في شهادة مثيرة، وجريئة ألقاها هذه السنة المبدع المغربي «أحمد بوزفور» في الملتقى الوطني حول التجريب في القصة القصيرة بمدينة المحمدية بالمغرب، حول ما يمارس على القصة من التخريب، وليس من التجريب، اعتبر أحمد بوزفور وهو الوفي لكتابة القصة القصيرة، ومبدعها الأصيل في التجربة المغربية، أن التخريب يرجع إلى الانشغال الكبير بالكاتب أكثر من الكتابة، وبمهرجانات التكريم أكثر من القراءة، وبالكلام الشفهي أكثر من النقد، وبالثرثرة أكثر من الصمت، مما جعل كثيرا من نصوص القصص القصيرة سهلة وسريعة وخفيفة ومسطحة، على حد تعبيره . وحين يتحدث أحمد بوزفور هنا عن التخريب، فهو يقصد به الخروج عن ضوابط الأدبية، التي تشكلت عبر تاريخ الممارسة الأدبية، دون أن يعني ذلك، فرض وصايا على الكاتب. لأن الممارسة الأدبية عبر تاريخها، ما كانت إلا احتراما لشرط منطقها الذي تهتم به نظرية الأدب. ونلتقي من جهة أخرى، مع موقف قريب – إلى حد ما- يسائل ـ بدوره- وضعية الكتابة الأدبية خاصة مع ما يصطلح عليه بـ «القصة القصيرة جدا». مثلما نجد مع موقف الناقد والباحث السعودي الدكتور معجب العدواني الذي يتصدى بالنقد للقصة القصيرة جدا أو ما أطلق عليها بالقصة «التويترية». وبعيدا عن طبيعة ردود الفعل التي رافقت ـ خاصة- موقف د معجب العدواني من قبل كتاب القصة القصيرة جدا، فإننا نعتبر شهادة أحمد بوزفور باعتباره وفيا لفن القصة القصيرة إبداعا ونقدا، ومواقف معجب العدواني باعتباره ناقدا وباحثا في المجال السردي، تشكلان إلى جانب آراء متفرقة تبحث في نفس السؤال محطة مهمة لإعادة طرح سؤال أدبية القصة القصيرة، وخاصة القصة القصيرة جدا، أو كل الأشكال السردية التي تدخل في البناء الموجز، وتوهم بسهولة الانخراط فيها. كما تؤسس مثل هذه المواقف الأدبية مناخا صحيا لانتعاش السؤال المعرفي، بعيدا عن لغة المجاملة، وتخاذل الفكر النقدي، قريبا من خصوصية الأدب، وهويته الفنية والجمالية والمعرفية. ولعل وضع الكتابة الأدبية بشكل عام في المشهد العربي، ومع هيمنة وسائط التكنولوجيا التي سمحت بنشر الكتابات خارج مؤسسات القراءة، قد خلقت نوعا من اللبس في معنى الكتابة الأدبية، وعلاقتها بمنطق تأصيلها ضمن شروط فنية وبنائية ومعرفية من المفروض احترامها، وإلا تخلت الكتابة عن أدبيتها، وشرعية هويتها . كما ساهم تخاذل النقد في مرافقة هذه الكتابات، والنظر في مستوى أدبيتها، و إنتاج أسئلة جريئة حول وضعيتها، في إنتاج هذا الوضع الملتبس للكتابة الأدبية، خاصة مع الأنواع السردية الموجزة، التي يغري فضاؤها النصي بإمكانية الإقامة فيها كتابة. فالنقد هو حالة صحو الفكر، و يقظة الأسئلة، وعندما تصاب هذه الحالة إما بالصمت، أو التخاذل، أو تكرار الأسئلة المتجاوزة، فإن الوعي بأدبية الكتابة يتعطل، ومعها تتعطل مفاهيم التفكير والتحليل والتذوق والجمال الفني، يعني يتعطل النص عن الميلاد الحقيقي. القراءة هي منتج حياة النص. والنص هو مكتشف حالة التفكير، أي النقد. كلاهما يرتبطان بحبل شفيف، إن تخلى أحدهما عن وظيفته، ضاع الوصال، وانقطع الحبل، وعمت الفوضى. تساهم طبيعة هذه العلاقة بين الكتابة و النقد في تعطيل النظر- في كثير من الأحيان- في الأشكال السردية الموجزة التي باتت تهيمن على المشهد، وتثير أسئلة شرعيتها الأدبية. يحدث ذلك، عندما تصبح القراءة غريبة عن الكتابة، لأنها انشغلت بالكاتب عوض الكتابة، واهتمت بتكريم الكاتب عوض الكتابة، أو ماعبر عنه بوزفور في شهادته المثيرة عندما «نضحي بالوضع الإبداعي الحقيقي للقصة، والذي اكتسبته باجتهادات الأجيال السابقة». ولعل من أهم