في الذكرى الأولى لوفاتها الموافقة لـ 7 أغشت 2015؛ تعيد "مراسلون" نشر صورة قلمية (بورتريه) كتبها الزميل أحمد سالم ولد باب عن السيدة مريم جالو، إحدى أشهر النساء الموريتانيات في مجال العمل الخيري..
أحمد سالم ولد باب
قبل عشر سنوات وقف بي صديق مَرِحٌ أمام منزل في حي Ilot L (حي المدارس حاليا)، وقرأ عَلَى لَوْحَةٍ عُلِّقت على واجهتِه: "معهد مريم جالو لإصلاح الأحداث الجانحين".. ثم التفت إِلَيَّ قائلا: هل تعلم أنني سمعتُ بهاتين المفردتين "الأحداث والجانحين" وعرفت معناهما لأول مرة عن طريق هذه اللوحة، رغم أنني أحفظ قولَه تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)؟
وبعد ذلك بفترة؛ قرأتُ في صحيفة مغربية قصةَ نجاحٍ جميلة؛ نشأ صاحبها في مَيْتَم، لكن ذلك لم يمنعه من شَقِّ طريقه نحو النجاح والمجد.. وأغلب الظن أنكم تعرفونه.. إنه محمد العَلَمي كبير مراسلي "الجزيرة" في واشنطن..
أيامَها تساءلتُ: هل يُكتب للأيتام الذين ربّتْهم مريم جالو أو لبعضهم مصيرا مماثلاً؟
في أيام مراهقتي؛ كنت ألعب في فِناء بيتها المعروف في حي Ilot L.. وكنت أرى أولئك الأيتام يغدون ويروحون إلى مدرستهم في ثياب نظيفة وأحوال ملائمة.. كان من بينهم الأبيض والأسمر والأسود.. وكانت ظروفهم تختلف كثيرا عن ظروف "آلمودات"..
جواب السؤال الآنف تأخر بعض الوقت.. لكنني حصلتُ عليه قبل يومين..
وُلدت السيدة مريم جالو سنة 1936 بسينلوي.
وفي سن الحادية عشرة من عمرها أصبحت يتيمة الأبوين، فتولت حضانتَها وتربيتها جدّتُها، وكانت امرأة فاضلة.. تشبعت مريم جالو على يدها بالخصال الإنسانية، والقيم الدينية والأخلاقية..
مرارةُ اليتم المبكر والطفولة البائسة التي عاشتها مريم جالو سيكون لهما أبلغُ الأثر في حياتها..
يقول عبد السلام يوسف جالو – شقيق الراحلة ومنسق أعمالها الخيرية – لـ"مراسلون": إنها ما فتئت في مراهقتها وشبابها تردّد: لَئِنْ آتاني اللهُ من فضله ووَسَّعَ عَلَيَّ في الرزق؛ فلن أصادف يتيما إلا كفلتُه، ولا محروما إلا واسيتُه، ولا بائسا إلا أسعدته..
تخرجت مريم جالو "قابلة" Sage femme وتزوجت من الإداري المدني المشهور السيد وان بيران مدير ديوانِ أولِ وزيرٍ للأشغال العمومية – حينها – في الحكومة الوطنية بسينلوي..
أخيرا، بدأت الحياة تبتسم في وجهها.. ولم تنسَ مريم جالو وعدها القديم..
بعد تخرجها مباشرة تم تحويلها إلى أطار ثم إلى شنقيط فوادان فأكجوجت فلعيون فالنعمه..
وفي جميع تلك المحطات عرفت النسوةُ الفقيرات القادمات من المناطق النائية؛ مريم جالو سيدةً بشوشة رقيقة رحيمة.. تواكب الحواملَ في مختلف مراحل حملهن، تقوم بدور القابلة والممرضة والطبيبة وخبيرة التغذية..
