صدرحديثا عن دار النشر "جسور "كتاب جديد عن : روايات أصول المجتمعات البيظانية. دراسة فى ماضي غرب الصحراء" لبيير بونت وترجمة الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب , الكتاب فى 920 صفحة وهو يعلن عن إسهام بيير بونت فى مجال الإنتربولوجيا التاريخية وسيصدر بعد أسابيع باللغة الفرنسية وذلك صدوره مؤخرا باللغة العربية .
ويعد المؤلف: بيير بونت (1942-2013): من أبرز علماء الإجتماع الفرنسيين وحاصل على دكتورا فى علم الاجتماع من المدرسة العليا للدراسات، وقام منذ 1960 بأبحاث على الطوارق وحول موريتانيا. وكان مديرا مبرزا للبحث فى المركز الوطني للبحث العلمي CNRS وباحثا فى مختبر الأنتروبولوجيا الاجتماعية فى الكولاج دي فرانس. شارك في العديد من الهيئات العلمية في فرنسا وفي العالم. وقد حرر مجموعة "انتروبولوجيا" دار النشر Kimé. وقد نظم أو ساهم في تنظيم العديد من الندوات وقدم عشرات المحاضرات عبر العالم.ترك إنتاجا علميا غزيرا يتضمن 400 عنوانا: 26 كتابا (كتبها بمفرده أو بالتعاون مع غيره) والعديد من فصول الكتب والمقالات في المجلات المتخصصة، والتقارير... إلخ. ومن مؤلفاته، إمارة آدرار2008 ترجمة الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب 2012 كتاب جبل الحديد كرتالا 2001، والساقية الحمراء على ملتقى الطرق 2012 وله مؤلفات حول موضوعات عدة تتعلق بالعالم العربي والمجتمعات القبلية: تحالف الزواج، النظام النسبي، أوجه القرابة والسياسة، الطقوس القربانية. الأدب الشفهي إلخ.. وهو مؤلف معجم الإتنولوجيا والأنتروبولوجيا المترجم إلى عدة لغات، ومنها العربية.
أما مترجم الدكتور : محمد بن بوعليبة بن الغراب يعد من أبرز الباحثين والكتاب المنشغلين بترجمة النصوص التاريخية وفي مجال علم الإجتماع وحاصل على دكتوراه فى الأدب المقارن من جامعة الصوربون 1989، ومنذ هذا التاريخ يشتغل أستاذا للأدب المقارن ونظريات الترجمة بأقسام الآداب بجامعة انواكشوط. رئيس جمعية النقد الأدبي، ونائب رئيس اتحاد الكتاب باللغة الفرنسيــة. عمل سنوات خبيرا فى الترجمة لدى مؤسسة الأمير محمد بن راشد آل مكتوم برنامج "ترجم". له مؤلفات عديدة منها: النقد الغربي والنقد العربي نصوص متقاطعة باللغة الفرنسية والعربية، و محاضرات في الأدب والنقد، والقواعد النحوية تحقيقا، وأصدرت له دار جسور ترجمات لكتب منها: المستكشف منغو بارك، و رحلات المستكشفين ماج ودلز وفنسان، وكتاب إمارة آدرار لبيير بونت 2012م، و موريتانيا 1900 ــ 1975 لفرانسيس دي شاسى 2013، والقبائل والإثنيات لفليب مرشزين 2014، وسيصدر له من تأليفه: إمارات أولاد أمبارك، ورسالة النصح لمحمد يحيى الولاتي تحقيقا، و الشعر والموسيقى والأدب فى موريتانيا بالفرنسية، ومنن العلي الكبير على فوائد أحمد الصغير التشيتي تحقيقا، الحسوة البيسانية لمحمد صالح بن عبد الوهاب تحقيقا، وله بحوث في أكثر من مجلة دولية وعربية. عمل مع الباحث الراحل بيير بونت لكتابة تاريخ بلاد الصحراء معتمدا علي مصادر التاريخ التي طالما خرجت عن دائرة اهتمام المشتغلين بكتابة التاريخ كالنوازل والأحكام الفقهية، ويقوم ببحوث فى التاريخ الثقافي كمصدر مكمل للتاريخ الحدثي.
ومساهمة فى إطلاع القراء على هذا البحث النادر ننشر تقديم هذا الكتاب بقلم مترجمه :
تقديم كتاب روايات أصول المجتمعات البيظانية.
دراسة فى ماضي غرب الصحراء
ترجمة الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب
إن هذا الصك الموجود على الغلاف هو فتوى كتبها محمد صالح ولد عبد الوهاب الناصري إلى زميله وخليله حمى الله بن محمد ولد أحماه الله بن الشواف المسلمي الملقب أمبالة ردا على سؤال له حول نسب أسرة كانت قد اشتوطنت قرية تيشيت حرسها الله فترة من الزمن.
