأخبروا بالخبر من كان بالمرابط خبيرا، قائلين: ما كنا نعرف المرابط فرد عليهم: وما عرفتموه بعد!!
إنا لعارفين بربهم في زمن رانت فيه الماديات على أغلب القلوب يحالون بفعل اغترابهم في الدنيا إلى مباءة التخفي والتستر حذر التشويش على التقريب ومراقبة جمال الشهود:
والرب من عـــرفه أحبه *** وفاز عـــبد قــد أحب ربــــه
ومن أحب ربه أطـــاعا *** ذا الرب واتقاه ما استطاعا
وإن كان البعض في صمم وعمى فإن المعالم من الوضوح بمكان لمن استنارت بصائرهم، ونظروا بعين حسن البحث وصدق الطلب، خاصة إذا كانوا من كبار أهل زمانهم، وإليك – يا رعاك الله - بعض ذلك:
"جاء المرابط إلى نواكشوط لزيارة الأطباء، وقد استشكل من المنحى الفقهي ما يفعله الأطباء من سحب الدم من العروق حال حقن المريض وإرجاع ذلك الدم إلى العرق، فأراد أن يسأل العلماء عن ذلك، فذهب إلى الإمام بداه ولد البوصيري - رحمه الله - وكان لمنزله بابان، باب للخدام وباب للزوار، فدخل المرابط من باب الخدام، وكان مربوطا إلى الداخل بحبل مطاطي فأحدثت جذبة المرابط له ورده صوتاً، جعل الإمام يخرج مسرعا ليعرف من الطارق فسلم المرابط على الإمام، وطرح عليه إشكاله الفقهي، فرد عليه بداه: بأن ذلك معفو عنه، ومن خلال هيئة المرابط، سأله الإمام عن من يكون؟ فأجابه أنه من أولاد ديمان، فسأله من أيهم؟ فقال إنه: من أهل آمنَيْگِيرْ. فقال الإمام لعلك أنت محنض بابه ولد إمين؟ فقال: نعم، ثم تلاقيا صدفة بعد ذلك، فقال له بداه: عندي مصنَّف في شأن الأهلة، أود أن تسمعه، فأتاه المرابط، وأخذ بداه يقرأ من المصنَّف، وكلما وصل إلى جملة من النص، أبدى المرابط ملاحظاتِه، فتبين للإمام بداه أن المرابط كان شديد الإصغاء، فلم تفت عليه مضامين جُمَل النص، فلما أتم قراءة المصنَّف، قال للمرابط أنا واثقٌ بفهمك مؤتمنٌ لك في دينِك، فبيِّن لي ما تراني عدلت فيه عن الصواب في هذا المصنف، فبيَّن له جُملاً من ذلك، فوعده بحذف بعضها واتقاء أمثالِها في ما يصنفه في المستقبل، وكان الإمام سأل المرابط عن الذي يناسبه من الغذاء، فرد عليه أن في مغراجه كفاية، وأنه رأى أين تكون حنفية الماء، وكان الإمام إذا حانت الصلاة يذهب إلى المسجد، والمرابط يصلي في البيت، وقد استشكل طلابُ الإمام عدم حضوره صلاة الجماعة، فقال لهم الإمام: دعوا عنكم ذلك الرجل، فإنه أعلم منكم بالأحكام، وأرغب منكم في الأجر.
