ملاحظة : يعود هذا التحقيق لوكالة صحراء ميديا حيث نشر يوم 28 فبراير المنصرم
عامُ مضى على بداية الحديث في موريتانيا عن ذهب غزير في عمق الصحراء، انتشرت حمى التنقيب وسط شائعات تقول إن الذهب متوفر لدرجة الانتقال من الفقر إلى الثراء الفاحش بين عشية وضحاها، لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورها في تحريك عشرات آلاف المواطنين من مختلف مناطق موريتانيا نحو قلب الصحراء.
قلبت جيوش المنقبين صحراء إنشيري، وحولتها إلى حفر وخنادق بعد أن ظلت لقرون عديدة أرضاً منبسطة تتحرك فيها قطعان الإبل وقليل من السكان الأصليين، أولئك الذين يكرهون الذهب نتيجة عادات وتقاليد تعده من الأشياء المشؤومة، ويجب على المرء أن يتفادى لمسه أحرى البحث عنه.
اليوم انتقلت جيوش المنقبين إلى صحراء تيرس الزمور، بعد أن تعززت بمئات القادمين من بلدان عربية وأفريقية، كالسودان والنيجر ومالي، وهم أناس يملكون خبرة كبيرة في التنقيب عن الذهب بالأجهزة والوسائل التقليدية، ولكن هذه الجيوش واجهت جيشاً آخر أكثر تنظيماً، حين دخلوا في المنطقة العسكرية المغلقة، لقد أصبحوا ينقبون عن الذهب في حضن الموت.
بريق الذهب
"أبياه" أحد التجار المعروفين في مدينة ازويرات، شمالي موريتانيا، استمالته الأخبار القادمة من عمق الصحراء لتقول إن الذهب غزير، ولا يكلف الحصول عليه سوى سيارة رباعية الدفع وعمالاً مع معداتهم وزادهم، وأيام قليلة في الصحراء يعود بعدها المرء وهو يحمل ذلك المعدن الأصفر الذي سيغير حياته.
يقول "أبياه" في حديثه مع "صحراء ميديا" إنه عندما قرر التنقيب عن الذهب وإيقاف تجارته، تعامل مع أحد المهربين ليجلب له سودانيين ونيجريين مختصين في التنقيب عن الذهب، مهمة هذا المهرب هي نقل المنقبين من نواكشوط حتى ازويرات دون المرور بأي نقطة تفتيش.
مرت أيام قبل أن يعود المهرب وبرفقته خمسة سودانيين ونيجريين اثنين، بعد استراحة قصيرة، بدأ الفريق أول جلسة عمل قبل الانطلاق، كان الاتفاق يقول إن "أبياه" هو من سيوفر كل التكاليف المتعلقة بالرحلة من مؤن ومحروقات، فيما يتكفل السودانيون والنيجريون بعمليات التنقيب مستخدمين أجهزة تنقيب خاصة بهم، على أن يتقاسم كل واحد منهم ما حصل عليه من الذهب مناصفة مع التاجر.
في صباح اليوم الموالي بدأت المجموعة رحلة طويلة وشاقة إلى مناطق التنقيب عن الذهب في المنطقة العسكرية المغلقة، إذ يعتبر المنقبون أنه كلما زادت نسبة المغامرة ارتفعت معها نسبة فرص الحصول على الذهب؛ يقول أبياه: "خلال الطريق الطويل كنت أسأل هؤلاء المنقبين عن تجاربهم فيحكون لي قصص الحصول على كميات كبيرة من الذهب، لقد كانت هذه القصص تزيد رغبتي وإصراري على المضي أكثر داخل المنطقة العسكرية المغلقة، لم أفكر أبداً في الخطر المحدق بي".
قبيل غروب الشمس وصل "أبياه" وفريقه إلى منطقة تجمع فيها مئات المنقبين المرهقين، كانت قسمات وجوههم تبدو من خلف اللثام كالصخور المحيطة بهم، وملابسهم تتماهى مع الكثبان الرملية الباهتة، لقد أثار المشهد مخاوف "أبياه" ولكن بريق الذهب كان أقوى والأحلام كبيرة جداً.
ليلة طويلة قضاها الفريق في انتظار الصباح ليشرع في رحلة البحث عن الذهب، كؤوس الشاي وقصص منقبين غيّر الذهب حياتهم إلى الأحسن، ولكن تفادى الجميع الحديث عن قصص الفشل، فلا أحد يرغب في ذلك لأنه قد يجلب "سوء الحظ"، حتى أن أحدهم قال لهم: "تفاءلوا الخير تجدوه".
مع ساعات الفجر الأولى بدأ الفريق التنقيب بعمليات تمشيط واسعة، مرت ساعات من دون أي جديد، بدأ حماس "أبياه" يذوب تحت شمس الصحراء الحارقة، وتحول حماسه إلى حالة من عدم الرضى والتذمر، ولكن أحد المنقبين جالسه وشرح له بأن الصبر هو مفتاح باب مغارة "علي بابا"، وسرد له مجموعة من القصص أعادت إليه جذوة الحماس.
