احتضن صالون الولي ولد محمودا الثقافي بنواكشوط يوم أمس جلسة علمية قدم خلالها أول كتاب يكتب باللغة الحسانية (اللهجة العامية) في هذه البلاد تحت عنوان "مروگ الحرف" وقد قام بتحقيقه ودراسته الدكتور سيد أحمد ولد الأمير . وقد حضر الجلسة العلمية عدد كبير من الباحثين والوجوه العلمية البارزة . وقد طلب مني رئيس الصالون مشكورا تقديم المداخلة الرئيسية في الجلسة من أجل تقديم ملاحظاتنا حول الكتاب وفيما يلي ملخص للورقة البحثية التي قدمنا في تلك الجلسة تحت عنوان : "كتاب مروق الحرف بحث في الدلالة والمغزى".
شيم العرب والزوايا في كتاب "مروق الحرف" : د.البكاي ولد عبد المالك
تزايد في الآونة الأخيرة الحديث عن الحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ فلا يزال جزء مهم من تاريخنا مجهولا لا نعرف عنه شيئا و لا يزال حبيس أدراج بعض الهيئات العلمية والمكتبات الأجنبية وفي خزائن بعض الدول في إفريقيا وأوروبا وآسيا..وحتى في بعض المكتبات الأهلية في شكل رسائل ومخطوطات نادرة.
ولقد أصبحت الحاجة ماسة في الوقت الحالي في ظل تعدد وسائل المعرفة ووسائطها لوضع اليد على تلك المخزونات والكنوز المعرفية وانتشالها من غياهب النسيان وإعادة تملكها وإخضاعها للتحقيق والترجمة والدراسة وهو ما قد يمنحنا فرصة للحصول على معلومات صحيحة وموضوعية بعيدا عن المركزية العرقية الأوروبية (ethnocentrisme) وما يقابلها عندنا من نزعة خصوصانية ضيقة (قبلية وجهوية) طبعت معظم الكتابات التاريخية الأولى في هذا البلد.
والحقيقة أن امتدادات الثقافة الشنقيطية في الجوار الإقليمي وتداخل تاريخ البلد وثقافته مع تاريخ البلدان المجاورة وثقافتها (مع ما كان يعرف بالسودان الغربي و المغرب الأقصى والسنغال) قد عرض جزءا لا يستهان به من ثقافته ولا يزال يعرضه لمخاطر الهامشية والتبعية وهو ما سندفع ثمنه عاجلا أم آجلا نظرا لما نلاحظه من سعي حثيث لدى بعض الأطراف في شبه المنطقة (دول ومؤسسات بحثية) لتأهيل ثقافة الأطراف ودمجها من جديد بعد أن ظلت هامشية ردحا من الزمن في تلك السياقات. وبالتالي فإن أي محاولة لتجميع عناصر هذه الثقافة وإعادتها إلى سياقها الأصلي إلى المركز سيمنح هذه الثقافة المزيد من الحيوية قد يمكنها من استعادة الدور الذي كانت تلعبه في العصر الوسيط المتأخر.
في هذا السياق يندرج تقديم وثيقة تاريخية نادرة تختزل جزء مهما من تاريخنا تحت عنوان "مروق الحرف" اكتشفها وقام بتحقيقها والتعليق عليها الباحث د.سيدي أحمد ولد الأمير. ولا تكمن أهمية المجهود الذي قام به سيدي أحمد ولد الأمير في اكتشاف وثيقة مكتوبة باللغة العامية قد تكون أول وثيقة من هذا النوع يتم العثور عليها حتى الآن بل في انتشال جزء من تاريخنا من الهامشية وإعادته إلى سياقه الصحيح. كما تكمن أهمية المجهود الذي قام به أيضا في إطلاع الباحثين على هذه الوثيقة المهمة التي قد تفتح لهم آفاقا جديدة على التاريخ الطبيعي والتاريخ اللاحدثي بالنظر إلى التنوع الشديد في مادتها: فهي عبارة عن موسوعة مصغرة تتضمن معلومات مختلفة حول خصائص الإنسان والحيوان والنبات وطبيعة تفاعلهم في الواقع وفي الخيال أيضا من خلال سلسلة الأساطير التي ترويها والتي تسلط الضوء بشكل أو بآخر على التنوع الثقافي والذهنية الاجتماعية للأجناس البشرية في هذه المنطقة، ونظرة كل منها إلى الآخر، وطريقة تفاعلها لا مع محيطها الطبيعي فحسب بل فيما بينها أيضا .
لهذا السبب نرى أن المحقق قد نجح ليس فقط في اختياره لهذا المجموع (le recueil) من بين نصوص أخرى كثيرة ليجعله موضوعا لدراسته وإنما أيضا في دراسته دراسة موضوعية إلى حد كبير وهو أمر في غاية الصعوبة إذا ما تذكرنا مقولة مارك توين المشهورة التي تقول بأن "الحبر الذي كتب به التاريخ هو عبارة عن تحيّز سائل" إشارة إلى صعوبة الفصل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة في العلوم الإنسانية عامة وفي التاريخ بصفة خاصة.