وقد نزل أهل التاه بن يحظيه بن عبد الودود بئر"انْتِيمَرْكَاي" عام جدب ضرب منطقة "لُبَّيْرَاتْ" فتوافد الناس إلى التاه ولد يحظيه - رحمه الله - وكان من العلم والمكانة بمكان، فزاره المرابط، وفي اليوم الأول سأله أسئلة لم يعهدها، فأعرض عنه يومين أو ثلاثة، كان المرابط يواصل فيها زيارته ويوضح للسَّائلين ما قصُرت عنه أفهامهم من إجابات التاه، وفي اليوم الثالث أو الرابع أظهر التاه الحفاوة بالمرابط وقدم إليه فراشه وقال له: هات ما لديك من أسئلة، فقد عرفناك، بعد أن أشكل علينا أمرك، ومعرفتك غير سهلة، فطلب منه المرابط أن يرشده إلى شيخ تربيةٍ يسلِّمُ له نفسه من بين أشياخ المنطقة الذين عرفهم فقال له التاه: إن اللبن يُروَّبُ ويُستخلص زُبدُه ثم يُذاب الزبد، ويُعزل ما طَفا من رغوته، وما رسب من عَكَرِهِ بأن يطبخ مَعهُ دقيق يمتزج بالعَكَر ويكون السَّمنُ بذلِك صافيا خالصاً مما كان يشُوب زُبدهُ، والأماثل من أهل بلادنا إن كان عندهم خير فهو عندي بمنزلة اللبن، والذي عندك أنت بمنزلة السمَن، فالرأي عندي أن تغتبط بما عندك.
روى لي من أثق به أنه زار المرابط محمد الحسن ولد أحمدو الخديم، فطلب منه أن يبلغ تحياته للمرابط، وقال له: إنني أرى أن المرابط يشفع في أهل زمانه، وأنه من الذين لا يشقى الناظر إلى وجوههم.
كان المرابط يدرس العمدة في الطب على حفيد ناظمها محمد يحظيه بن بـِدِّي، وفي أحد أعوام صحبته له كان أهل الشيخ محمد بن حِمينَّ مُتبدِّين مع محمد يحظيه وأخيه، وكان المرابط يصلي معهم لكنه لا ياتيهم إلا عند الإقامة، ثم ينصرف عند السلام، وكان محمد بن حِمَّيْنَّ يحبُّ أن يعرف ما عند ذلك الشاب الجَفُول، فقال له: - يوما عند سلامه من الصلاة - انتظرني قليلا، فوقف الشاب فسأله الشيخ؟ هل لك في أن أعيرك كتاب "القسطاس المستقيم في المنطق" للإمام الغزالي، فقبل المرابط عارية الكتاب، ولم يلبث لديه إلا يوما واحدا، ردهُ عند مسائه، فسأله الشيخ هل وجدت في ذلك الكتاب بيانَ حكم القبض والسدل؟ فقال: وجدت فيه أن المريض إذا اختلف الأطباء في عِلاج مرضه يأخذ برأي أوثقهم عنده، وأهل بلادنا يثقون برأي ابن القاسم وسحنون، وإن رجح أكثر العلماء رأي قوم آخرين، فأعجب محمد بن حِمَّيْنَّ بالمرابط!! وقال إنه: لم يكن يظن أنه في هذا المستوى من الإدراك.
وفي المرابط يقول العلامة أحمدو بن التاه بن حمينَّ:
يا من جرى بيني الحديث وبينه *** أرني شبيه محنض باب فأين هو؟
أفَمن يبيِّنُ كيفَ حـُكمٍ غامض *** غلب الفهومَ النيراتِ وأَينهُ
وأبَى القواطِعَ عن توجهه إلى *** ما الله يرضي صادقا وأَبينهُ
ومَن إن أتَى أعمَى البصيرة حَائراً *** يُصلِحْ تَوَجُّهَهُ وَيَفتَحْ عَينَهُ
كَسِوَاهُ مِمَّن مَا كتلكَ صفَاتُه *** شَتان مَا بينَ الأوَلِّ وَبينَهُ
شَحَّ الزَّمَانُ وَكان يَسمَحُ باللِّقا *** مَعَهُ زَمانٌ فاشتكينا مَيْنَهُ
زَمَنٌ بتَنْدَكْسَمّ ضَاءَ وبعْدَه *** جَاءتْ ظُروفٌ لاَ كَهُوَّ فَدَيْنَهُ
وَاليَوْم هَاهِي المشْكلاَتُ تراكمت *** لا حَلَّ إن لم يَاتها أواتينهُ
فَبلادُنَا بالخير مَا حَليتْ به *** فهْو الجلاَء لقلبٍ أُلبـِسَ رَينَهُ
كان المرابط محمد سالم ولد عدود يدرس أحد طلبته، فسأله الطالب عن أمر متعلق بأحوال النفوس وتزكيتها، فالتفت إليه محمد سالم قائلا: إن كنت تريد رأيي، فعليك بالمرابط محنض بابه، فهو أدرى مني بما سألت عنه.
