قد لا يجد المتتبع لملف العبودية في موريتانيا كبير عناء في إدراك حقيقة مفادها أن حكومة المهندس يحي ولد حدمين قد خسرت أو أنها بالأحرى بصدد خسارة ملف العبودية على الرغم من المجهود الإعلامي الذي تقوم به قطاعات حكومية متعددة مثل مفوضية حقوق الإنسان ووزارتا العدل والشؤون الإسلامية التي باتت استراتيجياتها في هذا المجال تشكل نوعا من الاستجابة الشرطية ورد الفعل تجاه الآلة الإعلامية القوية التي تمتلكها الأطراف المناوئة لها والتي أصبحت خطاباتها ومواقفها شئنا ذلك أم أبينا تثير اهتماما متزايدا لدى الرأي العام الدولي ولدى بعض الأطراف ذات الأجندات الخاصة في الجوار الإقليمي.
مظاهر خسارة هذا الملف خارجيا على الأقل متعددة وأصبحت بادية للعيان فهي تبدو أولا من خلال تدويل الملف بحيث أصبح علينا من الآن فصاعدا أن نتعامل معه كموضوع يتجاوز الشأن المحلي. وتتجلى خسارة هذا الملف أيضا من خلال الكثرة المرضية للأنشطة السياسية والحقوقية المحسوبة عليه حقا أو باطلا : خارجيا تظهر خسارة الملف من خلال الأزمة "الصامتة" حول الملف مع معظم الشركاء الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية بالإضافة إلى بعض الهيئات التابعة للأمم المتحدة والكثير من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وهو ما يظهر في مواقف تلك الدول والهيئات وتزايد التقارير والبيانات الصادرة عنها وفي طريقة احتفائها بالمنظمات الحقوقية المناوئة للحكومة .أما على المستوى الداخلي فإن الحكومة بصدد خسارة الملف أيضا بسبب اتباعها لسياسة الفوضى الخلاقة التي لن تؤدي على المدى البعيد إلى خسارة الملف فحسب وما يمكن أن ينجر عن ذلك من أوضاع لا يمكن التنبؤ بعواقبها بل وإلى دفع المهتمين بالقضية(المعتدلين منهم والمتطرفين على حد سواء) والذين سئموا من الاستخفاف ببعضهم والتلاعب بالبعض الآخر إلى موقف موحد قد لا يكون بالضرورة في صالح الحل السلمي والعادل للقضية. أصبحت سياستنا في الموضوع أشبه ما تكون بدور رجال الإطفاء نطفئ نيرانا كنا قد أشعلناها بأنفسنا وأحيانا نطفئها بإشعال نيران أخرى فماذا لو عجزنا يوما عن إطفاء تلك النيران كلها ؟ّ! فعوضا عن القدرة احتواء الخصوم والأطراف المعارضة وجعلها جزءا من مشروعنا نقوم على العكس من ذلك بخلق العداوات والصراعات الوهمية بين القوى السياسية والمنظمات فيما بينها وحتي بين مكونات الشعب ذاته ونعمل على مقاومة التطرف بالتطرف حتى وصل بنا الأمر إلى نوع من الفئوية المعممة التي لم تعد تستثني أي مكون من مكونات شعبنا .
إن ساحة المعركة الحقيقية ليست - كما هي العادة دائما - نخبة الحراطين السياسية والفكرية وتموضعاتهم داخل النظام أو خارجه بل هي تلك الجماهير الموجودة في تجمعات "آدوابه" وتلك الكثرة البائسة في هوامش المدن الكبرى المتعطشة إلى الإنصاف والعدالة والتي لا تعني لها تلك النخبة الشيء الكثير بالنظر إلى حجم معاناتها واستمرارها. ليس المهم كم عدد "ممثلي" هذه الشريحة أو غيرها في هذه الحكومة أو تلك بل المهم هو ما تقوم به الحكومة لضحايا الإرث الإنساني للاسترقاق مما ينعكس على حياتهم بشكل ملموس بعيدا عن خطابات السياسة السياسوية وممارساتها.
