وزير تعليم سابق يكتب مقالا يقترح فيه خطة لتنظيم الخريطة المدرسية في الأرياف

اثنين, 2017-03-13 17:08

مقترحات لإعادة تنظيم الخريطة المدرسية في الأرياف :د. البكاي ولد عبد المالك – وزير تعليم سابق.

عطفا على ما أشرنا إليه في مقال سابق يتعلق بالفوضى في الخريطة المدرسية في الوسط الريفي وما أدت إليه من حرمان أبناء الأرقاء السابقين في آدوابه والكثير من الفقراء في الأرياف من الحصول على حظوظ متساوية في التعليم نقدم لكم اليوم بعض المقترحات المتعلقة بإصلاح الخريطة المدرسية في الأرياف وهو ما قد يساعد أيضا في القضاء على آفة أكبر هي التقري الفوضوي. والمقترحات التي نطلعكم اليوم على جانب منها هي في الحقيقة جزء مقتبس من إصلاح شامل لمنظومتنا التعليمية في مراحلها المختلفة ابتداء من التعليم ما قبل المدرسي وانتهاء بالتعليم العالي كنا قد قدمناه للجهات المعنية بناء على طلبها سنة 2015.

يمكن القول في البداية بأن العقلية القبلية لم تمنعنا من وجود مجتمع متجانس قائم على المساواة أمام القانون بعيدا عن الطبقية والولاءات العمودية والمكانة الموروثة في جوانبها "الإيجابية" (توارث بعض أفراد المجتمع للاحترام والمكانة والحظوة أبا عن جد وما يترتب على ذلك من مزايا مادية وأمور معنوية) والسلبية (توارث بعضهم الآخر للفقر والجهل والدونية واستتباعاتها) بل منعت ولا تزال تمنع الدولة ذاتها رغم ما تمتلكه من قوة الإكراه والعنف المشروع من بسط سيطرتها على المجال الجغرافي واستغلاله على أكمل وجه بما يتماشى مع مصلحة المجوعة الوطنية وهو ما جعل المجال الجغرافي في الأرياف - الذي يشكل العمق الحقيقي للسكان والحاضنة الاجتماعية التي تساهم بحصة الأسد في الاقتصاد الوطني- يتحول إلى بؤرة للصراعات والنزاعات التي لا تنتهي.

العقلية القبلية لم تمنع ديمقراطيتها الفتية من أن تتأسس على أرضية صلبة قوامها المواطنة والانتماء إلى وطن جامع والتفكير بمفاهيم المصلحة العامة فحسب بل منعت أيضا الأداة الأساسية لنهضة الأمم من القيام بعملها بشكل صحيح ويتعلق الأمر بالمدرسة.

والحال أن مشكلة التقري الفوضوي مشكلة كبيرة وهي من أكبر التحديات التي تواجه التنمية بصفة عامة في هذا البلد والتعليم فيه بصفة خاصة : هي عائق أمام الديمقراطية والتنمية وعائق أمام الفاعلية الداخلية والخارجية للنظام التربوي الوطني وعليه يجب الشروع في حلها قبل التفكير في أي إصلاح ناجع لمنظومتنا التعليمية.

وفي اعتقادنا أن إعادة تنظيم المجال العمومي في الوسط الريفي عملية بالغة الأهمية للتنمية بصفة عامة وللتعليم بصفة خاصة في بلد يعاني من قلة السكان وسوء التوزع في المجال الجغرافي لكنها أيضا بالغة الصعوبة إذا لم تتهيأ لها الظروف الملائمة. لذلك فإننا هنا نعرض عليكم بعض المداخل الممكنة لخطة وطنية استعجالية لإعادة تنظيم المجال العمومي في الوسط الريفي على غرار ما هو حاصل في الوسط الحضري . فلا يمكن لأي مشروع تنموي مهما كان وفي أي مجال كان أن يؤتي أكله في ظل الانتشار الفوضوي للتجمعات السكانية والقرى المجهرية في الأرياف.

