حرصت التنظيمات الجهادية منذ نشأة القاعدة وحتى تنظيم الدولة الإسلامية ـ عن قصد ووعي ـ على دفع الشعوب الغربية نحو اختيار اليمين المتطرف، ويرى منظرو تلك التنظيمات في ذلك رفعا للبس الذي يعتقدون أنه غشي عيون وقناعات كثير من المسلمين، حول وجود معتدلين منصفين في الغرب، وتقوم فلسفة تلك التنظيمات على أن مرحلة المفاصلة المنشودة من طرفهم بين الغرب والمسلمين، تمر حتما باختيار الشعوب الغربية للمتطرفين المجاهرين بالعداء للعقيدة والحضارة الإسلاميتين، على أمل أن تسقط تلك الخيارات أطروحات ونظريات رافضي العنف من دعاة التعايش السلمي في العالمين الإسلامي. والغربي.
اليوم ينفذ تنظيم الدولة الإسلامية هجوما في باريس، اختار مكانه وزمانه وضحاياه بعناية فائقة، فقد عمد المهاجم إلى رجال الأمن المكلفين بتأمين الفرنسيين ومواجهة الإرهابيين والقضاء عليهم، وانتقاهم كضحايا ليوصل رسالة إلى لفرنسيين ذات وقع بليغ، مفادها أن من لم يحم نفسه لن يحمي غيره، وللتأثير نفسيا على رجال الشرطة عبر إشعارهم ـ فعلا لا قولا ـ أنهم هدف قبل غيرهم، وشغلهم بالسعي لتأمين أنفسهم قبل تأمين الآخرين، بما يشكله ذك من تأثير نفسي يشل الكثير من قدراتهم النفسية والبدنية.
ثم قصد جادة الشانزلزيه بما ترمز إليه من سيادة ومكانة لدى الفرنسيين، وما يفترض أنه يتوفر لها من حماية وتأمين، ليوصل رسالة ثانية أن من فتك في جادة الشانزلزيه، سيكون قادرا على إلحاق الأذى بالضواحي والشوارع والأماكن الأخرى متى ما أرد ذلك.
واختار الزمان بدقة، حيث بلغت حالة الاستنفار الأمني ذروتها، على عبد يومين من موعد الانتخابات الرئاسية التي يتوفر فيها اليمين المتطرف على نسبة حظوظ لا يستهان بها، ليدفع بالناخب الفرنسي إلى التقدم نحو صندوق الاقتراع وهو تحت تأثير الصدمة النفسية، بما يعنيه ذك من تحيكم للعاطفة واندفاع نحو خطاف اليمين الدوغمائي المتطرف.
من هنا يمكن القول إن هجوم باريس ليس خبط عشواء ولا عملية طائشة مبتورة السياق كما يتصور كثيرون، بل هي جزء من إستراتيجية مدروسة ومقصودة، ولها أهداف مرسومة وغايات معلومة، وفي مقدمتها دفع الغرب إلى حكم اليمين المتطرف والمواجهة المفتوحة مع العالم الإسلامي، فهل سيقع الفرنسيون في فخ تنظيم الدولة الإسلامية.
ولعل الرسالة الأخيرة للهجوم كانت موجهة إلى "فرانسوا هولاند"، أكثر الرؤساء الفرنسيين اندفاعا ومشاركة في الحرب على ما يسمى الإرهاب، حيث أرسل قوات إلى العراق وسوريا وشمال مالي وجنوب ليبيا والنيجر، سعيا للقضاء على "الجهاديين" أينما كانوا، فأقاموا له حفلة وداع قريبة من قصر الإليزية، على جادة الشانزلزيه، ومضمون هذه الرسالة أن "ارحل ونحن الباقون".