كبير ذلك التنافر والتناقض بين شعورك تجاه الروس حين تقرأ بعض الأعمال الأدبية الكبرى المترجمة لعظماء كتابهم، وبين شعورك وأنت تقرأ أو تسمع إعلامهم وترى سياسات زعمائهم اليوم!
والحقيقة أن أسوأ مضار الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين هو أن يدفعك الخصام معهم إلى الصداقة والتحالف مع روسيا!
ولكلمة "الصداقة" في القاموس السياسي الروسي معنى كريه في ذاكرتي، بسبب الاستماع إلى برامج إذاعة الصداقة العربية من موسكو، ونشريات السفارات في عصر الاتحاد السوفييتي؛ حيث كنت ـ ككثيرين ـ نرى الأمل في تلك الدولة الشيوعية المناهضة للغرب، الصادحة بخطب "الصداقة" الاشتراكية لشعوب العالم الثالث المطحونة؛ فلم يكن ذلك إلا "جعجعة بدون طحين" كما يقول المثل!
لقد استمدت معظم الديكتاتوريات العربية خطاب الدجل السياسي والهراء الإيديولوجي من وحي الثورة الشيوعية الماركسية/اللينينية. وربما من فيروس فشل تلك الثورة وإفلاس خطابها، فتكت أمراض تلويث العقول وتزييف الوعي وفشل السياسات، بـ"قادة" الثورات وزعماء التقدم والاشتراكية والمقاومة في العالم العربي... فأسقطت أنظمتهم شر مسقط، بينما لا تزال الأنظمة الرجعية الأسوأ طوية والأقل بأسا ـ ظاهرا فقط ـ في الدعاية والتوسع، صامدة على علاتها.
وفي الحقيقة فإن تدجين التاريخ وقتل الطاقات وتحصين الفساد وقرصنة الأوطان، هي الضربة في المقتل؛ سواء كانت بواسطة الحكم بالانقلابات العسكرية، أم بواسطة الحكم بالتوريث والتعصيب!
*
كانت روسيا ـ وهي الاتحاد السوفييتي ـ إحدى "آفات" الأمة العربية في العصر الحديث؛ فهي لا تناصر ولا تحتضن سوى أسوأ أنظمة الاستبداد، ولا تقدم من المساعدة لأصدقائها العرب سوى أسلحة الهزائم وخطط الفشل.
والواقع أن روسيا نفسها لا تملك أفضل من ذلك؛ فهي قوة كبرى ظاهرا، ولكنها من الناحية الاقتصادية والسياسية دولة صغرى، تعيش على الابتزاز بترسانتها العسكرية التي كرست لها ـ عبر السنين ـ كافة مصادرها وقوتها.
ولهذا فروسيا اليوم لا تُصدر سوى أسلحة الدمار، أو النفط والغاز اللذين تنافسها في تصديرهما دول صغيرة في العالم.
بعد فشل المنهج الشيوعي السوفييتي، تخلصت روسيا من أهم مميزاته العامة وهي الاشتراكية والمساواة في العيش بين طبقات المجتمع الكادحة، لتنتقل إلى "متسكع" على أبواب الرأسمالية الجشعة، دون أن تملك مقومات ولا وسائل النظام الرأسمالي من الديمقراطية وسيادة القانون والعدالة. فكانت النتيجة أن خسرت "محاسن" الاشتراكية، ولم تستطع كسب "محاسن" الرأسمالية، مع التحفظ على النعت بـ"المحاسن" في كلا المنهجين الغربيين أصلا!
روسيا بحكم إرثها الشيوعي السوفييتي، صاحبة المجازر والتهجير الديموغرافي والتطهير العرقي بحق المسلمين (الذين ما زالوا رغم ذلك يشكلون 20% من سكانها) في مناطقها الداخلية، وفي الجمهوريات التي كانت تسيطر عليها، في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان...