منذ 1960 بدأت مريم جالو كفالة الأيتام واستقبالهم في بيتها، وأخذت على عاتقها مهمة تربيتهم وتعليمهم.. قبل أن تُتَوِّجَ ذلك بافتتاح معهدها الشهير "معهد مريم جالو" سنة 1968، أثناء خدمتها في النعمه..
افتتحت مريم جالو مدرسة "الشيخ الحاج ابراهيم انياس" في السبخة، وكانت مدرسة عربية/ فرنسية.. لكنها – مع ذلك – حرصت دائما على أن يتلقى "أيتامُها" تربية دينية وثقافة قرآنية قبل ولوج تلك المدرسة..
وفي دار النعيم، افتتحت مركزا للتكوين المهني لمساعدة العاطلين من أبناء الأسر الفقيرة على تَعَلُّمِ مِهَن توفر لهم مصدرا للرزق الكريم.. حيث يتلقون دروسا وتدريبا في البناء والنجارة والخياطة والصباغة والطبخ..
جمال (انظر الصور) أحد جيران مريم جالو منذ الستينات، يقول: كان بيتُها مفتوحا أمام الجميع، في كل الأوقات.. كنا ننام في بيتها كما ينام أبناؤها وإخوتُها في بيتنا.. يلتفت جمال إلى صديقه الحسين، فَيَهُزُّ هذا رأسَه مُؤَمِّنا..
يضيف جمال: لا تعرف المرحومة فروقا بين البيظان والبولار والوولوف.. تحب الجميع كما تحب نفسها.. تسدي الخير إلى الجميع.. وتبتسم في وجه الجميع..
لا بد أن المرحومة تحتفظ بذكريات خاصة، خلال مسيرتها الطويلة في بذل الخير والمعروف..
يجيب عبد السلام جالو: الذكرى التي لم تنسها المرحومة أبدا، حصلت ليلة الفطر من عام 1977، عندما حضر رجل من "البيظان" وسلَّمها كُسوةَ العيد لجميع أطفال المَيْتم، ومواد غذائية ولوازم أخرى كفتها مؤونة ذلك العيد.. ثم انصرف رافضاً أن يخبرها باسمه، ولم تره بعد ذلك أبدا..
لا تغيب عن ذهني صورة الأيتام قبل عشرين سنة ذاهبين أو قادمين من مدرستهم.. أين رمت بهم الأقدار يا ترى؟ أتوجه بالسؤال إلى عبد السلام..
-منهم من يشغل وظائف سامية في الدولة الآن.. أصبح منهم مهندسون وأطباء وأساتذة ومعلمون..
يقاطعه جمال:
-هل تذكر (...)؟ أصبح مهندسا.. أقابله دائما..
ربما يتحفظون على أسمائهم تحرجا من جرح مشاعرهم..
يذكر عبد السلام أنها تكرر دائما: إذا أحسنتَ الثقة بالله وتوكلتَ عليه حَقَّ التوكل؛ فلا شك أنك ستحصل على ما تريد..
وتوصي قائلة: يجب أن لا يزعجنا التفكير في الرزق.. راقب النمل وسترى أنه يأكل كل يوم.. من يرزقه؟ إنه الله.
دهشتُ كثيرا لكثرة من يعرفون مريم جالو، فقبل يومين كان أغلبُ أصدقائي على "الفيسبوك" يتحدثون عن مآثرها ويترحمون عليها آسفين..
وعندما كان عبد السلام جالو يقودني إلى مكتبه ليجيب على أسئلتي؛ كانت عيناي وأذناي تلتقطان اختلافَ ألوانِ وألسنةِ المعزّين الكُثر.. فأذكر قول الشاعر:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لاَ يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ**لاَ يَذْهَبِ الْعُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ
بعد صراع مع المرض دام ثلاث سنين؛ أسلمت مريم جالو الروح إلى بارئها يوم الجمعة الماضي، وصعدت روحُها إلى عالمٍ طاهرٍ تنتمي إليه..
.........................................................................................