هذا العمل يتنزل ضمن مشروع للبحث فى مجلات متعددة تاريخ أنتروبولوجيا واتنولوجيا جمعني مع عالم الاجتماع بيير بونت.
منذ سنة 2003 بدأنا نفكر أنا وبيير بونت فى مشروع كتابة تاريخ موريتانيا وهو المشروع الذي حمل عنوان "دخول الإسلام والتعريب إلى غرب الصحراء" كان ذلك يوم التقينا لإعداد دراسة حول القيم الثقافية الموريتانية بالتعاون مع الباحث الدكتور يحيى ولد البراء لفائدة مشروع التراث والتي ترجمتها عن الفرنسية فور إنجازها. قبل ذلك كنت قرأت أطروحة بيير بونت الضخمة حول إمارة آدرار التي تجاوزت صفحاتها ما يناهز ألفين وثلاثمائة وكانت قد نوقشت سنة 1998، يومها تمنيت لو يستطيع القاريء الموريتاني والعربي أن يقرأها بلغته. وأثناء ذلك اللقاء بينت لبيير ــ و كانت الفكرة تخامره ــ ضرورة نقل هذا الكم الهائل من المعلومات إلى القراء فى شكل كتب ومن ثم ترجمتها إلى اللغة العربية. و بعد سنوات أي خلال سنة 2008أطل بونت بأول مستخرج من الأطروحة وهو كتابه إمارة آدرار لدى كارتالا وقد بدأتُ بترجمته بعيد صدوره بقليل لينشر سنة 2012 باللغة العربية لدى دار النشر جسور التي أنشأتها تلك السنوات، واسم "جسور" هو استعارة عن جسور نمدها بغية تسهيل التواصل عبر الترجمة بين معارف وثقافات الأمم من مختلف أرجاء الأرض. ونحن بإنشائها إنما نريد أن نسهم فى إغناء حضارة عربية كانت سباقة إلى نقل روائع الأدب والفكر إلي أبنائها. ولا ننسى أنه فى الجانب الآخر من بحر الحضارات قد سخر العالم الألماني جته كل طاقته لنقل روائع الأدب الكلاسيكي الأروبي والشرقي إلى القارئ الألماني فقد كتب ذات مرة إلى كارلايل سنة 1827 قائلا له: " مهما يكن ما يقال عن الترجمة من نواقص لكنها تبقى مع ذلك إحدى أهم وأكثر المؤسسات احتراما عبر العالم. ويقول بوشكين فى عزلته فى روسيا بأن المترجم هو رائد الفكر الإنساني. واليوم أكثر من أي وقت مضى فى تاريخ البشرية يمكن الكلام عن ترجمة أمينة لأنها أصبحت تستدعى علوم اللسان سواء العلوم المتعلقة باللغة التي يترجم منها أو اللغة التي يترجم إليها. ولقد قلصت تلك العلوم علينا نحن معشر المترجمين المسافات بين الألعاب اللغوية موضوع الترجمة كما سهلت عملية تغطية المساحات المعنوية للمصطلحات التي لم تكن تغطيها مصطلحات اللغة المترجم إليها. لقد كان استدعاء علوم اللسان حاضرا لدينا فى كل عملية للترجمة.
خلال سنوات 2003 إلى 2008 انصب تفكيرنا أنا وبيير حول مشروع كتابة تاريخ دخول الإسلام والتعريب فى بلاد غرب الصحراء وتخللتها إقامات لي أنا بمختلف المدن التاريخية بحثا عن المخطوطات، بيد أن انطلاقة هذا المشروع الفعلية كانت فى شتاء 2008، حيث تم الاتفاق بين جامعة انوكشوط والتعاون الفرنسي على مساعدة لكلا الأستاذين تمثلت فى التكفل بتكاليف الإقامة والنقل فى كل من فرنسا وموريتانيا بعد أن ثمنت الجهتان المشروع ليتم التعاون معهما لإنجازه، وهو ما حصل فعلا، غير أنه لولا إصرار وتسهيل مثقف فرنسي كبير هو سيلفيان فوركاسي Sylvain FOURCASSIE والذي كان قد شغل فى تلك الفترة منصب المستشار الثقافي وكان يتقن العربية لما كان للمشروع أن يتقدم. وفى هذا الصدد أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذة هند بنت عينينه وزيرة الثقافة الموريتانية على عنايتها وسهرها لكي يخرج هذا الكتاب بالشكل المطلوب. ولا يسعني فى هذا الطور من المشروع إلا أن أشكر القائمين على دار كارتلا Karthala وهي التي سمحت لي بترجمة هذه السلسلة من الكتب الصادرة عنها ضمن هذا المشروع. وأخص بالذكر روبير آجنو Robert AGENEAU وهو مديرها السابق وجميع طاقم كرتلا Karthala، وشكري للمؤلفين مرشزينه ودي شاسى اللذين لم يترددا فى الموافقة على إنجاز ترجمة كتابيهما.
