على خُطى الوالدة التي أصرت أن تلحق بأبيها – الذي لم تترب في كنفه – في بلاد الشيخ سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم، التحقتُ بدوري بهذه الأرض المباركة منتصف العام 2008؛ لأكون بجانب من وُضعت جنتي تحت قدميها.. ومن لا أجد معنى للوجود بدونها..
ألقى جَدّي - أخيرا - عصا ترحالٍ طويلٍ؛ بدأه من ريف شنقيط، وأنهاه في حي الشمسيات بتجكجة، وحين "استقر به النوى"؛ لحقتْ به أمي، فوجد نفسَه أخيرا محاطا بمجموعة من الأحفاد، كان من بينهم كاتب هذه السطور.. وبذلك بدأت مسيرة مراسل صحفي في ولاية تكانت..
سرعان ما بدأتُ الاحتكاك بالسكان، والاطلاع على أحوالهم.. بدأت أرى سوء تعامل السلطات الإدارية مع المطحونين منهم.. كنت أرى سَعَة الفجوة التي تفصل تلك السلطات عن مواطنيها البؤساء.. كانت هي تقف على أبراج عالية، بينما يلتصقون هم بطين السفوح..
لم تكتف السلطات الإدارية في تكانت بإهمال مواطنيها، وتجاهل السعي في مصالحهم اليومية فقط؛ بل تركتهم فريسةً لصيادي المصالح الشخصية أيضا..
حين كان الشِّق المدني من تلك السلطات يمارس "تسوله المقنع" بين سكان البوادي البائسين، كان الشق العسكري منها يفرض الإتاوات عليهم.. فاجتمعت من هذا "التسول" و"الغصب" قطعان "محترمة".. شكلت جزءا من ثروة على أُهبة السفر دوما، بانتظار صدور أمر بالتحويل..
يؤسفني أن أقول إن هذه الممارسات لا تزال شائعة حتى الآن..
كان الساسة المحليون بدورهم يتنافسون فيما بينهم في ظلم وإذلال السكان الضعفاء..
هذا يمنع جيرانه السقي من بئر شيدتها الحكومة، واستولى هو عليها في وقت سابق بتواطؤ مع حاكمٍ أو والٍ..
وذاك يَحْرِمُ المنمين من المراعي الخصبة؛ بحجة امتلاكه وثيقة موقعة من السلطات الفرنسية تثبت ملكيته لآلاف الهكتارات المربعة..
وآخر ينتزع من البدو ثمنَ مساعداتٍ غذائية أسعفتهم بها منظمة خيرية - بحضوره كوجيه أو منتخب - في أعوام شداد يأكلن ما قُدِّم لهن..
كل هذه الأمور - وغيرها - جعلتني أُخرج القلم - أو بعبارة أدق Le clavier - من غمده..
هكذا عدتُ إلى الكتابة بعد غياب طويل.. فقد كنت أحد المدونين النشطين على "جيران ومكتوب ولبلوگ سبوت".. أيامها كانت لي مدونة تُدعى "لبجاوي".. ظلت إلى وقت قريب؛ أكبرَ مدونة موريتانية على "مكتوب" من حيث عدد الزوار على الأقل..
كان في الولاية مراسلان اثنان، يمكن وصفهما بالنشطين، لكن الإدارة كانت تأمن "بوائقَهما".. فلم يكونا ينقلان أي خبر يعكر صفوها.. والأرجح أنهما لم يرغبا في دخول صراع معها، حفاظا على مصالحهما، فقد كانا موظفيْن..
بداية عملي كمراسل رسمي لصحيفة مستقلة؛ يعود الفضل فيه - بعد المولى عز وجل - إلى تشجيع وتوجيه الزميل باكاري گي؛ رئيس تحرير موقع Le divan آنذاك.. حيث نشر لي عشرات المعالجات الإخبارية وحباني بخالص النصح وسديد التوجيه.. لذا أغتنم هذه الفرصة لأعبر له عن خالص شكري وعرفاني بالجميل..
كان أولُ خبر "ساخن" لي يهز المدينة؛ يتعلق بتعرض أحد سجناء الحق العام في سجن تجكجة للتعذيب، بسبب رفضه إقراضَ أحد سجانيه 2 كلغ من الأرز.. فانهال عليه هذا بالضرب حتى نُقل إلى المستشفى، وتم التستر على الأمر ولولا يقظة أحد المخبرين - والذين لولا تعاونهم - لبقيت أخبار تكانت مطمورة كما كانت من قبل..
ما إن نُشر الخبر حتى تناقلته صحف عالمية.. وبعناوين عريضة.. فثارت ثائرة الوالي وأطلق حملة كبيرة لمعرفة من سَرَّب الخبر..
وقد تحاشى - حينها – مساءَلتي، ربما لأنه سبق وأن حاول ابتزازي وتخويفي حين طلب مني حذفَ خبر يتعلق بتسلمه عمولة قدرها 2000.000 أوقية من عمدة تجكجه، مقابل تغييره لتوقيت مهرجان ثقافي كان سينظم أيام 14، 15، 16 يوليو 2010 بتجكجه، وتسليمِ العمدة نسخة من دراسة هذا المهرجان - حسب مصادر من داخل الولاية - في صفقة وَأَدَ بموجبها "مهرجان خريف الصحراء"؛ الذي استبدله الوالي والعمدة بمهرجان التمور، الذي لا يزال مستمرا ولله الحمد.