وفي تقديرنا أن الاعتماد المطلق على المقاربة الأمنية والسياسية للملف بالعمل على تمزيق القوى السياسية واختراق المنظمات الحقوقية وتأليب بعضها على البعض الآخر وتجاهل المقاربة الصحيحة للموضوع وهي المقاربة الاقتصادية - التربوية : هو الذي أدى إلى خسارة الحكومة للملف كل ذلك يحدث تحت أنظار المجتمع الدولي الذي أصبح يتابع الموضوع باهتمام بالغ.
والحال أن المتتبع لهذا الملف لا بد أن يلاحظ علاوة على التغير الواضح في الخطاب الرسمي حول المسألة انحسار جهود مقاومة آثار الاسترقاق وتراجعها بصورة دراماتيكية في المأمورية الثانية للرئيس محمد ولد عبد العزيز وهو ما يظهر من خلال جملة من المؤشرات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
- اختفاء خارطة الطريق لمحاربة مخلفات الرق في أدراج الحكومة الحالية واختزالها في حملات "التوعية" ضد مخاطر العبودية التي تستهدف ضحايا الاسترقاق في حين أول من يحتاج إليها في الواقع هم الفقهاء والأئمة أنفسهم الذين لا تعكس قناعاتهم الداخلية وخطبهم في بعض الأحيان سياسة الدولة ولا المنظومة التشريعية المتعلقة بالموضوع .
وفي اعتقادنا أن تطبيق بنود خارطة الطريق بشكل صحيح هو الحل الأمثل ولا يعنى أبدا كما قد يظن البعض الرضوخ للإرادة الأجنبية أو الانتقاص من سيادتنا الوطنية لأن الحكومة الموريتانية هي التي قامت بصياغتها فقرة بفقرة بما يتوافق مع رؤيتها للقضية وبحسب ما تفرضه الوقائع على الأرض وليس بحسب المزايدات والأجندات الخاصة لبعض الأطراف المحلية والأجنبية لذلك فإن تنفيذها والعمل بمقتضاها هو قبل كل شيء عمل استراتيجي يصب في خانة الاستقرار والتماسك المجتمعي ويجنب المجتمع مخاطر الفوضى والحرب الأهلية.
- اختفاء مشروع المناطق ذات الأولوية التربوية (ZEP) الذي خصصت له الدولة بعض المليارات من الأوقية والذي هو أيضا من مقتضيات خارطة الطريق وذلك في إطار معركة كسر العظم مع الحركات السياسية والمنظمات الحقوقية المعنية بالموضوع والحقيقة أن من نكسر عظمه في الواقع هو جزء كبير من مجتمعنا يعاني من الجهل وانعدام البنية التعليمية الملائمة كما وكيفا ومن الفقر وقلة الحيلة.
- من بين تلك المؤشرات أيضا محدودية الدعم الذي يحصل عليه المزارعون خصوصا في ميدان الزراعة المطرية وأتحدث هنا عن غياب سياسة زراعية متكاملة تعمل على توفير الوسائل التي تساهم في تحقيق الأمن الغذائي للدولة بصفة عامة وتضمن للمزارعين الاستفادة القصوى من نشاطهم الاقتصادي : تعميم القروض الزراعية مع كل الضمانات المطلوبة التي تضمن استعادتها، شراء المحاصيل الزراعية (حبوب وخضروات..)، بنوك الحبوب ، تعميم الأسيجة لحماية الحقول الزراعية ولتفادى النزاعات التي تحدث بين المزارعين والمنمين من حين لآخر، توفير الآلات الزراعية الحديثة و توفير الأسمدة بأسعار مناسبة ومدعومة...إلخ هؤلاء القوم البسطاء من المزارعين وغيرهم من العاملين في قطاعات أخرى كالصيد التقليدي وغيره قوم لا يبحثون عن شيء سوى حقهم في العيش الكريم والحصول على نصيبهم من الثروة الوطنية من خلال خلق مشاريع حقيقية تعطي الأولوية للمجالات التي لها انعكاس مباشر على حياتهم.
