في كتابه الشهير "الإسلام يتحدى"؛ انتبه "وحيد الدين خان" إلى أن الأساس الذي يُفترض أن يُحَاوَرُ الملاحدة انطلاقا منه؛ قد تغير منذ أن كتب عالم الفيزياء إسحاق نيوتن كتابه الشهير "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"..
ولعل ذلك هو سببُ نجاح كتاب المفكر الهندي المسلم، وَسِرُّ جاذبيته الآسرة..
كان علماء الإسلام من لدن المعتزلة وحتى وقت قريب؛ يُحاورون مخالفيهم على أساس زعمهم أن "الإسلام دين مفترى".. وهذه المقولة تفترض أن هناك أديانا صحيحة.. لكن مع الثورة الفكرية التي أثارها كتاب نيوتن المذكور؛ تغير الأساس إلى "حسنا، نحن لا ننكر الإسلام وحده.. بل ننكر وجود الله أصلا، وننكر الدين والوحي والنبوة والحشر"..
هل انتبه قادة الفكر والرأي عندنا والقائمون على المناهج الدراسية إلى هذا التغير الجوهري في الخطاب الإلحادي؟
* * *
شُغِف الفتى بالقراءة منذ نعومة أظفاره.. كان يقرأ كل ما تقع عليه يده.. حَسْبُكَ أنه قرأ - ولما يبلغ الثانية عشرة من عمره - روايةَ "هكذا خلقت" لمحمد حسين هيكل، وهي رواية اجتماعية طويلة؛ تربو على الثلاثمائة صفحة..
اتسعت قراءاته في مجالات الأدب والتاريخ والفلسفة، وأصر في نهاية المرحلة الإعدادية - بدافع من حبه لتلك الفنون - على اختيار الشعبة الأدبية رغم معارضة والده الشديدة.. فلم يملك هذا الأخير أن قال متحسرا: إن الشعبة الأدبية لا تخرج إلا الملاحدة!
وعندما ناهز الْحُلُمَ كانت أسئلة كثيرة - أثارتها قراءاته العريضة - تضج في ذهنه.. وتلح في طلب الجواب!..
ويعلم الله كم عانى الفتى من عذابات تلك الأسئلة التي كان يخشى أن ترديه في الجحيم.. وكان كلما ألحت عليه فَزِعَ إلى الصلاة والدعاء، متضرعا إلى الله أن يريه الحق ويصرف عنه وساوس الشيطان..
لم يكن يستطيع أن يبوح لأحد بهَمِّهِ.. كان يعاني في صمت.. أما عقيدة ابن عاشر والكفاف ودروس التربية الإسلامية في المدرسة فلم تُغن عنه شيئا.. كان كلما استرجعها وقفت له قراءاتُه بالمرصاد قائلة: إن ما تقرأه شيك بلا رصيد!..
وفي يوم سعيد؛ نُقِشَ في ذاكرته إلى الأبد.. وقع على كتاب "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان.. وتسابق الخير فعثر - من بين كتب أخرى - على بعض كتب الشيخ محمد الغزالي، منها: "عقيدة المسلم"، و"الإسلام في وجه الزحف الأحمر"، و"قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة"..
بدأت الوحشة تنجلي شيئا فشيئا.. وبدأ الفتى يثوب إلى رشده ويأنس إلى ما حوله..
* * *
حين كانت الأسئلة الوجودية والفكرية تؤرق جيلا كجيل الثمانينات؛ يقرأ كلَّ ما تقع يده عليه.. كان أساتذة العقيدة في معهد العلوم الإسلامية والعربية في موريتانيا يقاتلون بحماس ضد المعتزلة والجهمية و"أهل الأهواء" الذين انقرضوا قبل قرون!
كان أستاذ العقيدة يُخبرنا بأن أحد المعتزلة طلب من أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة - أن يقرأ: "وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى تَكْلِيمًا" بنصب "الله"؛ لتوافق مذهبه في نفي صفة الكلام عن الله تعالى، فقال له أبو عمرو: هب أني قرأتها كما تريد، فما تصنع بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).. فبهت المعتزلي!
كان الأستاذ يلقي بهذه الحجة ثم ترتسم على شفتيه ابتسامةُ انتصار.. ولم لا؟ ألم يُلْقِم "الأموات" حجرا لتوه؟..
أصر أحد زملائنا على أن "الجعد بن درهم"؛ لا بد أن يكون قتل والدَ الأستاذ لكثرة ما كان يكيل له من الشتائم والهجاء..