وفي نظرنا أن المحقق وفّق أيضا إلى حد كبير في الأسلوب واللغة التي جاءت واضحة سلسة بعيدة عن التكلف. ينضاف إلى ذلك كله محمدة أخرى لا بد من ذكرها تتعلق بالهوامش واللواحق التي زين بها الباحث هذا العمل والتي تسلط الضوء على بعض الجوانب المهمة في فهم أبعاد الوثيقة أو المجموع الذي بين أيدينا.
من هو مؤلف كتاب "مروق الحرف" ؟ سؤال لا شك أنه صعب وتحتاج الإجابة عليه إلى دراسات متعددة في مجالات مختلفة : اجتماعية وتاريخية ولغوية : اجتماعية لأننا من خلال التعرف على الخلفية الاجتماعية للمؤلف والأوساط التي عايشها وخبرها نستطيع الاقتراب قليلا من هويته؛ وتاريخية من خلال مقاربة بعض الآجال الزمنية التي أشار إليها المؤلف في متن المجموع ؛ ولغوية لأنه يمكن الاهتداء بشكل تقريبي إلى هوية المؤلف من خلال التحقيق في هوية الوسيطين اللذين أوصلا النسخة إلى القس بوالا والتعرف على علاقاتهما الاجتماعية والروحية بالفضاء الشنقيطي ومدى معرفتهم بلغات القطر وخصوصا اللهجة الحسانية. ويمكن أيضا للشكل الخارجي وطبيعة اللبس من خلال الصور الجميلة التي رسمتها ريشة القس بوالا للوسيطين استخلاص أمور كثيرة تساعد في التعرف على المؤلف الحقيقي . كما أن طبيعة الخط ومقارنته مع خطوط المؤلفين المحتملين وطريقة الخط في مناطق مختلفة هي أمور قد تساعدنا في ذلك.هناك إشارات أخرى أشار إليها بعض المؤرخين السنغاليين تتعلق بمصدر الحبر المستخدم في كتابة المجموع وهي إشارات بالغة الأهمية.
وتبقى الإشارة الأقوى التي في حوزتنا هي تلك التي تضمنتها الأعمال التي أرسلها القس بوالا إلى الجمعية الجغرافية الفرنسية والتي تشير إلى أن شيخا دينيا من قومية المانديك اسمه فاندي سات هو الذي حرر باللغة الحسانية بعض الأعمال التي بعثها بوالا إلى الجمعية الجغرافية الفرنسية وقد نجد في ثنايا النص ما يعضد ذلك خصوصا وأن القس بوالا أشار في أماكن أخرى بأن المجموع قد حرره "تلميذ بعض المشايخ".
ومهما يكن من أمر فإن مجموع "مروق الحرف" مصدره مشايخ من فوتا وقد كتبه "تلميذ أحد المشايخ" فهل يكون صاحب النص الشعري العامي هو مؤلف "مروق الحرف"؟ .
وتبقى هناك بعض الإشارات التي تضمنها النص والتي توحي بشيء ما هي اللغة وطريقة النطق عند المؤلف الذي أشار المحقق إلى اطلاعه على اللغة الصنهاجية وهو أمر مهم بيد أن تكرار اللحن في اللهجة الحسانية عند المؤلف وتواتره في حروف معينة وفي أماكن عديدة من النص يطرح فرضية ألا يكون مؤلفه من البيظان أصلا ؟ فمن هو ؟ هل هو من سكان تمبكتو وقد ذكر البارون روجيه في بعض رسائله أنه أرسل مع الرحالة غرو و بوفور مرشدا من بيظان تمبكتو يسمى امبوي وهو من تلاميذ المشايخ ؟
نجد على سبيل المثال أن اللحن في اللهجة الحسانية يتكرر في النص وبنوع من التواتر حيث يتم استبدال الثاء بالسين أحيانا في عبارة "الذهب أكسر"؛ وبالزاء أحيانا أخرى كما في كلمة "احريز"وفي كلمة "أزر" مكررة وفي كلمة "ازگيل"؛واستبدال كلمة "عليات" في اللهجة الحسانية بكلمة "عيالات ؛واستبدال الزاء بالظاء في كلمة "أظناگ"؛واستبدال الظاء بالضاد كما في عبارة "ما يضل ولا يبات"؛واستبدال الزاء بالظاء كما في كلمة "ظرافة".