في هذه المشكلة يمكن التفكير على مستويين اثنين : على مستوى دمج وتجميع المدارس وعلى مستوى دمج وتجميع القرى ذاتها. وطالما أن دمج المدارس وتجميعها أسهل من الناحية العملية من دمج القرى وتجميعها فإننا نقترح لذلك القيام بالخطوات التالية:

لدمج المدارس في القرى والتجمعات الصغيرة المتجاورة نقترح ما يلي : تحديد دائرة معينة قطرها 3 كلم على سبيل المثال في المناطق التي توجد فيها تجمعات قروية صغيرة واختيار مركز لتلك الدائرة (قرية قائمة تتوفر فيها مقومات البقاء أو يتم بعثها من جديد في حال عدم وجود قرية رئيسية) تتوفر فيها المواصفات لبناء مدرسة متكاملة وحضانة مدرسية تقدم الغذاء والمأوى للتلاميذ (قد تكلف وكالة التضامن على سبيل المثال بمكونة بناء الحضانات وتمويلها ودفع المنح للطلاب والعلاوات الإضافية للمدرسين لأن هذا الأمر من صميم اختصاصها ) بعد ذلك يتم الشروع في بناء المدرسة أو التجمع المدرسي في مركز التجمع القروي (القرية الوسطى أو المكان الذي يتم اختياره لذلك) .

ولكن نظرا للحضور القوى للحساسيات الاجتماعية والعقلية القبيلة في تلك المناطق لا بد من اتباع آلية معينة تمنح لجميع سكان التجمع القروي أو المدرسي الشعور بالعدالة وتوازن المصالح بحيث تمنح للتلاميذ الوافدين من أطراف التجمع مزايا خاصة لا تتوفر لغيرهم تشجيعا لذويهم على الاندماج في التجمع :

نقترح على سبيل المثال منح أبناء القرى التي تمثل الأطراف أي القرى المرحلة (امتيازات الحصول على منحة في مقابل القرية المركزية صاحبة الحظوة في استضافة المدرسة التي يجب أن تقتصر حقوق التلاميذ المنحدرين منها على الاستفادة من خدمات المطعم دون غيرها لأن أهل القرية المركزية حالهم حال القرى الأخرى عادة ما يرتبطون بمشاغلهم في الحقل أو غيره ولا تسمح لهم ظروف العيش القاسية بالتفرغ لتربية الأبناء علاوة على جهلهم أصلا بأهميتها في تغيير أوضاعهم على المدى البعيد: هناك لا يفكر الناس إلا في شؤون يومهم.

وهذا الأمر يستوجب بالضرورة ترحيل البيوتات المتناثرة حول التجمعات المدرسية أو القروية إليها ولا خيار لأهلها سوى الترحيل إلى مركز التجمع: الترحيل لا يثير مشكلة في الوسط الحضري فلماذا يثيرها في الوسط الريفي ؟ الجواب هو العقلية القبلية والتنافس الذي يعود بالأساس إلى بعض الأمور المعنوية ليس إلا  إذ يكفي أن يقال "هاذو أهل فلان وهاذو أهل فلان وهاذي قرية أهل فلان" حتى ولو كان الأمر يتعلق بنسل رجل واحد "واصرفي يا حكومة" !! الترحيل عادة لا يثير مشكلة إذا كان يتضمن مصلحة للمرحل ويحافظ على حقوقه المشروعة في استغلال الأرض ومصادر المياه ... ويمنحه بعض المزايا الأخرى الإضافية وتبقى الدولة هي صاحبة السلطة التقديرية في كل ذلك وإلا فما الفائدة من وجودها.