لم تكن هذه معركتنا.. ولم تكن تلك الحجج تجيب على أسئلة أخرى تغلي بها الصدور.. ضقت ذرعا وقلت له: إنني استفدتُ من كتاب "عقيدة المسلم" للشيخ محمد الغزالي أكثر مما استفدتُ من كتاب "العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي..
ظهرت عليه علامات الدهشة ثم قال: إنهما لا يعالجان نفس القضايا، ولا ينطلقان من نفس المنطلقات..
لم تكن الساحة الفكرية لدينا أفضل حالا.. وَلَّدَ النقاء الفكري (= التجانس الفكري) حالة من الاسترخاء العقلي منذ أيام المرابطين، فلم تعرف البلاد مذهبا غير المذهب المالكي، ولم تخرج عن مقولات الأشاعرة في العقيدة إلا قليلا..
والحركة الإسلامية التي أبلت بلاء حسنا - في بلدان أخرى - في محاورة الملحدين وإثبات الحقائق الدينية.. لم تكن كذلك عندنا..
على خلاف البلدان العربية الأخرى؛ برزت الحركة الإسلامية في موريتانيا في فترة غربت فيها شمسُ التيارات الأخرى.. كانت في الميدان وحدها.. فلم تجد من يحاورها.. ولم تعكر صفوَها الإشكالات الفكرية التي يطرحها المخالفون..
كانت جُلُّ المحاضرات الفكرية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات؛ تدور في فلك مقولة "الإسلام هو الحل".. كانت تعالج مواضيع من قبيل: المنهج الاقتصادي الإسلامي.. النظرية السياسية الإسلامية.. الإسلام والديمقراطية... إلخ.
وهكذا تفاقمت حالة الاسترخاء الفكري..
كانت المناهج والمقررات الدراسية تحارب الغابرين.. أما قادة الرأي والفكر فمشغولون بالإشكالات المتجاوَزة..
لكن حذار فالتاريخ يعيد نفسه..
* * *
منذ أسابيع لاحظت أن بعض آراء الأستاذ عدنان إبراهيم؛ متداولةٌ بين التلاميذ.. ومنها ما ينقض إجماعات علمية وفقهية!.. كان فريق منهم يستنكرها، بينما وقع فريق آخر أسيرا لقوة عارضة الأستاذ وسحر بيانه..
إن الخطبَ هَيِّنٌ ما دام هؤلاء يتداولون آراء معروفة - رغم شذوذها - في المجال الإسلامي.. لكن من يضمن أنهم لن يطلعوا على آراء أخرى.. الله وحده يعلم ماذا تكون؟ وإلى أين ستسير بهم؟
إن الاسترخاء الفكري الذي أصاب الأمة منذ زمن بعيد؛ جعل الباطل أَلْحَنَ بحجته من الحق..
كيف لأستاذ لم يقرأ "قصة الإيمان" لنديم الجسر، ولم يسمع بكتاب "أصل الأنواع" لداروين أن يواجه ما تموج به شبكات التواصل الاجتماعي من شر مستطير؟
* * *
لن أضع القلم قبل أن أقول كلمة في حق الإساءة الأخيرة..
عندما قرأت السفاهة التي سطرها أحدهم مؤخرا؛ قلت في نفسي: ألا ما أقبح الجهل!.. لقد كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم مفكرون وفلاسفة وشعراء غربيون كثر.. ورغم أن كثيرا منهم لم يؤمن به؛ إلا أن ما كتبوه عنه يطفح بالإعجاب والثناء..
والفتى الذي تحدثتُ عنه في صدر هذا المقال؛ مدين بالكثير لما سطره "توماس كارلايل" في كتابه "الأبطال" عن أعظم رجل عرفه التاريخ كما قال، وهو محمد صلى الله عليه وسلم..
إن كان الكفرُ هو ما دعا هذا السفيه إلى ما كتب فَهَلاَّ وَسِعَهُ ما وَسِعَ أولئك؟.. ألا إن صِغَر النفس وصَغارها هو ما أقعده عن أن يرى تلك العظمة..
أعتقد أن "كريسي موريسون" - أحد الرؤساء السابقين لأكاديمية نيويورك للعلوم - هو من قال: "إن الاحتشام، والاحترام، والسخاء، وعظمة الأخلاق، والقيم والمشاعر السامية، وكل ما يمكن اعتباره "نفحات إلهية" لا يمكن الحصول عليها عن طريق الإلحاد".