ولعل من أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب الفقرات المخصصة لدراسة خصال وفضائل الأجناس البشرية في منطقة نهر السنغال وفضائلها ويتعرض في بعض الأحيان إلى عيوبها في أسلوب لا يخلو من الفكاهة والمرح وقد بدأه بالتعرض لأوصاف العرب لكن السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو لماذا يبدأ بالعرب ؟ هل هناك دلالة معينة لهذا الترتيب ؟ هناك لوحة مزدوجة (إيجابية وسلبية) رسمها المؤلف للعرب حيث يقول: "فارس خيل ولا يظلم المسلمين وكاره العار وخايف من ملان": لنتوقف عند عبارة "ولا يظلم المسلمين": كيف نوفق بين هذا القول وبين عادة القبائل العربية المعروفة في الفضاء الشنقيطي بالغصب والنهب ؟ هل هناك علاقة بين هذا الحكم "المارق على الحرف" إلى حد ما والذي تضمنه الجزء الأول من اللوحة المزدوجة وبين نسق التمثلات المرجعية للمؤلف؟ هل يعني ذلك أن هذا الجزء من الخطاب موجه إلى الخارج بالأساس إلى الفرنسيين حاله حال المؤلف بأسره وليس إلى الداخل ؟
على كل حال يتعارض ما ورد في هذه الفقرة مع ما هو مألوف لدى أعلام الزوايا في وصفهم لحسان بـ "الظلمة" و"الكفرة" و"الفسقة" إلى غير ذلك من النعوت السلبية حتى شاع لدينا القول المأثور "حسان لهم ال شافوا و لْما شافوا لهم نصو".
السؤال الآخر الذي يتفرع من السؤال الأول هو : هل يتحدث المؤلف عن شخص بعينه وليكن أمير الترارزة محمد الحبيب مثلا ؟ لأن الفقرة تحمل الأسلوب الدال على التخصيص وخاصة في قوله : "بوه عرب ام عربي زين يشابه لولاد العرب إلخ..." هذا وصف شخص وقصيدة مديحية لا يمكن أن تكون دالة على كثيرين خاصة وأنه يتبعها بمقطوعة مثلها في الذم والهجاء بأضداد الصفات التي ذكرها في اللوحة المديحية. كما أن الجزء الثاني من اللوحة أي المقطوعة الهجائية لا يمكن أن يكون هو الآخر دالا على كثيرين لأن كل العرب ليسوا كلهم هكذا. ويمعن المؤلف في التخصيص قائلا : "ولا قط احظر للفتنة" ويضيف قائلا : "ولاه ش افيسد بوگجيج بوه امحال ام امحيلي" هذا لا يمكن أن يكون وصفا عاما وربما يقصد هنا الحديث عن شخصين أو ربما عن أميرين أحدهما معاصر له. والحال أن قول المؤلف "بوه عرب ام عربي...إلخ" لا يعنى النسب ولا يقصد المعنى الجنيالوجي السلالي وإنما يقصد البعد المناقبي الأخلاقي بالأساس.
الدليل الآخر على أن اللوحة المزدوجة تتضمن أوصافا ونعوتا لأشخاص وليست أوصافا عامة دالة على فئة من المجتمع هو أن وصفه لشيم الزوايا لم يتضمن لوحة مزدوجة بل لوحة ذات لون واحد وهو ما يطرح في نظرنا العديد من الأسئلة !
إلا أن هناك مسألة لفتت انتباهنا أشار إليها المؤلف أكثر من مرة على أنها داخلة في عداد شيم الزوايا وهي كثرة العبيد واعتبار ذلك من المناقب عندهم وذلك عندما يقول المؤلف إن "لمرابط" "اعبيدُ ياسرين" ويقول في مكان آخر إنه "امزكّر من اعبيدْ نانْم" هذا الأمر في نظري يتناقض مع القيم الصحيحة التي يجب أن يتحلى بها المسلمون كافة وخاصة أولي العلم منهم مثل الزوايا الذين هم أهل العلم وخاصته علاوة على أنها تتعارض مع مجمل الصفات التي نسبها المؤلف إليهم وعلى رأسها الورع . المصيبة هو أن هذه "الشيمة" أو "الفضيلة" لم تذكر ضمن شيم حسان ومناقبهم وإلا لكانت أمرا عاديا وإنما أضيفت إلى المرابط "عالم كل فن" كما يقول المؤلف نفسه هذه عيوب من أقذر العيوب خصوصا عندما يوصف بها من فيه مظنة العلم. فحتى لو كان المرابط قد حصل على عبيده بطريق شرعي وهو ما لم يثبت في هذه البلاد فإن تكاثرهم عنده حتى يكون مضرب المثل يتعارض مع التقوى التي وصفه المؤلف بها ويتعارض مع روح شريعتنا الغراء التي فتحت للعتق أبوابا عديدة . هذا الأمر في الحقيقة يسلط الضوء على مشكلات في الوقت الحالي هي موضوع لجدل كبير يتعلق برواسب تلك العقلية التي لا تزال للأسف حاضرة في أذهان بعض الفقهاء والعلماء المنحدرين من تلك الأوساط والذين لا يزالون يؤمنون في داخلهم بعدم وجود تعارض بين الورع والإكثار من العبيد. لنقارن بين شيم الزوايا في هذا الجانب وبين شيم العرب أو حسان في ضوء ما ذكره المحقق من أن احمذوت بن اعمر اگجيل كان يمنع "حراطينه" من أن يتزوجوا من دمائم النساء خشية من أن يلدوا من دميمة فتسري فيهم الدمامة.
لكن السؤال الذي لم نجد له جوابا غير ما ذكرناه آنفا هو : لماذا تكون اللوحة مزدوجة أو متعددة الأوجه عند المؤلف عندما يتحدث عن العرب أو حسان وعن السودان والنصاري وتكون أحادية ذات لون واحد حينما يتحدث عن الزوايا ؟!