ملابسات هذا الشكل السردي هو صفته الموجزة، والتي يتعامل معها البعض باعتبارها تلخيصا، أو اختصارا للحكاية. ولهذا، باتت عينة من الجمل المرتبة المختصرة لحدث أو حالة يسميها أصحابها بالقصة القصيرة جدا، أو مجموعة من الخواطر المطعمة بإيقاع شعري، تدرجها بعض القراءات في خانة ق ق ج، دون مراعاة منطق الأدبية الذي يجعل من نص ما عملا أدبيا، بناء على مستوى التشخيص الأدبي. . إن الطابع الموجز لهذا الشكل السردي، قد يوحي باستسهال عملية الانخراط في هذا النوع من الكتابة، كما قد يفهم من الإيجاز معنى التلخيص الذي تحدث عنه الناقد الفرنسي «جيرار جنيت»، حين جعل التلخيص عبارة عن جعل زمن المحكي أصغر من زمن القصة. في حين، إن الأمر يتعلق بمفهوم اقتصاد زمن المحكي، وليس بتلخيصه. لا يتعلق الأمر بالتلخيص، وإنما بالاقتصاد المدعم بالتكثيف، والمفتوح على الإيحاء البليغ. فالاقتصاد يجعل للقصة آفاقا عديدة خارج زمن السرد، وعلى القارئ أن يعيد تأثيث السرد، حسب العلامات الواردة في زمن المحكي، كما نتحدث أيضا هنا عن مفهوم توسيع المنطق البنيوي للنص. ولهذا، فقد ننفتح على تعددية في القصة، لأن كل قارئ سيشكل قصته حسب ثقافته الأدبية والمعرفية على الخصوص. فالقراءة أصبحت ثقافة وذاكرة. يحمل مفهوم الإيجاز صعوبة تشكيل بناء فني مؤهل لكي يحقق كتابة أدبية، بمنطق التشخيص الأدبي، واحترام شرط التدرج في بناء النص، مع جودة صياغة ما يسمى بتلاشي الحكاية، أو الاختتام السردي للنص، إذ، يتم التأكيد على ضرورة أن تنتهي ق ق ج بنهاية غير متوقعة. بهذا المعنى يشتغل السرد في أفق تحقيق هذه النهاية. أو ما يسمى بـ» تلاشي الحكاية» أو «تلاشي الحالة». تتحقق أدبية هذا الشكل الموجز، كلما تمكن مبدعها من التحكم في صنعة خطابها المكثف، وجعل القارئ أكثر فاعلية في تفجير التكثيف. فكل شكل تعبيري يعبر عن درجة وجود القارئ.عندما انفتح السرد الروائي والقصصي على التجريب، انفتحت الكتابة-أكثر- على القارئ باعتباره مشاركا في الإنجاز الإبداعي. كذلك نلاحظ مع مظاهر الأشكال السردية الموجزة ومنها ق ق ج، وما تتميز به من اقتصاد وتكثيف وإيجاز، حضور الحذف والتشطيب والتضمين والتجاوز، وهي بهذا تعمق مفهومي الانزياح والإيحاء ، وهي علامات تؤشر ـ بقوة- على موقع القارئ الذي عليه أن يتأمل وضعية النص بين يديه، وفق ثقافته ومقروءا ته السابقة، وعلاقته باللغة الأدبية، وأن يجعل النص يتمدد في مساحات مفترضة هو منتجها. لهذا، يمكن اعتبار ق ق ج تأتي في نفس السياق المعرفي للنص الترابطي. كلاهما يحددهما طبيعة القارئ/القراءة، ويعبران عن كونهما يوجدان في وضعية التكوَن المستمر حسب درجة وظيفية القارئ. إن ق ق ج وغيرها من الأشكال السردية الموجزة، والتي تأتي في علاقة متوازية مع انتشار الوسائط التكنولوجية التي تسمح بكتابتها وانتشارها السريع، تضع منتجها أمام التحدي الأدبي، نظرا لكونها لا تخرج عن منطق تكوَن الأنواع، والأجناس الأدبية التي تتجدد كلما تمَ تحيين العالم والذات رمزيا وفق وضعية الإنسان الجديدة. الكتابة الأدبية ذاكرة وتاريخ، معرفة وثقافة، قراءة و خلوة، حالة ومخاض، اشتغال باللغة وعلى اللغة،انزياح عن الشفهي والتقريري والمادي، وارتماء في منطقة التخييل والإيحاء والتأمل. ولهذا، عندما تأتي تكون شاهدة على زمن مخاض تاريخها، «ما أحوجنا نحن الكتاب الى أن نعود إلى خلوتنا.. ونكتب» يقول أحمد بوزفور، وما أحوجنا نحن النقاد إلى أن نعود إلى النصوص.. نقرأها.. نتذوقها..نفكر فيها. لعل الوصال يعود شفيفا بين الكتابة والقراءة.
كاتبة مغربية د. زهور كرام
نقلا عن عدة مواقع