وفي المرابط يقول المرابط محمد سالم ولد عدود:
يقولون مجذوبٌ ولم يـك جذبُه *** سوى أن سيُحيِي سنةَ الشيخ جَدِّه
فيدرك مَا يُسْطَاعُ منها بجِدِّهِ *** ويــــدركُ مــا لاَ يُستـطَاعُ بــــجَدِّهِ
فيغبطُه من كَان يـَغْمِطُ غَرسَه *** إذَا ما دنا مــنه الجَنَى يومَ جَـــدِّهِ
إن من اتخذ إلى ربه مآبا فالسبيل سالك إلى حضرة الرشد، ومورد التسديد والإمداد ومصدر التأييد والإرفاد... وما أظن من صُدَّ عن الكروع في تلك الحياض إلا له حظ من الغبن معلوم، وقِطٌّ من سوء الطالع في أزل العلم مرسوم، نسأل الله التوفيق والثبات.
مَن طلبته مطالبُ التوفيق وأوصلته مرادات الاجتباء إلى حضرة المرابط سيجد رجلا دالا على الله، اختط منهاجه بقويم العلم ومستقيم التربية، على جادة الشريعة المحمدية.
إن من ملامح اغتراب المرابط في دنيا هذا الزمان أنه لا يريد مريدا، ولا يبحث عن تلميذ، ولا يدعو الناس إليه، ولا يرى لنفسه منقبةً يستحقُّ بها الذكر بين أهل العلم والدين، ولا يرى جدَّهُ الموافقَ له في الإسم إلاَّ رجلا له ملكة في خصُوص علم الفقه، قد حَصَلَتْ له شُهرةٌ بتولِّيه لمنصبٍ ليس اسمُهُ مُطابقاً لِمُسمَّاهُ، هذا ما يَراهُ المرابطُ في نفسِه وفيِ جَدِّه تارِكاً لغَيْره ما يَراه فيهما، وفي غَيرِهمَا. والمرابط اليوم إنما يرشد مريضا أو ينبه راغبا في معرفة حقيقة الدعوة التي بَلَّغها العلماءُ عن مَّوروثِهم، وطمسَت غربةُ الدين حقيقتَها، وقد وجد فتيةً رغبوا في معرفة تلك الحقيقة فبيَّنها لهم.
ولا أراك أيها المنصف ترى أولئك الفتية إلا استيقنت صدق ما قلناه، فلن يخبرك عنهم إن لقيتهم سوى أنوار إيمانهم.
يقوم منهج تزكية النفوس عند المرابط على ترسيخ الإيمان في صدور الأصحاب، وتدريسهم العلمَ الشرعيَّ، والصِّلاَتُ منبتة في علاقة المرابط بتلامذته مع غير التربية والتعليم، فلا هديةَ ماديةً، ولا مظاهرَ تؤول إلى تلك المناحي، فالطريق عند المرابط واضح المعالم بيِّن المراسم، فحقيقته أن العلم مطلوب للعمل به، والعمل لا يكون صحيحا نافعا إلا بعد إيمان حقيقي، خاصة في هذا الزمان الذي صارت فيه الفتن كقطَع الليل المظلم، وقد نَقَلَ في بعض ما كتبه عن بعض العلماء ما نصه: "ولا يخفى أنَّ التزامَ الدِّين في حَياةٍ تكثرُ فيها المُغْرِيَاتُ وتطْغَى فيهَا الشَّهَوات، وَتتعَدَّدُ فيهَا المِحَنُ، وتتجدد فيها الفِتن كالحياة التي نحياها في هذا العصر يحتاج إلى إيمان يملأ جوانح النفس وينبع من أعماق القلب، وإلى معرفة بمكايد الشيطان ومكامن تسويلاته التي لا ينتبه لها إلا عباد الله المخلصون الذين طهر ربهم سرائرهم ونور بصائرهم وجعلهم أدلاَّء طريق السعادة المميِّزين للعبادة عن العادة.
