يزدان عدد مجلة "العــربــي" الكويتية لهذا الشهر ديسمبر بصورة غلاف رائعة ما شاء الله، وهي لطفلة صحراوية صغيرة تلبس زينة المرأة البيظانية التقليدية كاملة، مع ملحفة صغيرة من "النيلة"، وتبدو في براءتها وزينتها جميلة كإشراقة الفجر، ما شاء الله، كأنها هي من عناها صالح أبو البقاء الرندي بقوله:
وطفلةٍ مثل حسن الشمس إذ طلعت.. كأنما هي ياقوت ومرجانُ
وتحت صورة الطفلة إشهار تحقيق العدد وعنوانه: "حياة بدو الصحراء المغربية"، وهو تحقيق مطول ورائع كتبه الباحث الصحراوي المعروف في مجال الدراسات الحسانية الأستاذ إبراهيم الحيسن، وقد عززه بعدد كبير من الصور المتميزة عن حياة "البيظان" في الصحراء، من مظاهر البداوة والإبل والملابس الشعبية والتراثية، والفنون، والحرف، والصنائع، والألعاب الشعبية، وغير ذلك مظاهر الثقافة العامة الأصيلة.
والحقيقة أن 99% من مكونات الثقافة المعروضة في التحقيق هي من صميم الثقافة الشعبية الموريتانية، بما في ذلك مسميات الملاحف، وأدب إيكاون، وثقافة المهاري والإبل، وسوى ذلك كثير.
والآن بات كل ذلك مسجلاً في المخيال العربي العام باعتباره ثقافة خاصة بالصحراء المغربية، وعليكم أيها الموريتانيون العوض، وابحثوا لكم عن ثقافة شعبية وتراثية أخرى. فكل ما عندكم من "لوح" المحظرة، وِ"لغن" والملحون الشعبي، و"كرور" و"الهوْل" و"لز الإبل" و"صناعة الوسائد التقليدية المزخرفة"، و"فرنة الشاي"، وغير ذلك، كله بات اعتباراً من هذا الشهر "ماركة مسجلة" باسم الأشقاء في الصحراء المغربية! مثلما سُجل كسكس من قبل باعتباره وجبة مغربية خالصة لا ينازع فيها في المحافل الدولية إلا جاحد أو معاند، وكأننا نحن لسنا هم أهل كسكس الحقيقيون منذ وجدت هذه الوجبة في فجر التاريخ الإنساني، وحتى الآن، ونحن من نشرنا ثقافة كسكس و"باسي" في أدغال القارة السمراء، وفي مشارق الأرض ومغاربها!
أتذكر أنني خلال دراستي في إحدى الدول المغاربية زرت مرة معرضاً تراثياً للطلاب من مختلف الجنسيات، وشد انتباهي صوت المرحومة الفنانة "ديمي بنت آب" وهو يصدح في المعرض، ورحت أتتبع الصوت حتى دخلت الجناح الذي ينبعث منه، فوجدته جناح الطلبة الصحراويين، وفوق ذلك كانوا يعرضون شريط فيديو من مناسبة اجتماعية موريتانية يغني فيه كثير من المطربين الشعبيين الموريتانيين! وكل هذا طبعاً مقدم للجمهور باعتباره فناً "صحراوياً".. وهو بالفعل فن صحراوي، إن كان الإخوة يقبلون أن يكونوا من أبناء الفضاء الحساني (الموريتاني)، وهم منه بكل تأكيد.
إنني أدرك مدى حساسية الموضوع الذي أتحدث عنه، وأعرف أن الأشقاء الصحراويين لن ينظروا إلى هذه التدوينة بعين الرضا! وهذه مشكلتهم، فلماذا يأخذون ثقافتنا وتراثنا بمنطق وضع اليد، ويسوقونها في العالم باعتبارها ثقافة خاصة بهم، وهم في الوقت نفسه يفرون من أية علاقة تربطهم بنا! ألم يقولوا جهاراً نهاراً إنهم نزلوا من سبع سماوات أو من المريخ أو "هبطوا من السماء" -بعد الإذن من عنوان كتاب أنيس منصور؟! ألم يقولوا إنه لا علاقة لهم بنا لا تاريخياً ولا جغرافياً، وتبرأوا وفروا منا كما يُفر من الأبرص والمجذوم؟ ألم يقولوا إن أشقاءهم الحقيقيين هم أهل كوبا ونيكاراغوا وكوريا الشمالية ومنغوليا الخارجية؟ ونحن أبعد الأباعد، ومحتلون سابقون، وأبناء بلدنا تطلق عليهم في "المخيمات" تسمية "أهل لكريعات"؟!
يا ناس هل نعامل الإخوة بما يحبون حقاً أن نعاملهم به: هم من كوكب المريخ، ونحن من كوكب زحل، ولا قرابة بيننا وبينهم ولا رحم!
لقد كنت وما زلت وسأبقى ما حييت مقتنعاً بأننا نحن وأشقاؤنا في الشمال بلد واحد، وشعب واحد، شاء من شاء وأبى من أبى، وهي حقيقة تاريخية وجغرافية لا ينفيها تنكر المتنكرين، وستبقى حقيقة ثابتة أزلية أبدية إلى يوم الدين.
من صفحة الأستاذ حسن احريمو