أنثوية الحكي في «السرد النسائي العربي»

خميس, 2014-06-19 18:41

صدر مؤخرا للباحثة المغربية سعاد الناصر كتاب جديد بعنوان «السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي» ضمن منشورات مكتبة سلمى الثقافية. وقد جاء العنوان الذي اختارته الكاتبة مكثفا وجامعا لجوامع الكلم والقضايا التي يتضمنها الكتاب، إذ يقيد نوع الكتابة النسائية التي سوف يتداولها داخل متنه، ألا وهي السرد النسائي، كما أن هناك محدداتٍ أخرى علِقت بهذا السرد وهي «قلق السؤال» الذي خصصت له الكاتبة الفصل الثاني من الباب الأول لتتحدث فيه عن السرد النسائي وقلق المفهوم والقضية، حيث ستعرض فيه لفاتحة بدايات الكتابة النسائية في العصر الحديث، وفتنة المصطلح وقضايا الذات والتحرر في السرد النسائي الذي كانت تؤطره حسب الكاتبة نظرتان متباينتان:- نظرة تكرس الاستعباد وتقبُر كيان المرأة الإنساني والاجتماعي بشكل كلي أو جزئي، وتعتبرها مصدر الغواية والفتنة. ومن هنا أصبحت الحرية في بعض النصوص تدل على الافتتان بالجسد والكشف عن نزواته ورغباته. - ونظرة تسعى إلى التغيير لحصول المرأة على كامل تحررها من واقع الحصار والقمع والتهميش والتشييء والاستغلال، والعمل بجانب الرجل من أجل قضايا الذات والوطن والأمة.أما المكون الآخر الذي اشتمل عليه العنوان فهو «غواية الحكي»، وهو يحيل على فتنة السرد النسائي الذي تُمثل شهرزاد أنموذجه الأمثل في الحكي العربي. ونجد الكاتبة خصصت له الباب الثاني من الكتاب واختارت له عنوان «شهرزاد تحكي». وقد تشقق الكلام في الفصل الأول من هذا الباب عن التشاكل الأنثوي في السرد النسائي، بحيث ميّزت فيه الدارسة بين ثلاثة مستويات هي: المستوى الطيني والمستوى الروحي والمستوى المتوازن.لاحظت الباحثة في المستوى الطيني أن الكتابة بالجسد سمة تتشاكل في العديد من نصوص الرواية النسائية العربية وقصصها، كما أشارت إلى أنه رغم تنوع الصور داخل هذه المحكيات، فإنها تظل «تنبئ عن التصور النمطي للمرأة، تصورٍ أحاديِّ الجانب لا يرى منها سوى الجسدِ، سواء كان هذا التصور من طرف الرجل الذي يكرس من خلاله تعاليَه عن المرأة باعتبارها مستودعا لشهواته، وآنيةً لتفريغ رغباته، أم من طرف المرأة التي لا ترى في جسدها سوى شيءٍ يتصف بطابع الإغراء والإغواء، وبذلك يتحول هذا الجسد من قيمة إنسانية جمالية إلى شيء مبتذل رخيص». كما ترى الناقدة أن مبالغة المبدعات في الاهتمام بالجسد جعل الرجل يمثِّل بؤرةَ المركز في النصوص السردية النسائية، ويُعتبرُ المحركَ الأساسَ لبُناها السرديةِ، وبالتالي لم تستطع الكتابة النسائية المنشغلة بالجسد أن تقدم نظرة راقية متحررة له.في مقابل هذا يشكل المستوى الروحي نمطا مغايرا للكتابة بالجسد، فهو يقدم وجها آخر للكتابة النسائية تحتفي فيه المرأة بالجانب الروحي بدل الجسدي، وتبدو صورتها فيها أكثر سموّا وإنسانية، وقد حاولت الناقدة تتبع مجموعة من الصور المفعمة بالقيم الأخلاقية في مجموعة من النصوص السردية على قلتها.أما المستوى المتوازن فإنه يعكس – حسب الباحثة- «بلاغة التوازن بتنويعات تخييلية تتجلى في التركيز على إنسانيتها والإنصات إلى دفقاتها الشعورية التي لا تنكر اشتباكها مع تخوم الجسد، فالتحام الروح والجسد وما يتواصل معهما من قيم إيجابية تحفِّز الذات الكاتبة النسائية على التمرد على نظرة تختزلُها، وتحدُّ من انطلاقها في آفاق إنسانية، تتذوق طعم الحياة من مختلِف جوانبها وبتعدد إشكالاتها، بسرد يغوص في الداخل، بقدر ما ينفتح على الخارج، يفجِّر مفاهيم التوازن، لا مفاهيم الخضوع والسلطة، عبر جمالية فنية، تستجيب لنبض الذات، وهواجسِ الأنوثة في معانقتها لكل ما هو إنساني». (ص: 120)وقد أشارت الباحثة سعاد الناصر في مبحث «التشكيلات الجمالية في السرد النسائي» إلى أن السرد النسائي يمتاز بمجموعة من التشكيلات الجمالية، غير أنه أمام اتساع هذا المبحث وتشعبه، فقد اقتصرت على أربعة عناصر هي: جمالية العنوان، وبلاغة السرد النسائي، وتجليات الوصف، والوعي الفكري والجمالي.