بقلم: منى عبدالفتاح
بالرغم من الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية عن السودان في الأيام الأخيرة للرئيس السابق باراك أوباما في الإدارة الأمريكية، إلّا أنّه لا يبدو أنّ إدارة ترامب الحالية ستمضي قُدماً في تسهيل قرار الرفع، أو جعله سلساً على أقل تقدير. والسبب في ذلك بالإضافة إلى شخصية ترامب الإقصائية والمزاجية، فإنّه مازال هناك بندٌ من شأنه أن يقوّض كل الجهود التي تم بذلها في سبيل رفع العقوبات، وهو وجود السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب. وبمنع السودانيين ضمن سبع دول من الدخول إلى أمريكا الأسبوع الماضي بحجة أنّ هذه البلدان راعية للإرهاب، تم تبديد حجم التفاؤل عند السودانيين، وأوضح المنع أنّ السودان ما زال غارقاً في علاقته غير المستقرة مع أمريكا.
استخدمت الولايات المتحدة أنواعاً عديدة من العقوبات كحل من أجل الضغط على حكومة السودان بغرض تغيير خياراتها. وقد تنوعت العقوبات المفروضة، فمنها الدبلوماسية، حيث درجت الإدارة الأمريكية على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الخرطوم مراراً عندما تصل الخلافات بين الحكومتين إلى مداها، وعندما تهدأ الأمور تكتفي بتعيين ممثل لها من عاصمة قريبة لمتابعة إجراءات الهجرة وغيرها. كذلك كانت العلاقات السياسية التي تنضوي تحتها كل أنواع العلاقات والمقاطعات الأخرى. ثم قطع العلاقات المالية والتجارية والاقتصادية، حيث تم حرمان السودان من الاستفادة من المعونات وتمويلات الصناديق الدولية والتعامل مع الشركات الصناعية العالمية ما أثّر سلباً على كثير من الصناعات السودانية المحلية.
كانت العقوبات الاقتصادية هي الأكثر تأثيراً لأنّها مست المواطن السوداني مباشرة وأنهكت قواه، فأثرت على البنى التحتية، خاصة عندما اجتمع معها الفساد في سياسات الحكومة والذي أدى بدوره إلى انتشار الفقر وتدني المستوى المعيشي، غياب الرعاية الصحية، انتشار الأمراض والأوبئة وتراجع المستوى التعليمي وتفشي البطالة بسبب الفساد الإداري ونسبة لغياب الاستثمار. عملت هذه العوامل مجتمعة على الانهيار القيمي والمعنوي للمجتمع السوداني وأدت إلى انفصام بين نظام الحكم وموالييه من جهة، والشعب السوداني من جهة أخرى ما عمل على سقوط المؤسسات السياسية والأمنية واحدة تلو الأخرى.
سيكون رفع العقوبات، عند دخوله حيز التنفيذ بعد ستة أشهر وفقاً للشروط المحددة خطوة مهمة نحو حلّ الضائقة الاقتصادية السودانية. ولكن هذه الخطوة ستظل رهينة بمحدّدات داخلية أهمها ما يمكن أن تفعله الدولة بشأن قطاعات حيوية، تُعتبر عصب الاقتصاد مثل الزراعة والصناعة وإسهام هذه القطاعات في البنية التحتية للبلد.
وإلى الآن يبدو أنّ الحكومة السودانية لا تعير صورة السودان خارجياً اهتماماً كبيراً، لذلك لم تقم بتدعيم الدبلوماسية والمفاوضات السرية للوصول إلى نقطة توازن بين المطالب بإصلاحات سياسية وبين إنهاء العقوبات بشكل فعلي يتمثل في تنفيذ الشروط الموضوعة. لم تفعل الحكومة السودانية ما يحفّز على تغيير الذهنية الغربية بشكلٍ عام والأمريكية على وجه الخصوص، تجاه السودان وتركت الأمر لرجال حول رئيس الجمهورية يبثون تصريحاتهم غير المسؤولة على الهواء الطلق في تضخيم الأنا الحكومية الرسمية والخطب الاستهلاكية.
أورثت العقوبات الأمريكية، السودان ضعفاً وتهميشاً وانهياراً على المستويات الاقتصادية والسياسية. وخلال هذه الفترة التي أصبح فيها السودان نهباً للصراعات الداخلية والخارجية، لم تُبدِ الحكومة السودانية أي استعدادٍ يُذكر من أجل إصلاحات حقيقية. كما كانت لهذه العقوبات آثار بعيدة المدى على توازن القوى الداخلية في السودان فقد قوّت بشدة مماطلة الحكومة في الإصلاح ومحاربة الفساد وأثارت هذه العملية الشعب السوداني ضد سيادة وشرعية الدولة ومكّنت الحكومة من شقّ صفوف المعارضة ثم محاربتها منفردة.
وليست العقوبات الاقتصادية وحدها ولكن أيضاً عدم مقدرة السودان على الوفاء بديونه الخارجية، وجزء منها لصالح نادي باريس ثم بنوك تجارية ومؤسسات دولية وإقليمية مختلفة. لن يصبح السودان مؤهلاً لإعفائه من ديونه للولايات المتحدةّ الأمريكية إلّا عند استنادها على التزامات واشنطن تحت مبادرة “الهيبك” والتي تتيح للبلدان المثقلة بالديون إمكانية التخلص من أعبائها بعد الإيفاء بمتطلبات إصلاحية معينة.
وحتى يتم رفع العقوبات بشكلٍ كامل لا بد أن يتم الإصلاح عن طريق الموازنة بين الحاجة إلى الإصلاح السياسي وبين المصالح الإستراتيجية. أما الآليات الكامنة وراء مأزق العقوبات هذه، فقد أثبتت عجز الحكومة عن إجراء إصلاحات مهمة عبر الحوار أو المشاركة السياسية، ولذلك فهي تخسر الدعم الشعبي الداخلي قبل أن تخسر علاقتها مع أمريكا.
المصدر: (الراية)-قطر