كان هاجسنا من خلال المشروع وخاصة بونت هو التعرف أكثر على مناطق الشرق (من تكانت باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي) الموريتاني والحوض ــ لأن موضوع تلك المناطق غائب فى الدراسات الأكادمية ــ والتعرف على تاريخ التشكيلات السياسية هنالك. ذلك أن بحوث بيير تركزت بالأساس خلال الأربعين سنة على المناطق الشمالية وخاصة آدرار. وقد سمح له هذا المشروع البحثي بالتنقل فى مناطق من غرب الصحراء التي لم يزرها واكتساب معلومات جديدة حول بعض المسائل التي كان يحس بنقص فى المعلومات حولها وهو نقص كثيرا ما اعترف به تواضعا منه فى هذا الكتاب وغيره. كانت فترة المشروع مهمة لبيير بونت بوصفه أنتروبولوجيا إذ عمل خلالها على زيادة تشذيب تجربته الميدانية تلك التجربة الميدانية التي تعطي للعمل الأنتروبولوجي معناه. كان تساؤلنا ماذا عن طبيعة نظام أولاد أمبارك وأولاد داود أعروك (بكاف معقودة) وأولاد بلة وأولاد الناصر، واتحادات مثل أهل سيدي محمود. وكان الكم الهائل من المخطوطات (أحكام ونوازل ومراسلات وعقود إلخ..) التي حصلت عليها خلال زياراتي وإقاماتي بالمدن التاريخية خلال التسعينات وبداية الألفية يعد من أهم المصادر حول تلك المناطق وتلك التشكيلات السياسية وحول تاريخها الثقافي وهي وثائق لم تستغل بعد، وهي مصادر أكثر مضاء فى نظر بيير بونت كعالم متمرس من علماء الاجتماع، إذ كان يتحفظ على المعلومات الواردة فى الروايات الشفهية التي جاء بها الإداريون الفرنسيون مثل بولى وبول مارتي وغيرهم نظرا لكونها جمعت من لدن مخبرين محليين مغرضين وصاغها إداريون كانت لهم رؤيتهم السياسية الخاصة التي عارضها بيير طيلة حياته.
كان هاجسنا كذلك هو الاطلاع على تاريخ تلك المناطق الثقافي وطبيعة نظمها السياسية هل هي إمارات؟ كما هو الحال بالنسبة لآدرار أم مشيخات أم تشكيلات من نمط آخر؟ إذ لا يمكن الحكم على طبيعة تلك النظم إلا بعد التعرف عليها وكان بيير قد أعد قبل ذلك أطروحة حول مجتمع الطوارق المجاورين لمناطق الشرق.
وكان يعتبر أن هذا المخزون ــ بعد أن أطلعته على فحواه ــ يشكل أهم مصدر من مصادر تاريخ هذا البلد وقد تأكد له عبره صحة كل ما ذهب إليه من آراء بناها على استقصاءاته التي قام بها على الرواية الشفهية وعلى ما أتيح له من مكتوب وما حصل عليه حول مختلف المواضيع التي تطرق لها مثل أنواع الضرائب التي عالجها فى هذا الكتاب وفى غيره وكيفية جبايتها ومن هم المستفيدون منها وهو الذي قرأ ابن خلدون الذي قدم آراء حول قيام ونشوء الدول وقضايا الخراج وأنواعه. كان تحقيق كتاب الحسوة لمحمد صالح بن عبد الوهاب بالاستناد على آلاف الوثائق التي كتبت حول هذه التشكيلات السياسية فى الحوض وتكانت والتي كتبت فى بعض الأحيان قبل تاريخ الحسوة البيسانية وبعدها والتي تشكل المصدر الوحيد لتكملة المعومات الواردة فيها، ممثل الوثيقة التي جعلت غلافا لهذا الكتاب، هو أبعد أثرا فى كتابة تاريخ تلك الفضاءات البيظانية. كان تحقيقها بالنسبة لنا من الأولويات لأنه عمل يسترسل فيه صاحبه ليتحدث عن أنساب المجموعات المعقلية الحسانية التي استوطنت مناطق الحوض منذ قرون