يومَها لم أكن بمقر عملي، وأخبرني شقيقي الأصغر بأن الوالي طلبني للحضور عنده.. وبما أن اليوم ليس يومَ عملٍ فقد ذهبت إليه في بيته، ولقيتُه في صالون ضخم - كان كبولاني يستقبل فيه ضيوفه سابقا كما علمت - وبعد التحية أمرني بحذف الخبر "الكاذب" أوتسليمه الدليل!! ولأنه كانت بحوزتي وثيقة رسمية موقعة من طرف بلدية تجكجة؛ تبين بالتفصيل مصاريف المهرجان، فلم تخفني هستيريا "الوالي الغاضب"..
وبإشارة تَمُتُّ بصلة وثيقة إلى ثقافة كزافيي كبولاني؛ صرخ الرجل في وجهي متوعدا إياي بالعقاب المناسب..
خرجت بهدوء.. فلا أنا متعود على التسكع بين موائد الولاة، ولا هو استقبلني كما يُستقبل الضيوف في هذه البلاد, فضلا عن أنني لا أتلقى راتبي منه حتى يكون له الحق في توجيهي أو نصحي أو تقييم جودة عملي كمراسل صحفي..
في المساء اتصل بي هاتفيا، وجدَّد طلبَه بضرورة محو الخبر، حتى إن تطلب الأمر هدم سيرفير الموقع! فهدأتُ أعصابه وطمأنته بامتلاكي وثيقةً تثبت خبري، سأنشرها بداية الأسبوع..
أحسست بهاتفه يرتج.. وانقطعت المكالمة!..
وبعد ساعات اتصل بي أخي وسيطا من طرف الوالي، يطلب تسوية الأمر وُدّيا، وعدم التعرض لمثل هكذا أمور مع سيادته..
ولأن الوالي وضع مصالح أخي المهنية هدفا لمكره؛ تنازلت عن متابعة القضية، وأرسيتها على ما سبق, لأنني أحسست بأننا لسنا في دولة يحكمها القانون.
ومع الساعات الأولى للمداومة؛ استدعى الوالي عمدة المدينة ووبخه وحمّله مسؤولية حصولي على هذا الخبر، وهو ما نفاه العمدة - صادقا في ذلك - نفيا باتا.. وفي نفس الوقت تعهد بالكشف عن المصدر الذي سلم نسخةً من مصروفات المهرجان، واتهم حينها أشخاصا أبرياء.. لا هم زودوني، ولا أنا طلبت منهم هذه الأخبار..
وبعد "فضيحة المهرجان" تواصل نزق الوالي.. فقد حدث أن قام أحد المعلمين بتعذيب تلاميذ فصل كامل، ولما اجتمع الأهالي - محتجين - تقدم أحدهم بشكوى إلى الشرطة، لكن الوالي طلب من الطبيب عدم فحص التلميذ، ومن المفوض عدم فتح تحقيق.. وهذا ما تأكدت منه بنفسي؛ فقد كان المفوض شخصا ساذجا، أسمعني حديث إليه الوالي في الهاتف..
وفي النهاية طلب الوالي من مدير المدرسة القيام بزيارة للعائلات، مستشفعا وراجيا الصفح عن المعتدي، وبقيت القضية دون متابعة.. لكن أغلب تلاميذ ذلك الفصل توقفوا عند الدراسة، وأصبحوا يكرهون المدرسة..
ومن المضحكات المبكيات - في هذه المسيرة - حرمان مقاول من مشروعِ ترميم بناية الولاية؛ بسبب صداقته مع أخي - وهو أمر أخبرني به أحد موظفي الولاية السامين - رغم أن ملفه هو أيسر العروض المقدمة بفارق 900.000 أوقية عن العرض الذي حصل صاحبه على المشروع..
وأخبرني نفس المصدر أن الوالي خاطبهم بالحرف الواحد قائلا: لا يمكن إدخال شخص على علاقة بهذا "المراسل" في أمور الولاية..
ومع الوالي تتواصل لعبة "توم وجيري".. فذات مساء من 2011 كانت الولاية تستقبل مستشار الوزير الأول لبرنامج "أمل"، وحدث أن نظموا اجتماعا جماهيريا في حي "القعده" قرب المسجد العتيق..
ولما علمتُ توجهت إلى المكان، وعلى حافة الساحة التقيتُ أحد الشيوخ يتحدث بصوت عال، فاقتربت منه لأستطلع أمره، وبينما هو يشرح لي ما يقول إنه غبن في التقسيم المجاني للقمح، إذا بالسيد المفوض يبلغني أن الوالي طلب مني تسليمه الكاميرا، وبعد هنيهة نجحت في نزع بطاقة الذاكرة، وسلمته الكاميرا قبل أن يعيدها بعد ساعات, وعلمت من جهة رسمية أن السيد المستشار هو من طلب من الوالي إعادة الكاميرا!
خلال هذه الفترة الممتدة ما بين 2010 إلى 2011 راسلتُ وكالة أخبار موريتانيا، وكان الزميل النجيب ولد إطول عمرو مدير الوكالة غايةً في النصح والنضج، ومن خلال نشر هذه الوكالة لأخبار تكانت؛ استعاد المظلومون الكثير من حقوقهم، وعلى سبيل المثال: حُرِّرَ مصدر مياه في ضواحي القدية، حصل عمال البلدية على الضمان الاجتماعي...
يتواصل..بإذن الله
في الحلقة الثانية: انقلاب أبيض على مُسَيِّرَة دكان أمل "العرقوب الجنوبي"، وعروض مغرية لسحب الخبر وتكذيبه..