بالمختصر، يمكن أن يكون لأهل السياسة في موريتانيا، موالاة ومعارضة، كتاب يعلّم الإنسان كيف يصقل تاريخه ويبني مستقبله السياسي "في خمسة أيام"، ولكن مع ذلك ستظل "وحدة الهدف" غير مقنعة لجموع عريضة من مواطني هذا البلد، ممن يملك بعض ذاكرة حية. فمن حق مَن كان طرفاً فاعلا في أنظمة استبدادية سابقة أن يغير موقفه منها بصدق وحماس، ولكن لن يقنعنا أحد بسلامة تصدره لمشهد الفعل السياسي الجماهيري، على الأقل. ذلك ما أكاد أجزم أنه الْيَوم رأي أغلب شبابنا في السيد الرئيس السابق اعلي ولد محمد فال وإخوانه، في إطار العمل السياسي النضالي.
أما فيما يتعلق بمجال حقوق الإنسان والحريات العامة، وتعقيباً على تصريحات السيد الرئيس في برنامج "في الصميم" بخصوص قضية المهندس محمدو ولد صلّاحي فإن ولد محمد فال يعرف أن ما أدلى به بشأنها يجانب الواقع، مع كامل الاحترام. فالمتابع العادي -أحرى قادة الأمن- حينها يعلم أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) نتيجة تحريم التعذيب وانتهاك مسطرة مقاضاة السجناء على أراضي الولايات المتحدة (وهو السبب المعلن لإنشاء معتقل اغوانتنامو، وما يعيق إغلاقه حتى الآن) كانت تتخذ سجوناً سرية وعلنية في العالم الثالث؛ في مصر والأردن وافغانستان وغيرها.. وأنهم هم من استجوب ولد صلّاحي في انواكشوط وطالب باعتقاله، بدون تقديم أية أدلة تدينه، باعتراف مدير أمن الدولة وقتئذ ددّاهي ولد عبد الله. ويدرك أيضا أن غياب أدلة إدانة لدى الأمريكيين هو ما جعل السينغال تسلم ولد صلّاحي لموريتانيا، وتُبرئ نفسها من ملفّه، في اتصال هاتفي من الطائرة المقلة له، وفِي مؤتمر صحفي "غريب" على هذا النوع من القضايا يومها.. لم يكن هذا المواطن مسلَّمًا للاستجواب في إطار التعاون الأمني الدولي كما تفضلتم، سيادة مدير الأمن السابق، فاستجوابه كان متاحا هنا وقد استبحتم كرامته في وطنه، يستجوبه من يشاء متى أراد. لقد سُلّم للأمريكيين -وأنتم تعرفون ذلك-، وهم من اختار وجهته تلك (الأردن)، إلى حين ترتيب تحويله إلى جحيم آخر.
ثم هل كان من "التعاون الدولي" أيضا أن يتم التدليس على عموم الشعب الموريتاني في أمر مواطن بريء يتعرض لمحنة كبيرة مثل هذه. ويتم إيهام ذويه بأنه مسجون في بلده؛ يأتون إليه بالطعام والثياب مدة طويلة. في الوقت الذي كان يعاني فيه أقسى صنوف العذاب النفسي والجسدي، متنقلاً من سجن سيّء إلى آخر أسوأ منه؟.. ولا تزال حتى الآن سيارته التي ركنها عند بوابة إحدى إدارات أمنكم قبل أزيد من خمس عشرة سنة شاهدة على الإهمال والاستهتار بالمشاعر الذي تم التعاطي به مع قضيته.
يمكن أن تكون للمهندس ولد صلّاحي نفس أبية كريمة اختارت الصفح عن جميع من له صلة بمعاناة الخمس عشرة سنة، ورأت أن ما حدث من الألم يكفي وأن لا داعي لنكإ جراحه من جديد، وفضلت التطلع إلى المستقبل بإشراقاته وآماله. ولكن لهذا المواطن المظلوم -ياسادتنا الكرام- ذاكرة حية تتألم لتمييع قضيته وتزييف مسارها -بدون شك-، ولذويه جراحات شاخصة نازفة، تتطلب منكم احترام مشاعرهم على الأقل.