وتاريخ أنظمتها السياسية، ولا زلت منكبا على ذلك التحقيق ولكن اعترضته وفاة بيير فانشغت منذ سنتين بترجمة هذا الكتاب الذي بين أيدينا روايات الأصول. كما كان علي ضمن المشروع إنجاز كتب حول النظم السياسية فى الحوض بعد التأمل فى طبيعتها؛ وبعد قراءة متأنية لنص الحسوة وقراءة أعمال بيير بونت التي استفدت منها، إضافة إلى المعلومات الغزيرة، طرائق ومناهج لتحليل الظواهر. وكلما تقدمت فى التحقيق ظهرت معلومات تقتضي مني استقصاءات جديدة. وبالفعل فقد أعددت كتابا حول إمارات أولاد أمبارك ينتظر الطبع، وأعد كتبا أخرى حول تلك التشكيلات التي لم تدرس بعد مثل نظام أولاد داود ونظام أولاد الناصر وأولاد داود أمحمد وعلى الخصوص أولاد بله. وعن التاريخ الثقافي قمت بتحقيق كتاب منن العلي الكبير على فوائد أحمد الصغير لمحمد ولد أحمد الصغير بالتعاون مع الأستاذ محمد المختار ولد أمبالة وهو كتاب نفيس جمع فيه صاحبه كثيرا من مسائل الفقه واختلاف الفقهاء حول بعضها ويضيء جانبا من الحياة الثقافية فى المناطق الشرقية وسيصدر قريبا بحول الله. كان هذا الجزء من المشروع يقتضي أن أترجم بعض النصوص الأساسية التي كتبها المستكشفون والباحثون الفرنسيون حول تاريخ موريتانيا وهي مصادر أصبحت عالمية عن هذا البلد وقد قمت بترجمة بعضها وصدرت نصوص المستكشفين سنة 2012 فى مجلدين ثم كتاب إمارة آدرار لبيير بونت Karthala2012 ومنها كتاب موريتانيا 1900-1975 لفرانسيس دي شاسيه 2013، وكتاب القبائل والإثنيات والسلطة فى موريتانيا لفليب مرشزنهKarthala يناير سنة 2014 وهي نصوص بدأت بالفعل ترجمتها منذ بداية المشروع سنة 2008..
أما الجانب الثاني من البحث فهو إصدار كتب منها كتاب جامع من طرف بيير بونت حول تاريخ وأسلمة وتعريب غرب الصحراء وقد قرر بعدما اقترح علي المشروع إعادة النظر من جديد فى الأطروحة الضخمة وفى الجزء المتعلق منها بما يسميه الأساطير الصحراوية التي نسجت بعد دخول الإسلام فقام بجمع التقاليد المروية والمكتوبة المتعلقة بصحراء البيظان ولكن أيضا بعالم الطوارق ودول السودان فأعد قراءة جديدة حول روايات الأصول التي تنتظم حول الأسلمة والتي تحاول جعلها مبررا لمضمونات تلك الأصول وخاصة تلك النصوص المتعلقة بالمرابطين. وهذه النصوص مختلفة حسب مدونيها وحسب تطور الشعوب المكونة للمجتمع البيظاني أسلمة وتعريبا منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم عبر دراسة نصوص كتبت فى هذا الموضوع. كان بيير قد بدأ إعداد مشروع هذا الكتاب فى مكتبتي بانوكشوط خلال زياراته العديدة عبر سنوات ونظرا لأهميته ولأني باشرت إعداده حيث كان يتحقق دوما من سلامة ما اعتمده من ترجمات عن العربية أخذها من المصادر الإنكليزية والفرنسية بالرجوع إلى أصولها العربية مستعينا بي، تلك المصادر العربية التي كانت جلها بحوزتي وهي التي ساعدتني فى ترجمة هذا الكتاب روايات الأصول والكتاب الذي نشر قبله إمارة آدرار، إذ لم أحتج إلى ترجمتها ثانية، وقد ناقشته فى معظم المواضيع التي تعرض لها كما استأنست بالمفاهيم التي وردت فيه. ونظرا لذلك كله وحاجة الباحثين الموريتانين قررت إذن ترجمة هذا الكتاب.
