خلال شهر مايو الماضي تلقّيت اتصالا من السيد محمد سعيد ولد الحسين الملقب الداه الذي دعانى لتسلّم نسخة مهداة إليّ من آخر أعماله، مذكراته التي حملت عنوان "رحلتي في الجغرافيا والسياسة".
كنت قد التقيت الرجل آخرة مرة-وللمرة الأولى-قبل سنوات. لم أكن أعرف عن الرجل ولا عن توجهه السياسي شيئا، لكنّ قراءة هذا الكتاب مكّنتنى من أتشارك معكم في ما يلي بعض النقاط التي أثارت إعجابي. وبشكل آخر للتعبير عن الاعتراف من خلال هذا الالتفاتة.
لقد كان العنصر اللافت في هذه المسيرة هو قدرة الرجل على التحول السريع من تاجر مواش في السنغال، حيث عمل بعد طفولة يُتمٍ قاسيةٍ، إلى مناضل سياسي في الحزب الاستقلالي العروبي النهضة بدء من منتصف سنة 1958. وفي ذلك دليل على طموح هائل وقدر محتوم سار إليه بإرادته ومغامرة جعلت منه بحق أحد الأفراد العصاميين. إنه يمثل شريحة من الموريتانيين لم تتلق تعليما استعماريا باللغة الفرنسية، بل كان تكوينهم الأساسي باللغة العربية التي وجدت فيها دول شرق أوسطية ثورية ناشئة ليس فقط لغة تعليم ولكن أيضا وسيلة وجودية وأداة انفتاح سياسي.
في البداية، انطلق من السنغال للالتحاق بأخيه أحمد في المغرب بنية التعلّم. وتابع تعليمه الابتدائي في المعهد العالي بتارودانت لمدة ثلاث سنوات، قبل أن يسجل في ثانوية مراكش تحضيرا لولوج جامعة بن يوسف. خلال هذه الفترة كان المؤلف شاهدا على الخلافات بين الوجهاء الموريتانيين الذين انضموا للمغرب نهاية 1957 ولاسيما بسبب سعي بعضهم إلى تجنيد الشباب الموريتانيين الذي يطلب العلم في جيش التحرير لكي يشنوا حرب عصابات ضد بلدهم، ولم يكن هذا الجناح الذي يدافع عن سياسة التجنيد القسري قادرا على الحديث علنا عن مبرراته. ذلك ما دفعه لمغادرة المغرب إلى مصر. وقد كانت تلك شهادة أضاءت مرحلة هامة من تاريخنا خصوصا تلك الخلافات غير المعروفة بين هؤلاء الوجهاء. وهو ما تجسد في التباين في وجهات النظر بين من يذهب إلى ضم الأرض بكل بساطة ومن يذهب إلى تحقيق وحدة فيدرالية بين الدول العربية كما هو الحلم العزيز على الرئيس عبد الناصر.
يتذكّر المؤلف بكثير من التقدير الأستاذ باهي محمد الذي ساعده في إكمال رحلته الشرق أوسطية، بل يمكن القول إنه تأثر به حتى في توجهه السياسي. فقد انضم لحزب البعث السوري الذي أدخل ونشر أفكاره لاحقا في موريتانيا. جاء المؤلف إلى مصر سنة 1963 عبر مدينة نيس الفرنسية مستقلا الطائرة للمرة الأولى، في رحلة مميزة جدا بالنظر إلى صعوبة الظروف التي مرت فيها رحلاته الماضية وستميز أيضا رحلاته المستقبلية. وفي القاهرة جاءت فكرة الالتحاق بتكوين عسكري. لذا عاد إلى موريتانيا وأمضى فيها سبعة أشهر للحصول على ترخيص من السلطات العسكرية، حيث اشترط المصريون ذلك حتى يبدأ تكوينه. وهو ما يكشف لنا أن المؤلف لم يتخل أبدا عن انتماءه الوطني. ففي طريقه إلى موريتانيا لم يفوت فرصة المرور على سفير موريتانيا في تونس ليكشف له عن نيته العودة إلى موريتانيا، كما نلاحظ أنه لم يتعرض بعد عودته لأي مضايقة. أجرى اتصالات مع الرئيس المختار ومع محمد فال ولد عمير وبوياكي ولد عابدين، وكتب عدة مقالات نقدية للحكومة القائمة وشارك في تأسيس مدارس ابن عامر وفي المظاهرة الأولى الداعمة للشعب الفلسطيني. لكن رفض محمد ولد الشيخ المشرف حينها على تنظيم الجيش الوطني لدمجه في القوات المسلحة دفعه لمغادرة البلد من جديد. وصل إلى الجزائر في طريقه إلى القاهرة لكنّ معلّمه محمد باهي وجّهه إلى سوريا حيث التحق بالأكاديمية العسكرية بحمص وخضع لتكوين عسكري بين 1965 و1967.