- ابتعاد وكالة التضامن عن الأهداف التي أنشأت من أجلها وهي محاربة الفقر الناجم عن مخلفات الرق. والحال أن الأنشطة التي تقوم بها وكالة التضامن إذا لم تكن موجهة بالأساس للقضاء على الهوة التي تفصل بين ضحايا الاسترقاق وبين غيرهم تكون لا معنى لها ويصدق عليها المثل الشعبي : "هاذ سهمي وهاذِ خريجتي وهذا نسّابقولو وحولِ بيه" ! فلا يمكن أن تكون محاربة الفقر بما هو فقر هدفا لوكالة التضامن لأن هناك قطاعات حكومية مكلفة بهذا الموضوع، ولا يمكن لبناء المدارس في حدا ذاته أن يكون هدفا لهذه الوكالة لأن بناء المدارس هو من من صلب اهتمام قطاعات وزارية أخرى رصدت لها ميزانيات خاصة لذلك الغرض فأين ذهبت تلك الميزانيات ؟ وما الذي يجعلنا ننفق مرتين ونصرف ميزانيات مزدوجة في وقت نحتاج فيه إلى ترشيد النفقات العمومية ؟! هذه السياسات حولت وكالة التضامن في الواقع إلى وكالة سياسية بامتياز بعيدا عن الأهداف الأصلية التي أنشئت من أجلها ويتعلق الأمر بسياسة التمييز الإيجابي لإنصاف ضحايا الاسترقاق والقضاء على الهوة التي تفصلهم عن غيرهم من مكونات المجتمع اقتصاديا وتربويا على الأقل وتلك هي الأهداف التي تم تسويق الوكالة في الداخل والخارج على أساسها وهو ما جعلها تلاقي في البداية استحسان الجميع.
والحقيقة أن الخطاب الرسمي حول موضوع الاسترقاق ينطوي على نوع من التناقض : نحن نقر بوجود عبودية في الماضي القريب جدا وربما لا تزال توجد منها بعض الحالات لكننا لا نتخذ التدابير اللازمة للقضاء على مخلفاتها بالطرق المتعارف عليها في النظم السياسية والأعراف الدولية وفي معالجة الهوة التي خلقتها في مجالات الثروة والمعرفة والسلطة ونخضع الموضوع برمته للمقاربة الأمنية والسياسية شعارنا في ذلك : نحن نعالج الفقر الذي يعاني منه الجميع وكل من يهتم بالموضوع لا بد أنه من أصحاب الأجندات الخاصة!
والحال أن الفقر كما أشرنا إلى ذلك في مناسبات عديدة يوجد بالفعل في أوساط كثيرة من المجتمع لكن أسبابه مختلفة ومتعددة وكذلك طرق معالجته يجب أن تكون مختلفة الفقر قد يوجد لأسباب عرضية تصيب هذا الشخص أو تلك المجموعة لظروف طبيعية أو اجتماعية أو تاريخية مختلفة يزول بزوالها لكنه قد يوجد أيضا لأسباب جوهرية تتعلق باستتباعاتها ونتائجها تعلقا ضروريا وحتميا مثل العلاقة السببية بين العبودية وانعدام الملكية وبالتالي الفقر المتوارث ومن ثم انخفاض الحظوظ في التعلم الملائم في عالم ليبرالي يتراجع فيه دور الدولة الراعية . لهذه الأسباب نقول إن الفقر الموجود في شريحة الحراطين هو فقر متوارث بسبب غياب حالة المساواة الأصلية الشرط الأساسي لوجود العدالة في أي مجتمع من المجتمعات وهذا الأمر لا يمكن معالجته إلا بتطبيق التمييز الإيجابي وإلا فستظل الهوة قائمة وستؤدي على الدوام إلى حدوث توترات اجتماعية تزداد خطورتها بزيادة مؤشر الوعي في أوساط الضحايا مثل كرة الثلج وإذا استمر الوضع على ما هو عليه أخشى أن نضطر يوما ما إلى مواجهة الأسوأ. ومثلما ساهم تهميش المعتدلين في هذه القضية وتصفيتهم من طرف "المحافظين" إلى صعود المتطرفين أخشى أن يؤدي الاحتكاك بين المتطرفين والمحافظين إلى ما لا تحمد عقباه نظرا لعدم وجود أرضية مشتركة للتلاقي .لقد آن الأوان إلى تغيير سياستنا في هذه المسألة و أن نواحه قضايانا بحكمة وتبصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فشعبنا لا زالت تنتظره رهانات أكبر ولا يزال مصيره معلقا بسبب انشغال نخبته السياسية والفكرية بالتفكير في يومها وفي كسب قوتها وفي مصالحها الأنانية الضيقة.