رسائل من تركيا/ إزمير: الوجه الآخر للقمر (2)/ أحمد سالم ولد باب

اثنين, 2014-08-11 00:52
 الأستاذ الباحث  أحمد سالم ولد باب

معظم الأسماء العائلية التركية تحمل معنى ودلالة ما، فالاسم العائلي للرئيس التركي عبد الله گول Gül -مثلا- يعني الورد، ومن أكثر الأسماء العائلية شيوعا في تركيا "يِلْمَازْ" Yılmaz ويعني (لا يقهر)، و"يِلْدِزْ" Yıldız ويعني النجم، و"دَنِيزْ" Deniz ويعني البحر، و"آيْدِنْ" Aydın ويحيل على معنى المثقف أو المفكر.

وقد لا تخلو معاني بعض هذه الأسماء من طرافة؛ كالاسم العائلي لمدير تحرير مجلة "حراء" الأستاذ أجير إِشِيُوكْ İşiyok؛ الذي يعني (بدون عمل).

                                                                       ***

الأستاذ أجير رجل فاضل، يتحدث العربية بطلاقة لا تشوبها عجمة، يستطيع محدثه أن يميز في كلامه لكنة شامية لا تخطئها الأذن، لعله اكتسبها من أيام دراسته في الأردن.

تذكرني سرعة ترجمته للتركية بالعراقي "موفق فائق توفيق"؛ مترجم الإنكليزية الأكثر حضورا في قناة "الجزيرة"، ورغم ترجمته السريعة فإنه يحافظ فيها على مستوى عَالٍ من البلاغة والبيان العربي الساحر.

لم يكتف هذا الرجل بدراسة النحو المنهجي كما تقدمه كليات اللغة العربية؛ بل ارتفعت به همته إلى دراسة الألفية نفسها، وكثيرا ما يتوقف أثناء الحديث العادي ليبين لك لِمَ نَصَبَ أو رَفَعَ المستثنى!

يعجبه الشعر العربي ويطربه، ويُكثر الاستشهاد به.. عندما يحدثك عن كثرة أسفاره يترنم بأبيات الفارسي:

لا يستقر بأرض أو يسيــــــــر إلى  *** أخرى بشخص قريب عزمه نائي

يوما بحزوى و يوما بالعقيق و بال *** عذيب يوما ويومـــــا بالخليصاء

و تارة ينتحي نجــــــــــــدا و آونة *** شعب العقيق وحينـــا قصر تيماء

زار الأستاذ "أجير" موريتانيا لحضور المؤتمر السنوي الذي نظمه "التجمع الثقافي الإسلامي" في عيد المولد النبوي الماضي بالتعاون مع مجلة "حراء".

تبين لي من خلال المداخلات التي قدمها في هذا المؤتمر؛ أن له أفكارا جيدة في فقه السيرة النبوية، قد أُشير إلى بعضها فيما يُقبل من هذه الرسائل. لذلك، ولأنني سمعت عنه كثيرا قبل أن ألتقي به، سعيتُ عند الأستاذ زكرياء -المدير العام لمجمع البرج التعليمي- ليرتب لنا لقاء معه.

في ثنايا حديثنا المتشعب معه؛ ذكر أن بعض مضيفيه اعتذر له عن ما قد يلاحظه من فوضى وأوساخ تغص بها شوارعنا، فقال: شأنُ هذه الأوساخ هَيِّنٌ؛ لأن المكنسة تزيلها والماء يغسلها، ولكن في شوارعنا عُرْيٌ وفُحْشٌ وسُكْرٌ؛ لا يغسله الماء ولا تزيله المكانس!

                                                                      ***

ترى هل كان الأستاذ يقصد "إزمير" بكلامه عندما قال ما قال؟ ذلك ما خُيِّلَ إِلَيَّ وأنا أجوب شوارع المدينة في يومي الأول.