وفيما يخص العنوان فقد اعتمدت الباحثة على عدد من المداخل النظرية في تحديده سيما السيميائية منها، ثم قامت بعد ذلك بمقاربات لبعض عناوين القصص والروايات التي تطرّقت إلى جملة منها في سياقات مختلفة. كما حاولت الباحثة تتبع مكون الوصف من خلال بعض النماذج، واستنتجت أخيرا أنه «قام بوظائف جمالية ودلالية، فكسر رتابة السرد أو تداخل معه، كما نحا نحو السهولة والبساطة في معالجة مختلف القضايا التي يثيرها السرد، وفتَحَ آفاقا متخيلةً لتقريب الأحداث وإضاءة أعماق بعض الشخصيات من أجل التأثير على المتلقي وإقناعه، وإمتاعه أيضا، لأنه يتصل بذاكرة المبدعات ورؤيتهن ومواقفهن بشكل لا يمكن الاستغناء عنه. الأمر الذي يجعل الدارس يقرر أنه من الممكن أن يتصور مقطعا وصفيا خاليا من الزمن، لكن من المستحيل أن يتصور مقطعا خاليا من الوصف خاصة في السرد النسائي». (158-159)بعد هذا انتقلت الباحثة إلى معالجة مكون الزمن من خلال تسعة نماذج قصصية وروائية لتخلص بعد مقاربتها إلى أن ثمة تفاوتا وتنوعا في توظيف الزمن بين هذه الأعمال، كما أن التشكيل الزمني كان يضفي على السرد حيوية وتدفقا واستمرارية. بالإضافة إلى أن حركية الاسترجاع تُعدُّ إيقاعا مميزا في السرد النسائي، إذ إن استحضار الماضي يكون في الغالب لأجل إضاءة الحاضر وتوليد المادة الحكائية. وتنهي المؤلفة هذا المبحث بالحديث عن تشكيل الوعي الفكري والجمالي في الكتابة السردية النسائية، ولعل استثمار هذا المكون الجمالي يسعف في الكشف عن تجليات الذات النسائية ومعرفة مواقفها وكيفية فهمها للواقع والعمل على تغييره. وبعد قيامها بتحليل لثمانية أعمال سبقت الإشارة إليها في سياقات أخرى سوف تخلص إلى نتيجة وهي أن الوعي الفكري والجمالي «أصبح مكونا رئيسا من مكونات تشكلاته (السرد النسائي) لأنه ألصقُ بطبيعة المرأة بسبب تكوينها البيولوجي وغلبةِ تدفُّق المشاعر والأحاسيس عليها ونزوعها الطبيعي للبوح والاعتماد على الحميمية في الإصغاء لنبضات الواقع والنفس، والتقاط التفاصيل الدقيقة بأسلوب يعتمد لغة الروح وهمس المشاعر، وما تختزنه الذاكرة النسائية من مواقف وعوالم تحركها وتنسجها الذائقة الأنثوية». (160-161)بعد هذه القراءة نخلص إلى بعض الاستنتاجات التي يمكن إجمالها فيما يلي:أولا- ليس هناك ارتباط متين بين التشكيل الجمالي ومستويات التشاكل الأنثوي الذي هو محور هذا الكتاب.ثانيا- إن تحليلات بعض النماذج جاءت أكثر استفاضة من الأخرى، ولعل مرد ذلك يعود إلى أن بعض النصوص كانت مسعفة أكثر من غيرها. إن هذه الملاحظات لا تمس جوهر الكتاب الذي تبدو مؤلفته قارئة نهمة ومتتبعة عن كثب للإبداع النسائي ليس فقط داخل وطنها المغرب، بل في كثير من بلدان العالم العربي، فقد قامت بمقاربة ستين عملا إبداعيا، (27 مجموعة قصصية و33 عملا روائيا) وهذا أمر لا يتأتى إلا إذا كان المرء قارئا نموذجيا. كما أن استقراءها لهذا الكم الوافر من النصوص يدل على الروح العلمية والموضوعية التي التزمت بها الدارسة في مؤلفها، بحيث لم يدفعها ذلك إلى اللجوء إلى إقصاء بعض النماذج بسبب اختلاف في الرأي أو الرؤية أو التفكير. بالإضافة إلى هذا فقد استعانت بمنهج نصي تحليلي تنطلق فيه دائما من مداخل معجمية وتحديد للقضايا والمفاهيم، ونبذ للأحكام الجاهزة، كما أنها عمدت إلى تطعيم النظرية السردية الغربية ببعض مفاهيم البلاغة العربية الرحبة، بغية توسيع دائرة دلالتها الممكنة والمحتملة وانفتاحها على أبعاد جديدة.

[email protected]

بقلم محمد الفهري

باحث من المغرب