لا شك أن على المرء أن يأسف للاستغلال السلبي لمواقفه، المنتقدة لبعض آراء أهل العلم أو المتحفِّظة على أشكال من تديّن المجتمع، من قبل أصحاب النفوس المريضة أو المُعادين للدين الإسلامي وقيمه، ولكن البيان القرآني في معركة أحد علّم المسلمين -أو هكذا يفترض- أن تكالب الأعداء ونزول المصائب لا يلغي ولا يُؤجّل نقاش المواقف المختلّة وتصحيح المسار.
يقرُّ الكثيرون مثلاً، وإن بمستويات مختلفة، بوجود مواقف غير مبدئية -في الماضي والحاضر- لأطراف مهمة داخل "المؤسسة الدينية" كان لها الدّور البارز في المسئولية عن بعض مصائبنا السياسية والاجتماعية. ولقد رأينا بسبب ذلك كيف أصبح عدد من أهل العلم والدعوة يُجيزون لأنفسهم الغلطة، بل والإساءة، إلى الكثير من الأئمة والعلماء -وحتى الصّحابة أحيانا- بسبب ما يَرَوْن لهم من دور في الوثنية السياسية والظلم التي عاشته وتعيشه الأمة الإسلامية.
من نفس المشكاة، وبالنظر إلى واقعنا المحلّي في موريتانيا، أصبحنا في الأعوام الأخيرة نسمع الأصوات تتعالى تجريحاً وانتقاداً لعلماء هذا البلد وتراثه الدِّيني، بسبب التعاطي السّلبي لكثير من أئمة العلم والدعوة فيه تاريخياً مع مظالم المجتمع ومعاناة بعض فئاته. تلك المعاناة التي يكفي لوصفها مثلاً أن تذكِّر بأن: القرية التي كانت في الماضي تشعّ علما ويملأ خرّيجوها الآفاق دعوة وصلاحاً لم يكد يختلف واقع "الفئات الدنيا" من المسلمين فيها، جهلاً بدين الله وانتهاكاً لشرائعه، عن تلك التي "لم تصلها الرسالة". وهو الواقع المؤلم الذي اختصره لي ذات يوم أحد أهل العلم في بلدنا بالقول بأنه: "لا يعلم أمراً يمكن أن يخاف المرء عاقبته الأخروية على والديه وأسلافه أعظم من ذلك الظلم الذي قاموا به أو وقع تحت أعينهم على جموع كبيرة من إخوانهم المسلمين."
طبعاً، قد لا يختلف هذا الواقع تاريخيّاً في جوهره عن ما عاشته شعوب أخرى كثيرة، إلا أن محاولة إعطاءه لبوساً دينيًّا والتصّدي من قبل المحافظين لمحاولات تصحيحه أثر بشكل سلبي على صورة المؤسسة الدينية لدى العديد من أبناء هذه الفئات المتضررة وغيرها. علينا أن نتذكر أننا في بلد لم تحدث فيه القطيعة التامة مع ممارسات الاسترقاق، على مستوى فتاوى عدد من المرجعيات الدِّينِيَّة والقوانين الوطنية المجرِّمة، إلا سنة 2015.
أكاد أجزم بأن التعاطي المختل للمؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي بشكل عام وفِي بلدنا بشكل خاص، مع المظالم الاجتماعية والاستبداد ومنطق التّغلب، هو أهم رافد لشبهات أصحاب النفوس المريضة وللإلحاد داخل مجتمعاتنا التي تضرّرت ظلماً وتهميشاً وبعداً عن الالتحاق بمناهج التعليم والتربية السليمة بسبب ذلك. فعلى من يريد التصدّي ل "موجة الإلحاد" أن يبدأ من هنا؛ فمن هنا تأتي الهزيمة.
مع ذلك يجب الاعتراف بأن للموروث والمنطلقات الماديّة تأثيراتها على الأقوال والأفعال، بشكل يصعب على الإنسان -أينما هو- التجرد منه بشكل كامل، وإن كان ذلك هو هدف الرسالات السماوية جميعاً. و "ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري، وثقله على المشاعر، وضغطه على النفوس، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس.. كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- قد احتاجت -كي تُبلّغه- إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجب من تصرفه!" كما يقول سيد قطب رحمه الله معلّقاً على حادثة "عبس وتولَّى"، ومبرزاً لدروسها. وهي القصّة والدروس التي أسّست مبكراً للقيم الإنسانية الإسلامية، طلقاء من قيم الأرضية وموازينها، الموروثة والمكتسبة.
لا يعني ما تقدّم أي تبرير للعوام بأن يطلقوا ألسنتهم اتهاماً للنيّات وتجريحاً أو إساءة لمرجعيات دينية، عُرف منها العلم والورع والإخلاص في القول والعمل. تستند إليها أمة كاملة في أخذ دينها وفهم رسالتها من رب العالمين؛ فإن ذلك فعلاً هو الخسران المبين. ولكنه يعني أن جذور بعض مظاهر اختلال الثقة بين العامّة والعلماء عميق وحلوله معقدة، ولن ينفعها قطعاً تضميد الجراح على الوجع ولا الترهيب الفكري، فكل ذلك يعني فتنة مؤجلة كما أصبح الآن واضحاً. فقد بدأ يطفو على السطح مدى ما قد تسببه بعض مواقف "المؤسسة الدينية" من فتنة وما تثيره من شبهات لدى ضعاف النفوس، وكيف يستغلّ ذلك من طرف المغرضين وأعداء الدين. فعلى دعاتنا وعلمائنا الشباب خاصة، وهم كثيرون لله الحمد، أن يتبنّوا مواقف أكثر حزما ومبدئية في تناول المظالم الاجتماعية والسياسية. يعتذر أصحابها عن أخطاء التأويل والتنزيل إن حصلت -وهي حاصلة لا محالة- ويصحّحون المواقف، ويقودون جموع الناس إلى حريّة وعدالة وسعادة لا يريدونها إلا في كنف الإسلام، ويرونه أهلا لذلك. وإلا فلا يقفوا خطأً في وجهها باسم الدُين والمحافظة على أهله، حتى لا تكون فتنة.
بقلم الدكتور عبد الله بيان