الروحانيةُ والألفةُ التي أحسستها في إسطنبول افتقدتها هنا.. كانت المطاعم تَعُجُّ بالزبائن، والشوارع تغص بالأجساد العارية، ورائحة السجائر تملأ كل مكان تقود إليه الأرجل.. لم يكن هناك أثر لرمضان!

حاول مرافقنا -وهو أحد الطلاب الموريتانيين المقيمين هنا- أن يجد تفسيرا لهذا الوضع البائس، فرأى أن "إزمير" تعتبر المدينة السياحية الثانية بعد اسطنبول، كما تقع على بعد ساعة واحدة بالباخرة من اليونان.

لم يقنعني هذا التفسير.. فاسطنبول هي المدينة السياحية الأولى في تركيا وقد حافظت -في رمضان على الأقل- على وقارها، والقرب من أوروبا ليس سببا في الانحلال دائما.

مدينة طنجة المغربية -رغم أنها تقع على مرمى حجر من إسبانيا- تعتبر محافظة بالنسبة لمدينة مراكش التي تقع في وسط المغرب.

تصورت ذات يوم أن الأوربيين أفسدوا عاصمة المرابطين؛ نكاية بالأمير الصالح يوسف بن تاشفين الذي كسر شوكتهم وأوقف زحفهم في معركة "الزلاقة" المشهورة.

بعد تراويح الليلة الأولى في إزمير؛ تمشيتُ وصديقي "بوي أحمد" في الشارع، وحين انعطفنا توقفت سيارة أجرة صغيرة، ونزلت منها فتاتان لا تخطئ العين أنهما فتاتا ليلٍ.. مدت إحداهما ذراعيها ناحيتنا قائلة: هل تأتي يا عزيزي؟

وَلَّيْنَا مُدْبِرَيْنِ وَلَمْ نُعَقِّبْ، ونحن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ونسأله الحفظ والسلامة في الدنيا والآخرة...

كنت منقبض النفس وأنا أصعد إلى غرفتي.. أتساءل: ما الذي جاء بي إلى هذه المدينة؟ وجافاني النوم فلم يغمض لي جفن.. ولست أدري ما الذي جعلني -في ذلك الوقت وأنا أتململ على السرير- أترنم بأبيات ابن الطثرية:

ألا هل من الْبَيْنِ الْمُفَرِّقِ من بُــــــــــدِّ *** وهل لليالٍ قد تَسَلَّفْنَ مــــــــــــن رَدِّ

و هل مثل أيامــــــــــي بِنَعْفِ سُوَيْقَة *** رَوَاجِعُ أَيَّامٍ كما كُــــــــــنَّ بِالسَّـــــعْدِ

و هل أخوايَ اليومَ إن قلتُ عرجـــــا *** على الْأَثْلِ من وَدَّانَ والمشربِ الْبَرْدِ

مقيمان حتى يقضيا لي لبانـــــــــــــةََ*** فيستوجبا أجري ويستكملا حمـــــدي

وقفت قرب النافذة ونظرت إلى القمر.. كان شاحبا حزينا كأنه يعتذر!

                                                                       ***

بدأنا البرنامج المصاحب لبرنامجنا الدراسي على الفور، أراد مضيفونا (من جماعة الخدمة) أن نَطَّلِعَ على جهودهم الخيرية والاجتماعية في رمضان.

كانت البداية بزيارة الإفطار الجماعي الذي ينظمه ذَوُو اليسار من حركة "الخدمة"، ويستفيد منه أكثر من 1500 شخص طيلة شهر رمضان.. كانت اللافتة المعلقة في صدر المكان تشير إلى أن النسخة الحالية من هذا الإفطار هي النسخة الرابعة عشر.

لفت انتباهي أن أفراد الشرطة يأتون بكثرة في سياراتهم الصغيرة لاستلام كميات من الإفطار، فتذكرت ما كنت أسمعه من قبل؛ من أن حركة الخدمة اكتسحت مؤسسة الشرطة في تركيا، ويقال إن هذه المؤسسة تعتبر من أنظف المؤسسات الشّرطية في العالم وأكثرها كفاءة لهذا السبب.                     