ورغم انفراط عقد جمهورياتها، وفشلها الذريع في يوغسلافيا وأفغانستان، لا تزال إلى اليوم تمارس هذه التصفية العرقية/الدينية ضد المسلمين في المناطق المسلمة التي بقيت تحت سيطرتها؛ مثل الشيشان، وداغستان، والقوقاز عموما، وبلاد الفولغا الواسعة...؟؟؟
وبالنسبة لعلاقات روسيا مع البلدان العربية، فقد كانت كارثة حقيقية، حيث أدى اعتماد القوى "التقدمية" العربية، واليسار عموما، على الدعم العسكري الروسي إلى السقوط في هزائم منكرة على كافة الجبهات العربية (مصر وسوريا 1967، اليمن الجنوبي 1990، العراق 1991...).
وفي الوقت الذي كانت روسيا تبيع السلاح الرديء لأصدقائها العرب، كانت تزود أصدقاءها الصهاينة بالمصادر البشرية ذات الخبرة والثراء؛ حيث شكل المهاجرون من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي أكبر كتلة بشرية صهيونية مستوردة في فلسطين المحتلة! فكانوا سببا في التفوق التقني الحربي، والاستيطان البشري اليهودي للأرض المقدسة على حساب أهلها الذين تجرفهم مستوطنات المهاجرين، ويقتلهم أبناؤها الغرباء بدم بارد وحماية دولية (تعد روسيا مؤيدا "احتياطيا" لها)!
وفي ظل التفاهم وتقاسم الأدوار والمكاسب مع أمريكا والغرب، تلعب روسيا في سوريا اليوم دور القوة الاستعمارية التي تتخذ من نظام وحشي منبوذ، قناعَ الدولة العظمى التي تحمي حلفاءها وتنجد أصدقاءها؛ في تجسيد مكشوف لاحتلالها ـ مع إيران ـ لهذا البلد العربي، وإنقاذ جزاره، وقيادة أعماله المروعة ضد شعبه؛ جنبا إلى جنب مع قوى الإرهاب والتطرف التي تقتل وتدمر من جانبها بوحشية منافسة!.
ولكن لما ذا اقتصرت "النجدة" الروسية على حليفها بشار الأسد، بينما اكتفت بالتفرج والتذمر الإعلامي، حين أطاح الأمريكيون وحلفهم الأطلسي بأصدقاء آخرين تقليديين لروسيا كانوا يعتمدون على عتادها وصداقتها؛ في العراق وفي ليبيا... مثلا؟
والجواب على هذا السؤال هو ببساطة، أن روسيا لا تلعب سوى "الدور" المسموح لها به، إن لم يكن محددا لها. فنظام آل الأسد يخدم وجوده مصالح أمريكا والغرب، وخاصة هدفهم الاستراتيجي الأكبر وهو تأمين "إسرائيل". ولقد أحسن بشار، كأبيه، القيام بخدمة هذا الهدف على مدى خمسين عاما الماضية، ليس بتوفير السكينة والهناء للاحتلال في الأرض السورية المغتصبة (الجولان) فقط، ولكن بلعب أدوار مساندة في تمزيق الجبهات العربية الداخلية (الحرب الأهلية في لبنان، ومساندة إيران ضد العراق).
إلا أن نظام الأسد من الناحية الأخلاقية بلغ درجة من الانحطاط والإجرام يصعب على الرأي العام الغربي تقبل الدفاع عنه مباشرة؛ وهي حالة تستدعي المثل الشعبي: "كم هو فظيع ذلك الذنب الذي يتعوذ منه إبليس"! فأوكلت مهمة حمايته القذرة إلى حليفه الروسي، بل يسعد الأمريكيون وحلفاؤهم اليوم بتحمل "عدوهم" الإيراني العبء المباشر في حماية النظام السوري وارتكاب المجازر والتهجير الطائفي باسمه ووسمه.
وهكذا فإنه رغم الفظائع والإبادة بالقتل والتهجير والتدمير، ورغم الغارة الاستعراضية المسرحية الأمريكية على "الشعيرات"، ما يزال وجود الأسد الخيار الأفضل لـ"إسرائيل" وحلفائها، حتى من العرب!!