افتتاحية لحزب الصواب تتحدث عن (أحداث 89 والخيارات الاستراتيجية)

اثنين, 2017-04-24 08:34
نص الافتتاحية
 
تاريخنا الوطني المعاصر شكل دائرة لمراهنات استراتيجية دائمة بين القوى المؤثرة في ساحتنا، حين اعتبرته باستمرار ثروة شديدة الصلة بمصالحها وبالأسس والمواصفات التي تستند عليها في التعامل مع النخب المسؤولة عن كتابته وتوظيفه، و التي  لديها رغبة  فطرية   في عدم الاقتصاد من الجهود اللامجدية لتفسير معارك الحاضر الماثل للعيان، بتاريخ لا يسندها فيه مرجع ولا دليل إثبات، ومن تصف نفسها بكتاب أدب المناسبات التاريخية وأساسه عندها إحياء الماضي في الضمائر وفق رؤية مناقبية تحول حكايات وتواريخ وسير مجموعات معينة إلى إلياذة أبطالها محلية، و تشبح ( نسبة للأشباح)  وتشيطن حكايات مجموعات أخرى. 
 
اليوم( 24 ابريل ) تحل الذكرى 28 لقمة موجة الإبادة والنهب اللتين تعرض لهما نصف مليون موريتاني استوطنوا جارتنا الجنوبية، قبل سنة 1989، التي نجمت ظاهريا عن حادث بسيط  بين منمين على قرية حدودية اندلعت بعده موجات من عمليات القتل والإبعاد المتبادلة بين الدولتين، وما تلاها من تداعيات إنسانية وسياسية وصلت شفير النزاع المسلح وأسست لمنعطف فاصل ، فرض على الموريتانيين الاستفاقة من وعي وتفكير استغرقهم خطره لمدة طويلة، هو عدم  الاعتقاد في شيئ لا يزال قائما.
 
كما حتم عليهم مراجعة علاقاتهم بالمحيط والجيران وفق تحليل ينطلق من الواقع كما هو وليس وفق ما يرجون ويأملون،  وتغيير زوايا الرؤية الاستراتيجية التي نهض عليها كيانهم الذي أرادت له فرنسا أن تترعر نواته الإدارية والسياسية في أحشاء الدولة السينغالية، ويبقى دون فطام.
 
انفجرت أحداث 89 وميزان القوة يميل بشكل كامل لصالح دولة لديها تعاون عسكري وثيق مع فرنسا وعلى أرضها تقيم قواعد بحرية وجوية عديدة ، عززته بأن ارسلت إلى شواطئها في الأسطول الفرنسي المكلف بالدفاع عن الواجهة الإفريقية للمحيط، بالتزامن مع مناورات بين البحرية الأمريكية والسينغالية في يوليو 1990،  وحركة نشطة  للطائرات البريطانية بمطار داكار الذي سبق أن استخدمته بكثافة 1986 محطة للتزويد في حرب المالوين 1986، ودعم دبلوماسي من جانب المملكة المغربية الشقيقة وكل دول الخليج العربي، تم التعبير عنه أحيانا بوضوح تجاوز حدود اللياقة الدبلوماسية المعهودة و أبرز الوجه المعتم في سلوك الدول حين تتشبث بمصالحها في اللحظات التي يلزمها الأمر أن لا تكون مثقلة بالاعتبارات المعنوية وفي مقدمتها تداخل وتشابك وشائج الرحم والقربى.
 
اليوم بعد أكثر من ربع قرن تجمع القرائن والأدلة أنه على الأرض السينغالية تشكلت بذور الصراع الفعلي لهذه الأحداث المأساوية، وأنه ما كان لها أن تنفجر بهذا  المستوى من العنف والدموية لولا سعي جهات تمتلك القدرة على تغذية وضخ سيولة ومرور العوامل المؤدية إلى تسميم ونسف روح الوئام والتعايش القائم منذ آماد بعيدة بين شعبين، بهذه السرعة المدوية.
 
 في تلك الفترة لم تكن هناك صحافة سينغالية خارج دوائر نفوذ تلك الجهات وإن وجد فلم يمتلك من الحس النقدي ولا الحنكة ما يمكنه من تمييز المزيف من الصحيح، حاله في ذلك حال دوائر وصالونات إنتاج الشائعات والدعاية السياسية في موريتانيا، الكل تحول إلى منابر سهلة للتضليل وتوصيل الأكاذيب .
 
ويكفي لتأكيد ذلك الاستشهاد بقفرة واحدة من فقرات عديدة من مذكرات الرئيس السنغالي المعاصر لللأحداث عبدو ديوف الصادرة بتاريخ 14/11/2014: حين يقول بلفظه  (اعترف أنني لاقيت مصاعب كثيرة مع بعض الشخصيات السنغالية في منطقة النهر ... كانت تريد الحرب الفعلية مع موريتانيا.
 
أذكر على وجه الخصوص شخصيتين كنت أكن لهما الكثير من التقدير والإحترام وهما: الدكتور حمت با، الذي يكبرني في السن،والذي كان ينتقدني في كل المهرجانات التي يقوم بمداخلات خلالها، وعلى بوكار جا، الذي كنت معجبا به كثيرا عندما كنت شابا في الثانوية وعضوا في مجلس الشباب السنغالي-بصفته رئيسا لمجلس شباب إفريقيا الغربية الفرنسية، كان الاثنان يغلًبان العاطفة على العقل، بيد أنهما لم يكونا وحدهما من يدق طبول الحرب خلال تلك الأزمة.
 
أتذكر آراء بعض الأشخاص الذين كانوا يقولون لي السيد الرئيس ما فعلته موريتانيا غير مقبول،عليكم أن تعلنوا عليها الحرب،كانت نفس المطالبات تأتي من بعض الفرنسيين الذين كانوا يقولون  لي:"ماذا تنتظرون بعد كل ما فعلوه لكم؟أنتم مجبرون على إعلان الحرب لأنكم لا تستطيعون فعل غير ذلك".
 
الشخصيات السينغالية المنحدرة من منطقة النهر، مدعومة باتجاه وازن في الدولة الفرنسية أججا الأحداث على أمل أن يعيدوا موريتانيا مطواعة إلى المجال الذي كان عاصمة لها قبل 1958، ولا أحد ينكر أن معسكر السلم في السينغال أحجم عن ذلك، لكن ليس بدافع الرغبة في السلام وحدها، بل لأن ميزان القوى العسكري تغير حين وقف إلى جانب موريتانيا من أشقائها النظام الوطني في العراق الذي كان يفيض من نبض المروءة، وقيم التضامن العربي... وما تلا ذلك الوقوف يعلمه الجميع وأكدت حقائقه حرفيا مذكرات الرئيس السينغالي عبدو  ضيوف.