وليس الإيمان مجرد معرفة ذهنية بعقيدة المومنين، وليس الإيمان مجرد إعلان الإنسان بلسانه أنه مؤمن، وليس الإيمان مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر يقوم بها المؤمنون، وإنما الإيمان معرفة جازمة تبلغ أغوار النفس، وتحيط بجوانبها ويصحبها إذعان قلبي وانقياد إرادي يتمثل في الخضوع والطاعة والتَّعْظِيم معَ الرضَا والتسليم، ولا بد أن تتبع تلك المعرفة وهذا الإذعان حرارة وجدانية تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة والالتزام بمبادئها الخُلُقية والسلوكية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس فبين المعرفة المجردة والإيمان فرق وكذلك بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة والتي تقوم بوظيفة الإيمان، فالإنسان قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محس بآلامهما، وقد يفهم معنى الحب والشوق وليس من أهلهما، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره، ويقف على دقائق صنعه، ولكنه لا يتذوقه ولا يتملك قلبه الإعجاب به، وقد يعرف لرجل فضل عقل أو أدب أو سياسة ولا يشعر نحوه بعاطفة ولاء، بل يكاد يغص فؤاده بهذه الفضائل حقدا وحسدا، ويكاد ينكر قلبه ما تراه عيناه، فهذه كلها ضروب من المعرفة يهديها إلينا الحس أو الحدس أو الفكر أو البديهة، فتلاحظها النفس وكأنها غريبة عنها، أو تمر بها عابرة فتمسها مسا جانبيا لا يبلغ إلى قرارتها أو تختزنها وتدخرها ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها.
الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إلى قرارة القلب فيجعلها للنفس ريا وغذاء، يدخل في كيانها ويصبح عنصرا من عناصر حياتها، فإذا كان موضوع الإيمان الحقيقة الكبرى، والمثل الأعلى فهنالك تتحول الفكرة قوة دافعة فعالة لا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به، أو تبلغ هدفها ومطلوبها وأكبر مطلوب للمؤمن رضوان الله، ولا ينال إلا بطاعته وتعظيمه والخضوع لحكمه وذلك يحتاج إلى جهاد طويل شاق ضد كل ما يزاحم ذلك من عقيدة وتربية وأخلاق وأغراض وأهواء، وكل ما ينافس أُلوهية الله من آلهة في الأنفس والآفاق، وهذا الجهاد مستمر ماض إلى يوم القيامة وله أنواع وأشكال لا ياتي عليها الحصر، ومن مقتضيات هذا الجهاد أن يكون الإنسان عارفا بالإسلام الذي يجاهد لأجله ليَلاَّ تخدعه المظاهر وتغره الألوان، ففي صدر الإسلام كانت طباع الناس وعقولهم تتأثر به وتتغير من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون كما تتأثر طبيعة الإنسان والنبات في فصل الربيع، وكان أهل الأرض يدنون رويدا رويدا إلى الإسلام ولا يشعرون كما لا يشعرون بحركة الأرض التي تجْري بهم ودورانها حول الشمس.