إنه كتاب مستخلص فى أساسه من الأطروحة انضافت إليه معلومات تم الحصول عليها خلال زيارات ميدانية آخرها زيارة منظقة تكماطين (بكاف معقودة) فى الجنوب الغربي من موريتانيا وكان ينوي تخصيص فصل من هذا الكتاب لها ولكن الموت عاجله قبل أن ينهيه فختم كتابه قبل وفاته بأسابيع وقد أوصى قبل وفاته بأيام وهو على سرير الموت بأن أسلم الكتاب لأني تعهدت له ضمن هذا المشروع الذي جمعني معه بترجمته إلى اللغة العربية وكانت رغبته فى حياته أن يصدر الكتاب باللغتين معا وفى نفس الوقت وأن يقرأ الموريتانيون أعماله بلغتهم. وبالفعل صدرت هذه النسخة العربية قبل النسخة الفرنسية تلك النسخة التي ستصدر بعد أسابيع من الآن لدى دار كارتلا Karthala
يعالج بيير بونت من خلال هذا الكتاب من بين أمور أخرى كثيرة معطيات عرضها من خلال أطروحته، ويقترح منهجا مستمدا من التحليل البنيوي للأساطير يعالج به روايات الأصول فى غرب الصحراء، هذه الروايات التي ظل تصنيفها ضمن الأدب الشفهي غير محدد (حكايات، أساطير ملاحم ساغا..إلخ). روايات الأصول هذه تتعلق بكل ما له علاقة بتشكل القبائل فى هذا المجتمع المتأسس على النمط القبلي كما تعالج تأسيس لكصور (بكاف معقودة) القديمة واللغات المتكلمة فيها والتيارات الدينية والمذهبية ودخول الطرق الصوفية. ويتساءل بيير بونت حول نمط تاريخانية هذه الروايات لأن بعضها يسهم فى إضفاء مشروعية الإسلام وأكثر من ذلك تعريب المجتمعات المحلية ذات الأصول المختلفة،وإشكالية أصول وديانات الشعوب التي استوطنت هذا الفضاء الصحراوي منذ القديم محللا نصوصا أنتجتها ساكنته أو نصوصا أنتجتها شعوب مجاورة كالطوارق والسودانيين. كما يطرح الكتاب إشكالية تاريخ صحراوي للمرابطين، إذ لم تحتفظ الذاكرة الصحراوية حسب رأي المؤلف إلا بدور أبي بكر بن عمر وربما بشخصية أخرى هي الإمام الحضرمي ودور هاتين الشخصيتين فى أسلمة بلاد الصحراء.
يثير الكتاب بعض التساؤلات حول واقع البلاد بعد مقتل أبي بكر بن عمر فى بداية سعيه لأسلمة البلاد كما يثير مستشهدا بنصوص ابن بطوطة 1352 ورسالة اللمتوني الموجهة إلى السيوطي خلال القرن الخامس عشر طبيعة هذه الأسلمة التي بقيت الشعوب بعدها تحتفظ بالنسب أمومي الخط (الانتساب إلى الأمهات) وغيرها من الممارسات التي كانت مثار اشمئزاز ابن بطوطة القادم من الشمال واستنكار اللمتوني. كما يتعرض الباحث لمماليك السودان وسيطرة تلك المماليك السودانية على فضاء غرب الصحراء بعد المرابطين وتأثر أهلها باللغات الزنجية حيث يبدو أن أهل المدن التاريخية كانوا يتكلمون بالآزير حتي بداية القرن الخامس عشر ولغة الآزير هي مزيج من اللغات الزنجية واللهجات البربرية التي كانت متكلمة حتي قدوم المعقل إلى هذه البلاد وظلت متكلمة إلى عهد قريب. كما يتحدث عن نفوذ للبرتغاليين، بدأ مع مطلع القرن الخامس عشر متزامنا مع قدوم المعقل. هذا النفوذ البرتغالي الذي تمثل فى نهب السكان من آزناكة (بكاف معقودة) ومحاولات السيطرة على طرق القوافل هو نفوذ سيتقلص إبان القرن الخامس عشر ليتمحور حول جزيرة آركين (بكاف معقودة).
ومن شأن خلاصات وملاحظات المؤلف فى هذا الكتاب أن تدفع بالبحث التاريخي حول الحقبة الفاصلة ما بين القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي والقرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي وهي الفترة التي شهدت بدايتها مرور المرابطين ونهايتها تواجد المعقليين بني حسان على هذه البلاد. إن هذه القرون الثلاثة لم تشهد نظام دولة فى الصحراء لأن المرابطين انجذبوا أكثر نحو الثروات الأندلسية والمغربية على حد تعبير بيير بونت. ورغم كل الإضاءات حولها لا تزال هذه الفترة التي تفصل بين هذين الحدثين تحتاج من الباحثين إلى الكثير من الاستقصاءات والتأمل. وعلى البحث أن يتجه إذن نحو جمع المادة التاريخية وقيام الحفريات الأركيولوجية لتكشف الحقائق ويزال الغموض المحيط بها.
