يختلف الموريتانيون طرائق قِدَدًا حول أسباب تخلف البلد رغم توافر اليُسْرَيْنِ: ثراءُ و تنوع المصادر الطبيعية التي يجود بها باطن هذه الأرض الشاسعة و قلة عدد السكان!. فمنهم جماعة تري أن التخلف عائد إلي الفساد الأكبر الذي طبع العشريات الماضية و الذي أنهك الدولة و فتك بالقيم و كاد أن يهلك الشعب و صَيًرَ ثلة قليلة من رموز الإفساد تكاد تكون معروفة بأسمائها و وُسُومِهَا ملوكا و عَلًمَهُمْ الجلوس علي الحرير!!.
و منهم فئة قليلة ترجع التخلف إلي حداثة عمر الدولة الموريتانية مبرزة أن فترة العقود الخمسة التالية علي الاستقلال الوطني قصيرة جدا وغير كافية لتحقيق التراكم المطلوب "للإقلاع" التنموي الشامل مضيفة أنه من المعروف تواترا أن وُرُودَ التنمية محفوفة بالأشواك كما أن التنمية لا تُنَالُ بالاضطراب والعَجَلَةِ و إنما تنجز بالهَدَأَةِ و التُؤَدَةِ!.
فيما تري طائفة عريضة من الشعب الموريتاني و شركائه التنمويين الناصحين و الصادقين أن تخلف البلد لا يرجع إلي تراكم تَغَوُلِ الفساد و سوء التسيير – و إن كان سيلهما قد بلغ الزبي- و لا إلي حداثة عمر الدولة و نقص التراكم القاعدي المطلوب للإقلاع التنموي، ذلك أن دولا عديدة أحدث من دولتنا عمرا و أعتي فسادً و إفسادً قد تحررت من التخلف منها ما استطاعت حجز مكان ضمن مصاف الدول المتقدمة و منها ما انتزعت بطاقة انتساب إلي نادي الدول الصاعدة!!.
وتجزم هذه الطائفة أن السبب المباشر لتخلف البلد هو نكبة "البيات النخبوي"HIBERNATION" التي أصابت "المَقْتَل التنموي" من الدولة والمجتمع منذ أربعة عقود علي الأقل ذلك أن التنمية تكون بالمصادر البشرية الكفوءة و الناصحة و "النخب الخالصة" أو لا تكون!!.
و تعني نكبة البيات النخبوي ظاهرة جُنُوحِ و لُجُوءِ "النُخْبَةِ الخَالِصَةِ" إلي الجمود و الاستقالة التامة من الشأن العام كردة فعل علي التمييع و"معاقبة الكفاءة" و تَدْلِيعِ و تَغْنِيجِ و إيثار الأنظمة الاستثنائية و شبه الاستثنائية "للنخب المغشوشة" ناقصة العقل و التربية و التعليم و الدين!!.
و يمكن تقسيم البيات النخبوي المسؤول عن تخلف البلد إلي ثلاثة أقسام أولاها "البيات النخبوي الخارجي" و يقصد به لجوء بعض النخب الموريتانية عالية الكفاءة و القوة و الأمانة إلي الهجرة عن البلد إلي الخارج مفضلة هَوَانَ الغُرْبَةِ علي "غُرْبَةِ الوطن"!! و لسان حالها أن بلدا تُعْطَي القوسُ فيه لغير بَارِيهَا لا يمكن أن يَكِلَ إليه بَالِغٌ راشدٌ مستقبله و مستقبل "من يَلُونَهُ"!.
أما الصنف الثاني من البيات النخبوي فهو "البيات النخبوي الداخلي" و يرمز إلي التحول المفاجئ لبعض النخب الإدارية و الفنية و الجامعية المجمع علي كفاءتها و حسن سيرتها و نظافة تجربتها من القطاع العام إلي القطاع الخاص.
و تُرَجِحُ تلك النخب بذلك التحول فُجَاءَةَ تغيير المسار المهني و اضطراب أحوال القطاع الخاص علي مواصلة العطاء و التضحية في مناخ "انقلاب القيم" و "الانْفِلاَتِ المِهَنِي" المتمثل في قابلية الإتباع و الإخضاع و الإذعان الإداري و المهني لصالح النخب المغشوشة الأقل علما و الأخفض درجة و الأدني تجربة و "الأَخَفُ خُلُقًا" و الأضعف ظهيرا!!
و الصنف الثالث هو "البَيَاتُ النُخْبَوِيُ المُحَاذَاتِيُ" و بمقتضاه تمارس بعض النخب مهاما إدارية و فنية و سياسية من مختلف الدرجات و المستويات مُحَاذَاةً لا اقْتِدَاءً بنية الخط التحريري التغييري العام فتؤدي مهامها تلك من دون اتخاذ أية مبادرة و لا إبداء رأي و لا إسداء نصح و لا إنكار منكر و لا تنبيه علي خطر داهم نَاكِسَةً رؤوسها و مُكبة علي وجوهها طمعا في الأمان من مكر و"إخبار" و بطش النخب المغشوشة.
و إذ أقاسم التأسيس و التحليل و الرأي الطائفة القائلة بأن السبب الرئيس لتخلف بلدنا راجع إلي البيات النخبوي بأصنافه الثلاثة فإني أحسب أن التنمية العاجلة و العادلة لن تتحقق إلا "بيقظة نخبوية" عاجلة صادقة تخرج النخب الوطنية الخالصة من "بياتها الأربعيني" الطويل ذلكم أنه من المتفق عليه أن المصادر البشرية "العالمة" و القادرة و الناصحة هي وقود وضمان التنمية.
وأسجل أن العديد من الإجراءات المتخذة خلال السنوات الأخيرة كالحرب علي المفسدين و الإفساديين و محاولات إشراك و إقحام الشباب في الِشأن العام و تمهين بعض الأسلاك الوظيفية كالإداريين المدنيين و أعوانهم و توقيف فوضي اكتتاب العمال غير الدائمين و احترام مبدإ المسابقة كمنفذ واحد و وحيد لولوج الوظيفة العمومية العليا كلها خطوات جد ضرورية لكنها غير كافية لاسترجاع التصالح المفقود بين "النخبة الخالصة" و إدارة الشأن العام!!!.
المختار ولد داهي،سفير سابق