كان شاهدا على وصول مجموعة من الطلبة الموريتانيين إلى سوريا سنة 1967 برعاية الطالب الموريتاني في فرنسا حينها محمد محمود ولد اماه، وهي النواة التي تشكل منها أول اتحاد للطلبة الموريتانيين سنة 1968 تحت مظلة حزب البعث. وبتدخل من السوريين درس المؤلف لسنتين في ألمانيا الشرقية في مجال الدراسات السياسية والنقابية. وعاد مجددا إلى بلاده، وكان لافتا أنه تقبّل بسهولة-رغم هذا المسار الأكاديمي-أن يكون مراقبا في الثانوية في نواكشوط أولا ثم في أطار والنعمة وكيفه والعيون. كان يرى في نضاله واجبا وليس مسعى للحصول على مكسب شخصي.
وجاءت حرب الصحراء لتمنحه الفرصة لتحقيق حلمه العزيز على قلبه وهو الدمج في القوات المسلحة، حيث بدأ العمل في المكتب الثاني مساعدا لقائده قبل أن يكون قائدا له بعد فترة، وأدى خلال عمله مهاما عدة في مصر والأردن. وكان ضابط المداومة في قيادة الأركان عندما هاجمت جبهة البوليساريو القصر الرئاسي سنة 1976، وذهب إلى القصر ليجد الرئيس المختار وحده فأمده بدركي لكي يرافقه إلى أحد أقاربه. عمل بعد ذلك في عدة مواقع في الصحراء وفي العيون وفي الجريدة وكان مديرا لمكتب الدراسات والتوثيق (مخابرات) تحت حكم الرئيس ولد هيداله-الذي نصحه ذات يوم من يوليو سنة 1981 بأن يمسك عليه لسانه- قبل أن يبعده قائدا لإحدى الوحدات في أقصى الشمال الموريتاني. وعاني من ويلات تلك الحقبة المضطربة: تشويها واعتقالا، وفصلا من المؤسسة العسكرية سنة 1982 ليعود إلى المنفى والعمل تحت الأرض. هذه العواصف المتتالية لم تتوقف طوال سنوات الثمانينات.
التحق مؤلفنا بالحزب الجمهوري، لكن سرعان ما غادره سنة 1993، وبدأ مرحلة تطواف سياسي- قادته للاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم ثم لتكتل القوى الديمقراطية-في مربع تحرّكت فيه كل الأجيال منذ نشأة الدولة، من عهد الحزب الواحد إلى عهود الأنظمة الاستثنائية. لقد رسّخ التعصب السياسي والسرية ومحاكمة النوايا في لاوعي هذه الطبقة إحباطا يجعل منها على حافة الجنون والاضطراب العقلي، وهو ما كان له أثره السلبي على الاستقرار في الرؤى الأيدلوجية والسياسية. ولقد نشط المؤلف طويلا تحت الأرض مؤسسا سنة 1977 ما يشبه الجناح العسكري الذي أطلق عليه "المثنى" لينتهي الأمر باعتقال أصدقاءه الأيدلوجيين في الجيش سنة 1988.
لقد كان جادّا في الدفاع عن موريتانيا متعددة الإثنيات يجد فيها الجميع مكانه في جهود البناء الوطني، وذلك على الرغم من الرؤية الطائفية التي يوصم بها أصدقاؤه في حزب البعث الموريتاني من جهة ولكن أيضا الذين يدافعون عن التعريب الكامل من جهة أخرى.
لقد كتب بشكل مباشر وبتواضع وبصراحة ودُعّم بالتفاصيل على سبيل المثال تأشيرة الخروج في رحلته الثانية إلى مصر والموقعة من طرف المفوض لي محمد واسم الفندق الصغير الذي نزل فيه خلال رحلته.
ونلاحظ أن مثل هذه الالتزام السياسي والعسكري الفذ لم يجد اعترافا لا من زملاءه، بل على العكس تعرض للهجوم من طرفهم، ولا من رفاقه في السلاح. هؤلاء الذين استفادوا من ظروف مخففة عندما انتهكوا أسطورة حظر تسييس الجيش.
للمؤلف مسار فريد لا يستحق مثل هذا التجاهل، وهو الذي وهب نفسه لإنارة الرأي العام فيما يتعلق بالماضي القريب لجزء من حملة الأفكار السياسية في البلد. فهل كان مصيره على مستوى هذا المسار الغني بالأحداث؟ أم أنه كان ضحية لأفكاره؟