كما يثير كاتب هذا الكتاب تواجد عرب المعقل حسان فى المغرب وفى غرب الصحراء وتأثيرهم وتأثرهم بالمجتمعات المحلية خلال القرون الخمسة الأخيرة الذي نجم عنه تشكل مجتمع البيظان بملامحه الحالية والذي خصص له الجزء الخامس من هذا الكتاب. وقد تناول موضوع تاريخ المعقل بعد قراءته لابن خلدون مما سمح له بالتعرف أكثر على مفاهيم العصبية والعمران. ويناقش الباحث دوافع قدومهم مبينا تلك الدوافع من وجهة نظر بعض الفقهاء المحليين الذين رأوا فى قدومهم هجرة وليس فتحا، وربما أنهم فى تقدمهم استولوا على البلاد وفرضوا مغارم جائرة كالمكوس والمغارم، ويناقش الباحث ما ذهب إليه بعض الباحثين من أمثال الباحث البريطاني نوريس فى كتابه الفتح العربي للصحراء. ويتحدث بيير بونت عن أسلمة ثانية أو إعادة أسلمة، وتعريب حصل فى الأنساب وقد تزامن كل ذلك مع قدوم المعقل،مما يطرح على الباحثين الوطنيين مسؤولية البحث مستقبلا وإثارة هذه المواضيع فى بحوثهم اللاحقة. كما عالج بونت موضوع الانتقال من النسب أمومي الخط أو ثنائي الخط إلى النسب العربي العصبي وموضوع الضرائب وكون المعقل كانوا يستفيدون من جبايتها فى الشمال وأنهم ربما تابعوا ذلك التقليد فى غرب الصحراء. تشير المراجع الأولى التي تقدم بعض المعلومات عن بلاد الصحراء إلى نماذج من ظاهرة الغصب سبقت قدوم المعقل بقرون، كما فى فتاوى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي (520هـ 1126م) الذي عاش في الفترة التي حكم فيها المرابطون الأندلس فقد سأله رضي الله عنه رجل مرابطي من ملثمي الصحراء عن مسالة غصب نزلت عندهم، ونص السؤال:جواب الفقيه الأجل ــ أدام الله توفيقه ــ فى قوم من قبائل شتى فى الصحراء يتغاصبون فيما بينهم، وليس لهم مال غير الماشية. وهذا الغصب المذكور فيما بينهم من قديم بين آبائهم وأجدادهم، وأنهم يتوارثون الملك المغصوب فيما بينهم وليس لهم، هل يسوغ لأحد له مال حلال لا يشوبه حرام وهو ممن راغ عن التبعات وأراد التورع، هل يجوز له أن يبتاع من ذلك المال المغصوب أم لا؟[1]... إلي آخر السؤال. ألا يكون إذن للغصب أساسه فى ماضي هذه البلاد البعيد، ومثله التهرب من الضرائب، قبل مجيء المعقل؟
وإذا كان ما تم على يد المرابطين مثل أبي بكر بن عمر أو عرب المعقل هو فتح فعلي البحث أن يتجه نحو ما يترتب على ذلك الفتح؟ لقد سبق دخول المرابطين حسب ما توصل إليه بونت من خلال المراجع والقرائن إسلام خارجي، لقد كانت البلاد إذن مسلمة قبلهم، وماذا عن حدود عبد الله بن يسين التي وصفت بالشذوذ؟ وهل ترسخ الإسلام بعدهم؟ لا تشير المصادر إلى ذلك لأنه لم تحدث حركة فى التوثيق ولا فى التأليف إلا فى حدود القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي مع محمد بن أبي بكر الحاجي صاحب موهوب الجليل وعبد الله الدليمي فى شرحه للعقائد السنوسية، وما ذكر قبل ذلك فهو مجرد أسماء لم نعثر لها على مكتوب يذكر، أي بعد قدوم المعقل بقرنين. ولماذا اتخذ بعض الفقهاء من المجموعات المحلية موقفا متشددا باعتبار ضرائب عرب المعقل ضرائب جائرة وتصنيفها فى إطار الغصب والمداراة بدل الخراج والخفر أو الجعالة؟ وما السبب فى ميلهم أي هؤلاء الفقهاء إلى يمنيتهم بدل مضريتهم؟ ألأن مضريتهم تجعلهم من آل البيت لأنهم كما يقال من أبناء جعفر بن أبي طالب؟ ألا يدخل ذلك فى حقهم فى حكم البلاد بعد التغلب؟
يثير كتاب بيير بونت "الشرور" التي كانت السبب فى تشتت بعض القبائل ويرى أن هذه "الشرور" ــ موافقا رأي بعض الفقهاء ــ كانت السبب فى بعض الضرائب، الفقهاء القائلون إن "من كثر تهارجه من هذه القبائل كثرت مغارمه". فكلما حدثت شرور استنجد المتنازعون بأهل الشوكة من معقل أو غيرهم من أهل الشوكةفيرتبون لهم مكوسا أو مغرما يخلفه الآباء للأبناء ويعالجه الكاتب فى إطار التعاقد على الحماية، وهي موضوعات تطفح بها مخطوطات هذا البلد على شكل عقود وفتاوى متضمنة أسباب هذه المغارم وأصولها والمستفيدين منها وعلى الباحثين الخوض فيها لإزالة اللبس حولها. يناقش الباحث قضية الخروج على حكم المغافرة ومحاولات بعض المحليين مثل ثورة ناصر الدين فى الكبلة (بكاف معقودة) للانقلاب عليهم ومواقف الفقهاء في ذلك العهد من هذا الحدث من مثل الطالب محمد ولد المختار ولد بلعمش الذي وقف ضد الحركات النضالية، وهو موقف بعض الفقهاء من تلك الحركات بحجة أنها تدفع إلى الفتنة. كما يناقش أشكال المعارضة من طرف بعض الفقهاء المتمثلة فى محاولات بعضهم إقامة نظام جماعة الحل والعقد على مستوى القبيلة أو مجموع القبائل (العاقلة) ومتى كان الحل والعقد يصح لمن لا قدرة له عليه؟ خالقين بذلك على مستوى قبائلهم ومجموعاتهم نوعا من الرفض للنظام الأميري الذي بدأ يتأسس فى بعض المناطق. إنها أمور تحتاج إلى التأمل فيها علميا، ومناقشتها بموضوعية لقد بذل صاحب هذا الكتاب جهودا مضنية لإنارة هذه المسائل والوصول إلى نتائج غاية فى الأهمية ليسترشد بها اللاحقون.
