استطلاع: أحمد سالم ولد باب
قديما، حين رأى المِخيال الشعبي بلدةَ الطائف ذاتَ شجر وأعناب وماء في بيئة جدباء قاحلة كالحجاز؛ اخترع أسطورة "الطّائِفِ" الذي اقتلعها من اليمن قبل أن يطوفَ بها حول البيت ويضعَها حيث مدينة الطائف اليوم، ومن هنا جاءت تسمية المدينة العريقة!..
لحسن الحظ أننا نعيش "المرحلة الوضعية" من مراحل تطور الفكر البشري كما يقول أوغست كونت، وإلا فإن مِخيال ساكنة انواكشوط كان سيقدم ذاتَ التفسير الأسطوري – الذي رفضه ثقاةُ المفسرين – حين يرى مسجد "سيدنا أحمد" بلكصر وإخوته نشازا بين مساجد العاصمة انواكشوط؛ التي بدأت تشهد بناء جوامع بعدد رؤوس الأصابع ذات عمران متميز، يطبع بعضها الطابع الصوفي بقببه ومناراته الخضراء..
كثيرون تساءلوا عن الجهة التي بنت "المسجد الجديد الجميل" كما يسميه العامة؛ حين رأوا قناة "المحظرة" تبث منه صلاة التراويح مباشرة في رمضان..
عبد الرحيم أحد رواد المسجد يقول لـ"مراسلون": أجزم أن جهتين ليستا من بُنَاتِهِ: وزارة الشؤون الإسلامية، وممثلي الهيئات الخيرية الذين يأخذون "اسلاليخ" من كل مسجد يبنونه.
مسجد "سيدنا أحمد" مسجد لا ينتمي إلى موريتانيا: تصميما وشكلا وزخرفة ونظافة ونظاما، وربما إماما وقراءة!
"مراسلون" التقت بإمام المسجد فضيلة الإمام القارئ محمد سالم ولد زين، الذي ذكر أن بَانِي المسجد موريتاني يقيم في الإمارات.. لكنه اعتذر عن التصريح باسمه احتراما لرغبة الرجل الذي يكره أن يُخدش إخلاصُه.. ولهذا السبب رفض طلبا من قناة "المحظرة" لإجراء مقابلة معه، بُعيد افتتاح المسجد غُرّة رمضان المنصرم..
أما عن تسمية المسجد؛ فيقول الإمام إنه سُمّي باسم شيخِ والدِ باني المسجد، قياما بحق الأبوتين: أبوة العلم والنسب..
وعن سؤال حول ما إذا كان الرجل بنى المسجدَ من ماله الخاص أو بمعونة الهيئات الخيرية؛ أجاب ولد زين أنه بناه من ماله الخاص، تحقيقا لأمنية قديمة راودته ببناء مسجد بمواصفات تليق ببيوت الله تعالى..
ليس شكلُ المسجد وحده هو الذي يؤكد عدم انتمائه إلى انواكشوط.. بل الدراسة التي بُنِيَ على أساسها، ومهندسوه والقائمون على بنائه.. كُلُّ ذلك تَمَّ جَلْبُهُ من المغرب وساحل العاج..
جولة في المسجد تؤكد أن الرجل وُفِّقَ إلى حد كبير في تحقيق أمنيته.. الفُرش الفاخرة والنقوش القرآنية البديعة، والنظافة على مدار الساعة.. حتى المراحيض تشرح النفس حين يطالعك بلاطها الصقيل ورائحة منظفاتها العطرة..
"مضمون" هذا المسجد لا يقل حسنا عن "شكله".. فَبُعَيْدَ غروب الشمس رَفَعَ أذانَ المغرب المؤذنُ الغامبي محمد الأمين بصوت سماوي، ثم قرأ الإمام ولد زين في الصلاة بصوت يغشاه حزن مقدس؛ يحمل سامعَه نحو أشواق بعيدة..
الواقع البائس للمساجد في موريتانيا؛ يزيده تفاقما حداثةُ عهد الدولة بتدبير الشأن الديني، والعادات البدوية التي لا تعرف احترام المجال العام..
يتساءل الكثيرون عن دور إدارة المساجد التي لم تبن مسجدا قط، وأُعفيت أخيرا من توزيع إفطار الصائم بعد توجيه مخصصاته إلى أمور أخرى..
لكن المواطنين بدورهم يتحملون وزرا كبيرا في نظافة بيوت الله تعالى؛ حيث لا يتورع الكثيرون عن التبول في حريمها والنوم داخلها، خصوصا في رمضان.. حيث تبدو المساجد وكأن ثورةً شعبيةً أُخْمِدَتْ فيها للتو..
لكن الإنصاف يدعونا إلى عدم التعميم، ومن ثَمَّ الاعتراف بأن الأمر ليس بذلك السوء عند إخوتنا الزنوج الذين عُرفوا بالاحتفال الزائد بالتدين الشعائري..
أذكر أنني حضرت مجلسا ذُكر فيه أن من شأن الزنوج الاهتمام بمظاهر معينة، منها: رفع منائر المساجد حتى أصبح ذلك علامة على قُراهم، والاهتمام بجمال الأضحية خِلقة وصورة، والتزين المبالغ فيه للعيدين والجمعة.. فعلق أحد الفضلاء قائلا: هذا من تعظيم شعائر الله.. ثم تلا قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)..