فاعلم أيها الأخ الكريم والأخت الكريمة، أن للناس في لحاهم مذاهب شتى .. فمنهم الحالق المنْهِكُ الذي لا يبقي ولا يذر .. ما عرفه الناس بلحية ولا شارب، ولا رآه كاذب ولا صادق كذلك. عوّد الشارب وأخته الموس منذ كان وليدا، إلى أن قوّس الظهر للحيته وشاربه، كل يوم نصف ساعة من وقته الثمين، يمضيه لإزالة ما أنبته الله بالليل. ومنهم المعفي المرسل، ألقى للحيته الحبل على الغارب، فطالت واسْبَكَرََّتْ وتمدّدت عرضا وطولا ما شاء الله لها أن تتمدّد. ثم تجعّدت كأنها حلق الماذي، فملأت بين السحر إلى النحر .. فكست صاحبها هيبة ووقارا، ما عرفت مدية ولا موسا طول دهرها. ومثل هذه اللحية نادر الوجود، وقد تندّر حولها الأدباء .. فشبّهها ابن الرومي بمخلاة الشعير .. وأنشد فيها ابن مفرغ الحميري رحمه الله بيته الشهير .. أيا ليت اللحى صارت حشيشافتأكله حمير المسلمينا ومن الناس من يشذّب لحيته، فيصير لا حالقا ولا معفيا، منزلة بين المنزلتين، يأتيها من هنا ومن هناك، حتى لم يغادر منها إلا الشيء القليل .. أشبه ما يكون بهذه الأعشاب القصيرة، التي تنبت في حمل السيل، حين يمر بالقيعة الأجادب. ومنهم من يدع من لحيته قدر الهلال، يتكاذب الناس .. هل هو ابن ليلة أو ليلتين، وربما غيم هذا الهلال في تجاعيد الجسد، أو النباتات الفطرية. ومنهم من يمعن في حلق عارضيه، تاركا شبه الحربة من الشعر على ذقنه، محتجّا بقول البديع الهمذاني .. ما يفعل الله باليهودولا بعاد ولا ثمودولا بفرعون إذ عصاهما يفعل الشعر بالخدود
ومنهم من يحلق لحيته على حرف .. فإذا عرضت له رغبة في الدنيا وزخرفها، أخذ من لحيته أخذا صالحا. وإذا اعتراه فيها زهد، أعفى منها. فهو الحليق إذا صلحت الحال، وأثمرت الأموال، وحصل الجاه. وهو الملتحي إذا حصل في المال أو الأنفس شيء من نوائب هذا الدهر، مؤذن بزوال هذه الفانية. ومنهم من يتكسّب بلحيته، ويأكل بها الخبز .. فليس من الإنصاف في شيء، أن تطالبه بقصّ مصدر رزقه. وغالب الناس لا يفرّق بين اللحية والشارب .. إما يعفيهما معا، أو يجعل موساهما واحدة، كما يقال. والنادر منهم من ينحو نحو خَرْخَرَةَ وبابويه. وكل هذه المذاهب مقبولة، إلا مذهبا واحدا .. هو مذهب من يحدث لحية، يصبر عليها السنة والسنتين .. فيعرفه الناس بها، ويألفونه .. بحيث تكون جزءا لا يتجزأ من شخصيته المحترمة، ثم يصبح يوما من الأيام وقد أطعمها الشفرة، فيظهر للناس بغتة، فيفرّون منه أول وهلة، قبل أن يعرفوا من هو، وأين يمضي. وكذلك الرجل يعرفه الناس حليقا طليقا، ويشتهر بذلك في أسواق المسلمين، ويعامله الناس على ذلك الأساس، ثم يغيب عن الأعين برهة من الزمن، ثم يظهر لهم بغتة بلحية من لحى ابن الرومي، إليها تشير كف المشير .. فلا يكادون يعرفونه إلا بعد التوسّم والتوهّم .. يقولون .. أما اللمة فلمة فلان، وأما هذه اللحية وهذا الشارب فلا نعرفهما. وربما قالوا .. والله لقد جُنّ الأعور بعدنا. وليست اللحية الرمضانية من هذا القبيل في شيء. لقد بحثت عنها .. فأدركت كنهها. إنها لحية مؤقّتة .. لم تأت للتلبيس ولا للتدليس. تنبت في سرار شهر شعبان، وتنمو مع أيام رمضان، وتحصد ضحوة أول يوم من شوال. إنها لحية موسمية مؤقتة، أطلقت تماشيا مع قدسية الشهر المعظّم. أطلقها صاحبها برسم ذلك .. كما يقلع المترفون في هذا الشهر المبارك عن الربا والزنى والرشى والكشى والإثم والعدوان ومعصية الرسول. حتى إذا ولّى شهر رمضان، وطارت ملائكة ليلة القدر وروحها إلى حيث شاء الله .. طارت اللحية كذلك إلى حيث شاء الله .. ورجع المترفون والمخلطون إلى ما عوّدوا عليه أنفسهم قبل رمضان .. ثم استأنفوا العمل .. ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
اللحية الرمضانية : محمد فال ولد عبد اللطيف