إن هذه الإشكاليات التي ناقشها بيير بونت وفتح بها آفاقا واسعة للبحث ستصبح يوما ما مسالك للاستقصاء تحتاج من الباحثين المحليين الخوض فيها، وإن تركها وتجاهلها وإبقاء الشعوب مغيبة عنها ــ ومن حقها أن تتعرف عليها ــ لن يسمح لنا بالامتداد التاريخي كأمة، ولن نتجاوز قبلياتنا وفئوياتنا فى اتجاه أمة لها تاريخها المتنوع على علاته ككل التاريخ الأرستقراطي الذي لم تخل منه أية أمة على وجه الأرض. لقد مضت عقود على استقلال هذا البلد ومن حق المواطن فيه أن يعرف ما جرى بالفعل فى ماضيه، وأن لا يراه عبر وجهة نظر أحادية طغت عليها نظرة تجعله بدون تاريخ، حيث جعلت هذه الرؤية منه بلادا سائبة وهي فكرة ظل بعض أنصاف المثقفين يجترها ويرسخها فى أوساط العوام حتي أصبحت حقيقة راسخة فى أوساط أنصاف المثقفين والعوام وهي الفكرة التي روجت لها المؤسسة الاستعمارية والنخبة المتصالحة معها وانبنى عليها التحكم فى مصائر شعوب هذا البلد، لفترات طويلة من الزمن. يقول المختار بن سيدي بن أحمد بن ابْلول الحاجي عندما سئل هل الفوضى والسيبة خير أم الاستعمار؟ فأجاب: " أقول في هذا السؤال تلبيس على عوام المسلمين وتخويف لهم حتى يقعدوا عن المطالعة بحريتهم وإعلاء كلمة ربهم لإيهامه إياهم أن الاستعمار والسيبة مع الفوضى طرفا مانعة خلو، إما هو إما هما. {.....} وما شوهد في هذه البلاد من السيبة لم يقع منه كبير شيء إلا بعد أن مد الاستعمار يده إليها وقبل أن يتمكن. فضعفة الأمراء فشلوا أو خافوا، وأما قبل ذلك فلا. فقد كان يرى الرجلان في زمن اعلي بن محمد لحبيب يتشاجران فيصير كل منهما يبصق في وجه الآخر ولا يتجرآن على التضارب خوفا من الوقوع فيما نهى عنه أعلي. قاله صاحب (الموسوعة).