مرت الأيام طويلة على "أبياه" وهو ينتقل من منطقة لأخرى، وحصيلة الذهب لا تزيد على غرامات لا تعوض قيمتها تكاليف وقود السيارة، لقد نفدت قصص الحماس لدى المنقبين ولم يعد "أبياه" يصدق أغلبها، حتى أنه أصبح يعوض صدمته بالتندر على هذه القصص، اليوم اكتشف "أبياه" أن هنالك قصصًا عديدة مشابهة لحكايته، التقى بعدد من أبطالها في الصحراء ممن يرفضون العودة ويصرون على مطاردة السراب، أما هو فقد عاد وفي جعبته القليل من الذهب والكثير من القصص.
مطاردة الجيش
منذ عشر سنوات أعلن الجيش الموريتاني مناطق واسعة من صحراء تيرس الزمور "منطقة عسكرية مغلقة"، من أجل مواجهة حركة شبكات تهريب المخدرات، وأي عناصر قد يتسللون من الجماعات الإسلامية المسلحة التي سبق وأن شنت هجمات دموية في لمغيطي والغلاوية وتورين، راح ضحيتها العشرات من الجنود الموريتانيين.
ولكن الصرامة الكبيرة التي يظهرها الجنود الموريتانيون لم تثن المنقبين عن دخول هذه المنطقة التي تشهد بشكل يومي مطاردات بين الجيش وعصابات التهريب، ويقول أحد المنقبين في حديث مع "صحراء ميديا": "الجيش يسير دوريات في مناطق التنقيب كلما سمع عن إشكال أمني، فتروح ضحيته مجموعات من المنقبين يتم نقلهم من طرف دوريات الجيش إلى افديرك".
لقد تحولت تلك الصحراء الشاسعة إلى حلبة لمطاردات بين الجيش والمنقبين، انتهت في مرات عديدة بحوادث مأساوية، فقد قتل منقب سوداني حين أطلق الجيش الرصاص على سيارة رفضت التوقف لدورية عسكرية، ومرة أخرى وقع حادث أثناء المطاردات راح ضحيته مواطن موريتاني وآخر سوداني، وجرح ثلاثة سودانيين آخرين.
كان الجيش الموريتاني يوقف جميع المنقبين الذين يدخلون المنطقة العسكرية المغلقة، ثم ينقلهم إلى مدينة افديرك حيث يسلمهم لعناصر الدرك، ويتم الإفراج عنهم بعد دفع غرامة مائة ألف أوقية، وستمائة ألف أوقية للإفراج عن سيارتهم، ولكنهم لا يسألون عن الذهب الذي بحوزتهم.
وأمام الغرامة الكبيرة التي تفرض على السيارة، أعطى رجال الأعمال المنخرطون في التنقيب عن الذهب تعليمات تمنع على السائق مغادرة سيارته، والبقاء على أهبة الاستعداد للفرار فور وصول دورية للجيش، تاركاً خلفه المنقبين عرضة للموت عطشاً في صحراء قاحلة ومترامية الأطراف، وهنالك قصص مأساوية يتناقلها المنقبون.
تقع منطقة "تنومر" على بعد 230 كيلومتراً من مدينة ازويرات، وتحولت في الأشهر الأخيرة إلى مخيم كبير للمنقبين عن الذهب، ولكنها منطقة خاصة بـ"الفقراء" الطامحين للحصول على ذهب لا يحتاج جهاز تنقيب ولا سيارات رباعية الدفع، ولا يحمل خطرًا كبيرًا، إذ أنها تقع خارج المنطقة العسكرية المغلقة.
التنقيب في منطقة "تنومر" باطني يقوم على الحفر، ويستخدم المنقبون في ذلك معاول ومطارق للحفر وتحطيم الحجارة، ما يتطلب منهم جهداً عضلياً كبيراً ومتواصلاً، فتحولت هذه المنطقة في غضون أشهر قليلة إلى خنادق كبيرة مات فيه العشرات من المنقبين بسبب الانهيارات المتكررة، وحوادث السقوط بسبب انعدام الخبرة في التسلق.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد المنقبين عن الذهب في منطقة "تنومر" يقدر بالآلاف، حتى أن رحلات يومية تُسير ما بين هذه المنطقة ومدينة ازويرات، إذ أن كلفة نقل الشخص الواحد 10 آلاف أوقية ذهاباً وإياباً، وقد أصبحت المنطقة تشبه المدينة الكبيرة بخيامها المترامية على السهل، وخنادقها وآبارها التي حفرت بمعاول المنقبين، وأصبحت تحمل اسم الشخص الذي حفرها تارة، وقبيلته تارة أخرى.
إنهم في "تنومر" يجمعون الحجارة التي يعتقدون أن فيها نسبة من الذهب، يضعونها في أكياس كبيرة لتنقل إلى ازويرات حيث تتم عملية عزل الذهب، وهي عملية معقدة لا تخلوا من دورة اقتصادية تكاليفها باهظة، تبدأ بطحن قطع الحجارة يدوياً، وهو ما يكلف المنقب ألفي أوقية لحمولة الكيس الواحد، ثم تخضع الحجارة لإعادة طحن عبر ماكينات خاصة مقابل 5 آلاف أوقية للكيس الواحد، ثم بعدها تحال الكمية لصناع تقليديين يخضعونها للتصفية عبر مواد كيميائية مقابل ألفي أوقية لكل غرام تحصل عليه من الذهب.