                                                                       ***

المذهب السائد في تركيا هو المذهب الحنفي، وبعض المناطق الجنوبية والشرقية تقلد المذهب الشافعي، وتَمْنَعُ الْعُجْمَةُ والغربةُ التي أصيب بها الإسلام في تركيا منذ سقوط الخلافة؛ عَوَامَّ الأتراك من استيعاب الخلاف الذي يقع بين المسلمين في فروع كثيرة، وكثيرا ما زجروا من يقرأ (مَلِكِ يوم الدين) بدلا من (مَالِكِ)، ظَنًّا منهم أنه أخطأ في القراءة.

يصلي هؤلاء التراويحَ عشرين ركعة، وأغلب المساجد يصليها بقصار السور لندرة الحفاظ.أما نحن فقد فضلنا صلاتها في السكن الجامعي الذي نقيم به.

قرر "علي" -وهو شاب تركي سَمْحُ الْخُلُقِ- أن يصلي معنا ليلة، فلاحظ أن صلاتنا نقصت بسبع ركعات عما عهده.. ظهرت عليه علامات الدهشة وتساءل: أنهيتم التراويح؟ وحين أجبناه بالإيجاب سكت، لكنه لم يعد إلى الصلاة معنا مرة أخرى.

عُدْتُ من الجامعة يوما فوجدته قد حلق رأسه حتى صار كالبطيخة.. فاقتربتُ منه وأنا أضع يدي على عَيْنَيَّ؛ كأنني أَتَّقِي بها الضوءَ الباهر المنبعث من رأسه الأملس.. فَهِمَ ما أرمي إليه وأغرق في الضحك.

                                                                        ***

دعتنا عدة أُسَرٍ تركية للإفطار، وكان مسك ختام تلك الدعوات؛ الدعوة التي وجهها إلينا المهندس "تيمور". كان "تيمور" رجلا خمسينيا، أَرْيَحِيَّ الطبع، بشوشا، يتكلم ويضحك بصوت عال، رحب بنا كثيرا.. وكان بَادِيَ الْبِشْرِ بحضورنا.

لم يقبل منا أن نجلس على الأرائك المنخفضة، بل ألح علينا أن نجلس على المقاعد قائلا: يجب أن يكون مجلس الضيف أعلى من مجلس صاحب البيت!

بعد دخولنا بقليل طُرق باب البيت ونهض ابن صاحبه ليفتح، ثم عاد وهو يحمل خمس غالونات من عصير البرتقال الطازج وقال: إن البقال أرسله حين علم بأمرنا، وأننا "ضيوف" على صاحب البيت (Misafir كما يسمون بالتركية).

سَأَلَنَا "تيمور":

- هل فيكم من يستطيع أن يصلي بنا التراويح؟

- نعم، ولله الحمد.

اشتعل الرجل حماسا، وأسرع يتصل بأصدقائه: تعال.. لدينا ضيوف عرب، سيصلون التراويح في بيتنا.. تعال.. ستسمع الدعاء بالعربية.. تعال!

أثناء الإفطار قام "تيمور" وابنه الجامعي -الذي يسير على خطى أبيه في دراسة الهندسة الكهربائية- على خدمتنا، وهي عادة حسنة لدى الأتراك.

الحفاوة التي تلقانا بها "تيمور" وابنه، وجدناها عند أصدقائه الثلاثة الذين حضروا للصلاة معنا.

قال أحدهم: لقد حججت مرةً واعتمرت خمس مرات، وفي كل مرة كنت أشم رائحة زكية غريبة في تلك البقاع الطاهرة.. لقد شممتُ نفس الرائحة فيكم الآن!

قلت في نفسي: اللهم اجعلنا خيرا مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون.