إن الإجابات على هذه المسائل يجب أن يقوم بها الباحثون الفقهاء وأن يبينوا للباحثين طرقا فى البحث نحن فى أمس الحاجة إليها وباستثناء الدكتور يحيى ولد البراء لم يكلف الباحثون أنفسهم عناء الخوض فى هذه المواضيع وقد تطرق هذا الباحث للفتاوى التي تبين هذه المواقف من سلطة الأمراء مثل الفتوى التالية: يقول أبو بكر(بك) بن سيدي بن حرمة الديماني: " ... سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .أما قوله أني غير قاض فإني نصبتني جماعة المسلمين التزاما بأن يروا الناس يذهبون إلي المرة بعد المرة للمرافعة ولا يتهمونني ولا الذاهبين إلي المترافعين علي. ثم نصبني سيد بن محمد الحبيب وولاني القضاء علي كل ما تغلب عليه من البلاد بلفظ صريح في التولية. وهما توليتان صحيحتان. أما صحة تولية محمد الحبيب لي فلأنه متغلب والمتغلب تنعقد به الإمامة.[2] إلي آخر الفتوي مما يشير إلي أن بعض الفقهاء بذلوا جهدا في إيجاد مخرج شرعي لحكم هؤلاء الأمراء. ويكاد معظم الفقهاء يقول إن بسط نفوذ أهل الشوكة من معقل على المناطق الجنوبية والغربية وتسميتها بهم هو كونهم كانوا يحمون ثغورها لكي لا تقع تحت نفوذ أمم أخرى من برتغاليين وهلنديين وألمان وانجليز ولاحقا فرنسيين. يقول الباحث يحيى بن البراء فى حديثه عن منطقة الكبلة: "ولقد درج أغلب الفقهاء في الماضي علي الإفتاء والحكم بهذا الحق لبني حسان (الإمارة ) إذ ذاك لما رأوه أولا من الجهود التي يبذلون في الدفاع عن الأرض وساكنيها ممن يدين لهم بالولاء أو يقع في مجال إمارتهم ولمحاولتهم في أحيان كثيرة العمل علي توفير مستوي ما من الاستقرار والأمن يجعل الناس قادرين علي مزاولة مختلف أنشطتهم الحيوية (التجارة التعليم الزراعة التنمية) ثم لاشتهار تحكمهم فيها ثانيا وشيوع أخذهم حقوقا علي المواطنة والاستثمار داخلها حسب ما هو معلوم عرفا عند غالبية الناس. فقد سأل أحد المستفتين محمد فال بن متالي عن "من ذهب إلي سبخة الملح "أنتررت" ومار منها وباع ميرته تلك هل يعد هذا الكسب من الحلال ؟ فأجابه بأنه يكون كذلك إذا أعطي منه نسبة لبني حسان"[3].
بقي لنا أن نضيف كلمة حول هذا الكتاب إنه أهم كتاب كتب حول موضوع الشعوب الساكنة بهذه الصحراء ويتصف بغزارة المعلومات وكثافتها ونضج فى التفكير حول مختلف الموضوعات التي تناولها بالدراسة، ولسوف يمضي زمن طويل قبل أن نجد باحثا بمستوى بونت الذي سخر أربعين عاما لهذا الموضوع وهو لمن عرفوه عن قرب لا يمل من البحث العلمي والاستقصاء، فجاءت بحوثه ناضجة سواء على مستوى التنظير أو مستوى التطبيق، ولا غرابة فمعجمه فى الإتنولوجيا والأنتروبولوجيا قد ترجم إلى سبع لغات عبر العالم، وقد لاقى نجاحا كبيرا، وعلي فى هذا المقام ونظرا لأني عايشت الرجل فقد كان لا يمل ولا يتعب من البحث وشتان ما بينه وبين من يرون فى شغله عذابات وهنا يحضرني قول أبي الطيب المتنبي:
سُبحانَ خالِقِ نَفسي كيفَ لذّتُها |
|
فيما النّفُوسُ تَراهُ غايَةَ الألَمِ |
وفى الأخير لا بد هنا من أن أبين للقاريء أننا سعينا فى هذه الترجمة إلى تحقيق النصوص التي أوردها الباحث فى كتابه إما شواهدا فى آخر النص أو استشهادات فى المتن وعدنا إلى أصولها وحتي أننا فى أكثر من مرة رجعنا لنعتمد المخطوط وذلك حرصا منا على إيراد النصوص بأمانة كما أراد لها المؤلف وأكثر من ذلك أوردنا نصوصا مثل نص اللمتوني كاملا بدل نتوءات منه أوردها المؤلف واعتمدنا على المخطوط وذلك لأهمية هذا النص للقاريء. ومثلما فعلنا فى الترجمات السابقة حرصنا على ما التزمنا به فى الترجمات السابقة عند ذكر المراتب أن نرمز إلى المعنيين (بفلان أو الفلانيين) وعلى القارىء الرجوع إذا أراد إلى النسخة الفرنسية وذلك حرصا منا على عدم النيل من أحد. ونرجو أن نكون قد وفقنا فى هذا المسعى والله ولي التوفيق.
[1] الجزء الثاني فتاوى ابن رشد أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي 520 هـ 1126م تقديم وتحقيق وجمع وتعليق الدكتور المختار بن الطاهر التليلي، السفر الثاني دار الغرب الإسلامي.الطبعة الأولي 1407\1987 بيروت لبنان ص: 1017-1018 .
[2] (البراء) الدكتور يحي بن البراء المجموعة الكبرى المجلد الحادي عشر ص: 5552، 5553.
[3] البراء (الدكتور يحي) الفقه والمجتمع والسلطة المعهد الموريتاني للبحث العلمي 1993م ص:145.