يبدو أن حديث التعديلات الدستورية، خاصة ما يتعلق منها بالعلم والنشيد، "حديث ذو شجون" حقا. فقد ذكرتنا آخر بياناته بالمقاومة الثقافية "المجمع عليها، والتي ما زالت مستمرة..."!!! يعرف أحد "المجمعين" المقاومة الثقافية بقوله.." تمثلت المقاومة الثقافية للاستعمار الفرنسي بموريتانيا في مقاطعة السكان للمدارس الفرنسية وتشبثهم بالمحاظر والتعليم الأصلي." هي إذن فعل سلبي كانت له نتائج إيجابية تمثلت في المحافظة على الهوية الوطنية ومقاومة الاستلاب الثقافي. وقد لاقت من التكريم والإشادة حظا وافرا تستحقه، لكنها مهما بلغت لا يمكن أن تقارن بالمقاومة المسلحة من أوجه عديدة. ذلك أن المقاومة المسلحة جهاد في سبيل الله استنفر الله إليه المسلمين، فقال تعالى.." انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ". ويعلم أصحاب الاختصاص أسباب نزولها، فلما شقت على المسلمين أنزل الله قوله تعالى.." لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " فعذر الله في الجهاد أصحاب الأعذار. لكنه بين في محكم التنزيل فضل المجاهدين على القاعدين، فقال تعالى.." لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا".
والذين تعاطوا المقاومة الثقافية هم أولئك الذين رأوا المقاومة جهادا أقعدهم عنه عذر رأوه مقبولا شرعا، فجاهدوا على قدر طاقتهم، فخرجوا بذلك، نحسبهم، من الرضى بأن يكونوا مع "الخوالف"، لكن الله فضل عليهم المجاهدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى. هذه الدرجة هي التي يريد دعاة تغيير العلم والنشيد الاعتراف بها وتخليدها. فلماذا ينفس "القاعدون من المؤمنين" على إخوانهم من المجاهدين درجة أثبتها الله لهم!!!
يرفع البيان الأخير شعار النصح، لكنه يتبنى "أولا" موقف أحد الطرفين معتقدا له.." أولا: أعتقد -والله أعلم- أنه لا مسوغ ولا مبرر لتغيير العلم الوطني، وأن في ذلك من الضرر، و الخطر، ما يفوق أي مصلحة، لو قدر وجودها أصلا." فأين النصح القائم على التوسط بين الطرفين، من مطالبة أصحاب الموقف الذي لا يتبناه الناصح ب" إجماع وطني كامل صريح غير سكوتي"!!! لا نذكر الناصح بما ينسب إلى الإمام أحمد في شأن مدعي الإجماع، ما دام يفصل فيه بين صريح وسكوتي، ويلتزم فيه مالا يلزم.."إجماع وطني كامل..."
يعتقد الناصح أن العلم "ثابت من ثوابت الدول، لا ينبغي أن تطاله يد التغيير..." لكن الواقع يظهر غير ذلك؛ فالعديد من البلدان غيرت أعلامها، ولم تعدها من ثوابت الدولة، مثل العراق، ومصر، وليبيا، وأفغانستان، ولوكسمبورغ، وفنزويلا، ومالاوي، وبورما، ونيوزلاندا... ومن بين الحجج التي ساقتها هذه الأخيرة أن العلم الذي أرادت تغييره "يعيد إلى الأذهان ماض استعماري يسعى كثير من النيوزلنديين إلى نسيانه."، مثل الموريتانيين الوطنيين الذين يريدون تغيير علم اعتمد خارج الحدود في اندر، ويحاكي علم مستعمرة فرنسية تخلت عنه فور استقلالها...
يدعي البيان أن معارضي تغيير العلم "ليسوا قلة"، وبذلك يتجنب التصريح بأنهم كثرة، ويضع نفي القلة بصيغة جملة اعتراضية، وهي التي يستقيم المعنى مع حذفها، فتأمل! ثم يتبع ذلك بفرضيات لا يمكن التحقق منها ما لم يعتمد العلم الجديد...
رغم كل ما صاغه البيان من مساوئ تغيير العلم، وما توقعه من سلبيات مترتبة على اعتماد العلم الجديد، وطعنه في آلية اعتماده التي لم تحدد بعد بشكل نهائي، فإنه يقترح إضافة إلى العلم!!!" ، فإني أطالب -وبجدية- بإضافة قلم و دواة إليه حتى تجد المقاومة الثقافية المجمع عليها، و التي مازالت مستمرة، ذاتها في العلم الجديد." حي على المحاصصة... كل الاعتراضات، والشروط تصبح لاغية بمجرد إضافة قلم ودواة إلى العلم الجديد!!! لكن في صياغة المطلب طرافة؛ فقد حرص البيان على التصريح بجديته، وهو ما يعني أن القارئ ربما اعتبره هزلا لعدم وجاهته لأنه يذكرنا بقوله تعالى.." سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا"، غير أن المغانم هنا رمزية، أما المغانم المادية فقد فاز بها "المخلفون" حتى اليوم، بينما همش المجاهدون الذين دمر الاستعمار مدنهم، وقتّل قادتهم، وشوه سمعتهم، وأعلى من شأن موالاته، وأوليائه حتى أصبحت البراءة منه صفة قدح.."أنت مانك امكاتب"... فليكن شعار الوطنيين اليوم وغدا.."مانِي امكاتب".
# ماني امكاتب