ونَقَل عن بعض العلماء في بيان فضائل سيد الأولين والآخرين ما نصه: "اعلَمْ أنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ قَدْ خَصَّ نَبينا صلَّى اللهُ عليه وَسلَّم بأنواع من الفَضائِل لِخُصُوصِيَّةٍ في ذاتِه بهَا ارَتفَعَ فوق المرَاتِبِ الكمَاليَّة بشَرِيّةً كانت أَو ملكيَّةً، فقَد تحقَّقَ كَشفًا وَثَبت سَمعًا أنَّ أَوَّلَ ما خَلقَهُ اللهُ عز وجلَّ نُورُهُ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، ومِن نُوره خَلَقَ كلَّ شَيْء، وإذا كان نُورُهُ أوَّلَ ما خلقه اللهُ تعالى كان هُو أوَّلَ من تَلقَّى مِن الحَضرَةِ الإِلهيَّةِ، بَل لاَّ مُتَلَقِّيَ منْهَا في الحقِيقَةِ إلاَّ هُوَ، فَلَهُ صلى الله علَيهِ وسَلم حَيْثِيَّتَان إحدَاهُما: حيثيَّةٌ إبتِدائيَّةٌ وَبِها حصَلَ لَهُ الكمَالُ الاخْتِصَاصيُّ المتَوحِّدُ، والأخرَى: حَيْثيَّةٌ انتهائيَّةٌ وَبهَا حَصَلَ لَه الكَمالُ المتَكَثِّرُ الذِي انقَسَم علَى الحَقَائِق النَّبَويَّةِ، وَلَه مِنْهَا الحظُّ الأوْفَرُ الجَامِعُ بيْنَ كمَالاتِهم أجْمعِين، فَمِن حَيْثُ الكَمَالُ الاختصاصِيُّ كَانَ رَسولاً لِّجميع العَالمين، وَمِنْ حَيثُ الكَمالُ الاشترَاكيُّ كانَ رَسُولاً لِّلإنسِ والجنِّ، قال علَيه الصلاة والسلام: "بُعِثتُ إلى الأحمَر والأسْود" وقالَ: "كنتُ نبيًّا وآدمُ بينَ الرُّوح والجسَدِ" وَهذا الحَديثُ ثابتٌ بلفظه أو بمعناه، فَليْسَ قولُ بعضِ العُلماءِ (لاَ أصلَ لهُ) بمُسَلَّمٍ، وليْس المرادُ بهِ أنَّ نُبُوءَتهُ كانتْ ثابتةً في علم اللهِ تعالىَ، كما قيلَ لأِنَّ ذلِكَ غَيْر مُختصٍّ به، بَل المُراد أنَّ الله خَلَق رُوحَهُ قبْلَ الأرواحِ، وَخَلَعَ عَليْهَا وَصفَ النُّبوءَة، فقَام بِهَا قَبْل خَلقِ جسَد آدم ونَفْخِ الرُّوح فيه.
فنَبيُّنا صلَّى الله عليهِ وسلَّم وارثٌ فِي حَضرةِ الْفرْقِ والوُجُودِ الجَسَديِّ ومَورُوثٌ فيِ حَضرة الْجَمْع والوُجود الرُّوحانيِّ، وَرُوحُهُ يَعسوبُ الأروَاح كلِّهَا، فهوَ مُمدٌّ لكلِّ نَبيٍّ وَولِيٍّ سَابقٍ علَى ظهوره حَالَ كَونهِ فيِ عالم الغَيب، ومُمِدٌّ لِكُلِّ وليٍّ لاَّحق حالَ كوْنهِ فيِ عَالَم الشَّهادة، وحَالَ كَونِه مُنتَقِلاً إلىَ عَالَم البَرزخِ، والدار الآخرة، فإنَّ أَنوارَ رسَالتِهِ غَيرُ مُنقَطِعةٍ عَن أَهلِ العَالَمِ الأَرضِيِّ منَ المُتقدِّمينَ وَالمُتأخِّرينَ فكُل نبيٍّ تقدَّم علَى زَمان ظهُوره فهُو نَائِبٌ عنهُ، وكذلك كلُّ وليٍّ تأَخرَ عَن زَمان ظُهوره في عَالم الشَّهَادَة، ولهَذَا قال صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "علماء أمتِي كأنبياء بنِي إسرَائيلَ" أي في النيَابَة عنهُ، ولاَ قائلَ بتسَاوي مَرْتبة الأنبيَاءِ ومَرتبة الأَولياءِ، وقد كشفَ عن ذلك الشيخُ أبو يزيد البسْطامي بقوله: "حَظ الأولِياءِ مِن عُلُومِ الأنبيَاءِ كَرُشاحةِ رشحَتْ مِن زِقٍّ مُّلئَ عَسَلاً، ومَا انطوَى عليهِ ذَلكَ الزِّقُّ هو حَظُّ الأنبيَاءِ منَ العُلُومِ"