الإقبال الكبير على التنقيب عن الذهب في منطقة "تنومر" انعكس إيجاباً على السوق المحلية في مدينة ازويرات، التي عانت خلال السنوات الأخيرة من ركود كبير بسبب تراجع أسعار معادن الحديد في الأسواق العالمية، فقد جاء الذهب ليحقق ما عجز عنه الحديد، بعد كانت المدينة ترى في معدن الحديد مصدر نعمتها الوحيد.
خلال الشهر الأول من التنقيب في منطقة "تنومر"، انتعشت السوق المحلية بمدينة ازويرات، حيث تم تأجير عشرات المنازل من طرف الوافدين الجدد، وارتفع الطلب على المواد الغذائية والملابس المستعملة في أسواق المدينة، واستفادت محلات الحلاقة وأصحاب الحرف كالصناع التقليديين والعمال اليدويين، فضلاً عن تسويق كميات معتبرة من الذهب في السوق المحلية.
ولكن الانتعاش الأكبر شهدته سوق المحروقات، إذ لم تعد الكمية التي توفرها الشركة الوطنية للصناعة والمناجم "سنيم" كافية، فطلبت السلطات بالولاية زيادتها بمائة ألف طن تبين فيما بعد أنها لا تكفي لأسبوع واحد، فطلبت زيادتها لتصل إلى 200 ألف طن دون أن تتمكن من تسوية حاجتها، فاضطرت إلى طلب فتح الكمية حتى شهر أبريل المقبل، وهو ما استجابت له الشركة.
إغلاق تنومر
قررت السلطات وقف عمليات التنقيب في منطقة "تنومر"، فمع أنها لا توجد داخل المنطقة العسكرية المغلقة إلا أنها خارج دائرة المنطقة التي حددتها السلطات العام الماضي للتنقيب عن الذهب، كما أن أغلب المنقبين فيها لا يملكون رخصة، ويستخدمون معاول وأدوات حفر، وهو ما يمنعه القانون الذي اعتمدته السلطات آنذاك.
بعد هذا القرار منعت السلطات حركة النقل ما بين ازويرات ومنطقة "تنومر"، وقطعت التيار الكهربائي عن جميع الماكينات التي تطحن الحجارة في ازويرات، واستدعاء الصناع التقليديين من طرف مدير الأمن وتحذيرهم من مغبة مزاولة أي نشاط يهدف إلى عزل الذهب من قطع الحجارة.
من جهة أخرى قامت دوريات من الجيش بتطويق منطقة "تنومر"، حيث تم نقل دفعة أولى تتكون من 230 منقباً على متن 4 شاحنات تابعة للجيش، كما تم نقل دفعة ثانية تضم 400 منقب، وتوالت الدفعات حتى تم إخلاء المنطقة، في ظل الحديث عن محاولة المنقبين للعودة رغم الإجراءات الرسمية.
أين الذهب؟
رغم قصص الصدمة الكثيرة التي يتداولها الموريتانيون بخصوص التنقيب عن الذهب، حتى أن كثيرين أصبحوا يصفونه بالسراب، إلا أننا في ختام هذا التحقيق تأكدنا أن الذهب موجود، ولكن الثمن سيكون غالياً للحصول عليه، فعلى سبيل المثال في منطقة "تنومر" التي تعد الأقل خطراً، يتوجب الحصول عليه المرور بعمليات الحفر وتكسير الحجارة، ونقلها لمئات الكيلومترات، ثم طحنها ومعالجتها كيمائياً، من أجل الحصول على عدة غرامات سيباع الواحد منها في ازويرات بسعر لا يتجاوز 11500 أوقية، وفي نواكشوط بزيادة ألف أوقية فقط.
أما الأجانب وبعض المتهورين الموريتانيين فيقومون بتهريبه إلى دول خليجية حيث يباع بسعر قد يصل إلى 21 ألف أوقية للغرام الواحد، وقال أحد المنقبين في حديثه معنا إن زميلا له استطاع أن يستغل العمرة لإخراج كمية من الذهب على شكل حلي لبيعها هناك بأكثر من 21 ألف أوقية للغرام الواحد.
أحد رجال الأعمال الموريتانيين الذين قرروا الاستثمار في التنقيب عن الذهب، أكد في حديثه معنا أن أشهراً عديدة من التنقيب وكسر الحجارة وطحنها في منطقة "تنومر" أسفرت عن كمية من الذهب تقدر قيمتها بحوالي 150 مليون أوقية، وهي تقديرات يراها منقبون مبالغة، بينما يراها آخرون أقل بكثير من الرقم الحقيقي، لتبقى الصورة غير واضحة في صحراء لم تبح حتى الآن بجميع أسرارها.