حُبُّ العربِ سجيةٌ في كل من قذف الله في قلبه الإيمانَ من العجم، ذلك أنه حب للنبي العربي وللقرآن العربي قبل كل شيء، ورحم الله البدوي حين قال:

هُمْ صَفْوَةُ الْأَنَامِ مَنْ أَحَبَّهُمْ *** بِحُبِّــــــــهِ أَحَبَّهُمْ  وَوَدَّهُمْ

كذاكَ مَنْ أَبغَضهم بِبُغْضِهَ  *** أَبْغَضَهُمْ تَبًّا لَهُ مِن مُّعْضِهِ

أَيِمةُ الدين عماد السنـــه  *** لِسَانُهُمْ لِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّـــهْ

يؤسفني أن كثيرا من العرب يَفِدُونَ الآن على تركيا للسياحة والتجارة وغيرها، فيعطون عن أنفسهم صورةً غيرَ التي كانت لهؤلاء عنهم.

                                                                       ***

بعد الصلاة تشعب بنا الحديث كثيرا.. اعتذر لنا المضيف عما قد نشاهده في "إزمير" من عدم الالتزام بشعائر الدين قائلا: في مناطق أخرى كالأناضول، وفي مدن غير هذه كقُونْيَا وأُورْفَه ودِيَارْ بَكْر وأَرْضَرُوم؛ تجدون الالتزام والتمسك بالشعائر الإسلامية.

وشرح -وعلى شفتيه ابتسامة- سبب صوته الجهير قائلا: عاشت معي أمي بعد وفاة أبي فترة طويلة، وكانت امرأة صماء، فاعتدت على مخاطبتها بصوت مرتفع، ولزمتني تلك العادة.

للرجل عاطفة مشبوبة تجاه الإسلام والمسلمين.. ما فَتِئَ طيلةَ المجلس الذي جمعنا يتوجَّع لحالهم، وتكاد تخنقه الْعَبْرَةُ وهو يتحدث عن غزة وما تتعرض له في هذه الأيام من اعتداء اليهود وظلمهم.. تحدث كثيرا عن ضرورة تغير هذا الواقع الحزين.. وتمنى أن يسعى المسلمون إلى الخروج من هَوَانِهِمْ الذي طال كثيرا.. وكانت له رؤيته "الخاصة" لتحقيق ذلك.

ما يعتبره كثيرٌ من مثقفينا اليوم "طوباوية محضة"، هو ذاتُ السبيلِ التي يرى مهندس تربى ودَرَسَ في كنفِ علمانيةٍ صارمة أنها طريقُ نهوض المسلمين وعودة أمجادهم..

باستثناء حماسه الجارف وعاطفته المشتعلة لم يكن عند الرجل جديد..السبيل في نظره هو أن يعتصم المسلمون بحبل الله المتين، وأن يعودوا إلى دينهم، وأن يأخذوا بأسباب القوة والتكامل الاقتصادي والصناعي فيما بينهم...

في ثنايا الحديث عرف صاحبنا أن موريتانيا عاشت برهة من الزمن في ظل الاستعمار الفرنسي.. دهشتُ كثيرا حين قال الرجل بحسرة صادقة وهو يعني فرنسا بكلامه: Şerefsiz يقصد أن فرنسا "عديمة الشرف".

ابتسمت رغم دهشتي من هذه العاطفة الدينية النادرة، فقد وجدت أن هذا "الهجاء" غيرُ معهود في حق الدول

أسندتُ رأسي على حافة الشرفة، وفي تلك اللحظة حانت مني التفاتة ناحية الشرق.. كان وجهٌ مضيءٌ مستديرٌ قد ارتفع لِلتَّوِّ فوق البنايات.. كان وجهَ القمرِ الضاحك.. ترى هل غَمَزَ لي بعينه؟

                                                                                                                                                                                                                                يتواصل بإذن الله