بناء على ما تقدم يكون لدينا صنفان من التلاميذ : تلاميذ قرية المقر أو مركز التجمع المدرسي يتمتع أبناؤها بالنفقة فقط دون الحق في السكن في الكفالة المدرسية ودون المنحة المدرسية وبذلك تتحقق العدالة بين التجمعات وتلاميذ القرى المرحلة أو قرى الأطراف يتمتع التلاميذ الوافدون منها بالمأكل والمسكن والمنحة التي قد لا تزيد عن 5000 أوقية للشهر والنقل من وإلى المدرسة في أوقات العطل.

أما في حالة التباعد الشديد بين القرى فيتم اللجوء عندئذ إلى سياسة تجميع القرى ويراعى في ترحيل القرى بعض المعايير الموضوعية منها  الكثافة الديمغرافية وملاءمة المكان للتقري وتوفر مصادر المياه ونوعية المباني (أعرشة ،خيام، مساكن مؤقتة ، أبنية طينية ، أبنية صلبة من الخرسانة إلخ...)

وفي هذه الحالة هناك اقتراح ببناء مساكن للقرى المرحّلة تتولى وكالة التضامن جميع التكاليف المتعلقة بها مع العلم بأن الأهالي في هذه الأوساط لا يطلبون الكثير :  غرفة واحدة تكفي بالإضافة إلى حمام ومطبخ وحظيرة صغيرة للمواشي وبعض الألواح من الطاقة الشمسية وأشياء بسيطة من هذا القبيل                                                                                                                            و يجب أن تتضمن معايير إنشاء التجمعات القروية والمدارس المتكاملة أيضا تحديد كثافة سكانية معينة تكون هي الحد الأدنى لإنشاء المدرسة المتكاملة.

هذا الأمر يتطلب من السلطات بشكل مسبق القيام بتعيين المجال الحضري للتجمع القروي ضمن دائرة معينة لا يتجاوز قطرها 3 كلم هي الحدود المقبلة لمدينة محتملة سترى النور حتما في حالة نجاح المشروع وعليها أن تمنع منعا باتا على أي أحد مهما كان التقري أو حتى الاستقرار المؤقت خارج تلك الحدود وأن تتبع في ذلك أنواع العقوبات التي يقررها القانون في هذا المجال كالسجن وفرض الغرامات المالية وغيرها مع الصرامة في تطبيقها خصوصا وأننا نعرف جميعا أن الاستقرار المؤقت يتحول عندنا دائما إلى استقرار دائم.

ولنجاح هذه العملية هناك حاجة إلى تشكيل لجان جهوية تحت إشراف السلطات الإدارية المحلية في الولايات أو مجالسها الجهوية إذا ما تمت المصادقة على إنشائها لإعداد خريطة متكاملة للتجمعات السكانية بالبلد تضم جميع القرى وقياسات الأبعاد والمسافات بينها وتطبيق المعايير السابقة عليها بالموضوعية المطلوبة مع اقتراح تشكيل لجنة مركزية على مستوى وزارة الداخلية بالتنسيق مع الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم ووكالة التضامن مكلفة بمراجعة عمل اللجان الجهوية واستقبال التظلمات.

ويجب أن تكون الإدارة حازمة في فرض المصلحة الوطنية العليا في هذه القضية مدعومة في ذلك بالإرادة القوية من رئيس الجمهورية شخصيا وإلا فإن هذا المقترح لن يرى النور أبدا مع الإشارة إلى أن كل هذه الإجراءات ستظل ناقصة إذا لم يتم تطبيق قانون إجبارية التعليم بشكل صارم خاصة في الوسط الريفي.

وبنجاح مشروع كهذا نكون قد حققنا الأهداف المباشرة المطلوبة منه وهي إصلاح جزء مهم من منظومتنا التعليمية وتحقيق العدالة فيه وتذويب الفروق الاجتماعية بين مكونات الشعب والأهداف غير المباشرة وهي نشر الوعي المدني والقضاء على الحساسيات القبلية والنزعات الفئوية من أجل بناء مجتمع متجانس يسمح بممارسة صحيحة للديمقراطية وبتحقيق التنمية.