لقد قام السيد ددّاهي ولد عبد الله بتصريحات غريبة مشابهة، في مقابلة مع الصحفي الأمريكي مايكل برونر Michael Bronner، 19 ديسمبر 2016، حين أقر بعلمه ببراءة ولد صلّاحي، ثم قال في نفس الوقت بأن تسليمه لم يكن خطأ أبداً. في استهتار بالحقيقة والمشاعر غريب. فقد سأله:
(م ب) "كما ذكرتم، أنتم تعرفون محمدو، وتحاورتم معه عدة مرات. كيف تغير انطباعكم عنه؟ فكان ردّه: "شخصيا، لم أَجِد أي دليل مادي ضده". فأعاد إليه السؤال (م ب): "لم تجد دليلا على جريمة؟.." فقال له بالحرف: "بصراحة، لم أَجِد أي شيء يتعلق بجريمة، لا جريمة إرهابية ولا جريمة أخرى من أي نوع. التقيته عدة مرات، ولكن لم أَجِد شيئاً."
ومع ذلك عندما سأله في نفس المقابلة (م ب): "هل تعتقد أنه حدثت أخطاء؟" فرد عليه: "لا، لم تكن هناك أية أخطاء." ليضطر بعد ذلك للتهرب والمكابرة تجاه تعليق الصحفي (م ب): "عندك هذا الشخص، الذي قررتم أنه بريء، يعود بعد 15 سنة - بعد كثير من التعذيب- وأنت لا زلت تعتقد أنه بريء. هذا خطأ، أليس كذلك؟"... أي استهتار هذا؟!
على كل حال، يمكن -كما ذكرت- أن يتجاوز السياسيون في بلدنا المراحل المظلمة من حياة بعض الفاعلين في أنظمة الحكم السابقة، ويجاملونهم لأجل طبيعة اللحظة وإكراهات الموقف، ولكنهم يسيئون -باعتقادي- إلى مبادئهم ويخسرون جماهير شعبية عريضة هي خير لهم وأبقى.
الجميع يعرف أن السادة: معاوية ولد الطايع واعلي ولد محمد فال وددّاهي ولد عبد الله هم واضعو السياسية الأمنية لتلك العقود المظلمة، ولذلك فإن مجرد تبرؤ أحدهم لفظيا من مسئوليته عن ما حدث خلال تلك الحقبة لا تسانده وقائع ولا تسعفه ذاكرة. فإذا كان هؤلاء السادة لا يَرَوْن أن هذه القضايا التي يتحدثون عنها الآن بوصفها جرائم وخروقات قانونية لم تكن في نظرهم يومها كذلك فتلك مصيبة عظيمة، وأما إن كانوا يَرَوْن أن الانتساب إلى نظام حكم ما يقتضي السكوت والاشتراك في انتهاكاته ومظالمه فتلك مصيبة أعظم.
كان بإمكان قادة الأمن في تلك المرحلة حين قرّروا الحديث عنها أن يعتذروا للعامّة، كما يعتذر بعضهم للمعنيّين الخاصة، فنحن شعب مسامح، والمصارحة الشجاعة أفضل من التستر بحجج لا تستقيم. أما وقد قرّروا أن يتجاهلوا آلامنا وجراحنا "الماضية" بالاستثمار في معاناتنا الحاضرة، والبناء على أساس تاريخي مختل، فإننا لن نترك لهم ذلك. فأنين المعذّبين في مفوضيات الشرطة، ودموع المفجوعين من ذوي ضحايا رجال أمن تلك المرحلة، ستجبر أولئك المظلومين، ومَن له أبسط إحساس حقوقي أو إنساني في هذا البلد على أن يُفشلوا تلك المهمة، فلا يزال لنا -على الأقل- بعض ذاكرة حيّة.