وبالجُملةِ فنِعْمتَانِ ما خلاَ حادثٌ عَنهُمَا ولاَ بدَّ لكل الموجُودَات مِنْهما، نِعمَةُ الإِيجادِ وَنعمةُ الإمدَادِ، ونَبِيُّنا صلَّى اللهُ علَيه وَسلَّم هوَ الوَاسِطةُ فيهمَا إذ لولاَ سَبْقيَّةُ وُجُوده مَا وُجِدَ مَوجودٌ ولولاَ سَريَان نُورهِ في ضَمائِر الكَونِ لتَهدَّمت دعَائمُهُ" اهـ.
إن البدء من حيث البداية، ومنتهى القصة بدايتُها... والعلم لمن جدَّ في طلبه، والتقوى لمن جاهد النفس عليها، والصلاح حظ من وُهبه، والطب لمن تعلمه وحذقه، والقبول نصيب من وضع له... لكن ما وقر في قلب المرابط، قد تبدت على المحيا أماراته، وما هو إلا من صافي صريح لدني المواهب، ومنتقى المكاسب.
تمنيت لو كان الزمان مثل ما كان ذات اتساعه، وفي الإمكان أن نزور لمرابط متى ما شئنا، لنسأل، وننظر، ونستشفي...
أما اليوم، فوقت الزيارة موقوف على ما بين العصر إلى صلاة المغرب فقط، فلا يسمح الوقت بغير ذلك.
قبل حوالي عشرين سنة كنت - على عجري وبجري وصغري - في محل من الخدمة لو واصلته لكنت كائنا آخر، لكن طائفا من العوارض صَدَّني عن تحمُّل تكليفاتٍ لو كُلِّفَ بها ذو قلب رشيدٍ لما زايل الدار، ولما برح المنازل، ولما استبدل تنائيه بتدانيه.
قادتني أعنة تلكَ المرحلة إلى ظاهر من الحياة، فكنت أحسبني أحسن صنعا، وتماديت من دون شائبة في النية، أو اعتراض في الطوية، لكني كنت راغبا عن الإياب، فارغ العياب، فما وافقت عذولا يجدُّ في العتاب لعلي أتذكر وتنفعني الذكرى وأرجع وأزكى.
على حين غرة، أُمرت الزاوية بإنقلابها، والحال بتحولها، فبدأت بداية رحلة البداية لتنتهي يوما من الأيام عند بدايتها!! وعدت من حيث بدأت، ولو لم تكن جواذب التعلق في بواطن صدق الطلب لما كان العود إلى حيث كان التحقق.
في غمرات مباحث البحث، أضاء برق إذنٍ فارتقينا سلم مطالب كمال الغايات، وما زالت أمداد الإعانة تتوسط هذا الأعرج الكسير، والحمد لله رب العالمين. فلا المعاصرة تصدنا، ولا القرب يردنا، ولا عذل مرضى القلوب يحدنا، ولا أي حجب تمنعنا...
لو تركت الأزمة ملقاة للبنان، وما ألجمت، وتذكرت واستذكرت واستفضت.... لما كان ابن السبكي في طبقاته بأوفى ذماما لوالده مني بمرابطي!!
ورب مختصر في اللفظ فكرته *** تحوم حول معان غير مختصره