ليس سهلاً تجاوز ألف سنةٍ من العزلة الشعرية
حوار الصحفية : منى حسن
«البافور» عنوانٌ يستحضر في مسماه فئة من المجتمع عانت من التهميش ومحاولات طمس الهوية في موريتانيا. اختاره الشاعر المختار السالم ليطلقه على أول ديوان شعر نثري يصدر في بلدٍ تحكمه الذائقة الشعرية التقليدية، التي طالما أخرت لحاق الشعر الموريتاني بركب الحداثة والتجديد، وأجهضت كل المحاولات التي بذلها المجددون من الشعراء.
ويرى المختار أن الشعر في موريتانيا خضع لاسترقاق وزني لا مبرر له على مـرّ القرون والشعراء، وأن القصيدة النثرية الموريتانية تشهد اليوم ولادة جديدة.
المختار السالم شاعر وصحافي موريتاني، من أبرز الشعراء المجددين في موريتانيا. صدرت له عدة دواوين أبرزها: «هذا هو النهد الذي اعترفت له»، «سراديب في ظلال النسيان»، «القيعان الدامية»، «يأتون غدا»، وأخيرا «البافور»، الذي التقيناه بمناسبة صدوره فكان هذا الحوار:
■ هلا عرفتنا على المختار السالم، الفتى القروي الشاعر الذي جاء نواكشوط عابراً إلى بلد أفريقي فزوبعَ فضاءاتها الأدبية والسياسية؟
□ في الحقيقة لا أعرف كيف أعرفكم بشخصي، سأحرص على أن تكملوا هذا اللقاء دون أن تتركوني.. إذ لن يفيدكم كثيرا التعرف عليّ.. فأنا إنسان غير لطيف.. بسيط جداً ولا يحمل مؤهلات تخوله إثارة الاهتمام.. لقد «زوبعت»، والتعبير لكم، الحياة الثقافية في بلادي: شعراً، وفناً وثقافةً وإعلاماً، وحتى اجتماعياً.. والغريب أن كثيرا من ذلك حدث بشكل فاجأني شخصياً.. إن ما حدث بمعيار إقليمي «لا شيء».. وبمعيار محلي «كل شيء».. والفضل يعود لنخبة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.. بدي أبنو، المعلومة بنت الميداح، محمد عبدي (رحمه الله)، لبابة، وعماد.. ثم أنا.. لقد تطورت الثقافة الموريتانية وما تزال بفضل هؤلاء وقلة آخرين.
ما هو دوري وحجم ذلك الدور؟ لا أعرف.. لندع التاريخ يقرر ذلك حينَ يبدد عظمته المشرقية ويقرر التدوين عن هذه الرمال الصفراء.
ثمة شيء مهم هنا، وهو أني كنت حريصاً على خدمة النخبة الإبداعية في بلادي، إذ لا يوجد – باستثناء النوادر – من لم أسخر له قلمي ووسائل الإعلام وأحضر له الشاشات أحياناً.. كل ذلك من أجل «الضاد» في هذا الربع، الذي كل إنجازاته هو بنيته المعرفية.
■ كيف كانت بداياتك مع الشــــعر، والكتابة الصحافية؟
□ كنت وأنا صغير أسمع خالاتي وسيدات الحي يقرأن أبيات شعر.. لقد سكن ذلك الإيقاع الموسيقي داخلي.. وفي الإعدادية والثانوية وجدتني أكتب الشعر، بل وجدتني شاعر «ثانوية روصو»، أقدم ثانوية في البلاد، ثم انقطعت دراستي بسبب الصراع الأيديولوجي مع حركة سياسية، وسريعاً هاجرت إلى نواكشوط كمحطة عبور، لأجد أنها «محطة الإقامة»… ثم ويا للغرابة وجدتني صانع حدث شعري، بل وزارة ثقافة وإعلام غير رسمية.. ولقد عشت بشكل طبيعي لا تكلف فيه بين الشعراء والعلماء والفنانين وصفحات الصحف وبرقيات وكالات الأنباء.. ولأني شاب ريفي وجد نفسه بين الشعر والوتر والخصر… فلم أتنكر لنعم الله، وكتبت شعراً لا «يستقنع»، لأن الشعر لا يصلحُ حتى للستائر.. من وجهة نظري.
■ هل كان لـ«المحاظر» فضل في اكتشاف موهبتك الشعرية؟ وهل ما زال لها دور في التعليم في موريتانيا؟
□ «المحاظر» لها دور كبير في تعليم الشعب الموريتاني.. وكبار العلماء والمثقفين الموريتانيين هم من خريجي المحظرة أو مروا بها في محطة من حياتهم.
■ أثار ديوانك «البافور» الذي صدر أخيراً ضجة إعلامية كونه أول ديوان نثري في موريتانيا، حدثنا عن سر تسميته؟
□ البافور مجموعة سكانية عاشت في موريتانيا قبل آلاف السنين.. ومهما قيل ويقال تاريخياً في شأنهم، فالحقيقة الأدق أنهم مجموعة بشرية من مختلف الأعراق والديانات، وأنها شكلت رافداً من الروافد الآثارية والعرقية للمجتمع الموريتاني الحالي. هذا المجتمع (الآثاري) تم تهميشه، بحيث، للأسف قام مؤرخون وباحثون غربيون بتصنيفه بما يخدم إفراغ المنطقة من آثار «الحضارة العربية» حتى الحضارة العربية ما قبل التاريخ المدون.. فهذه التسمية كانت لوضع اليد شعريا على جزء ولو من مرويات و»آثار» على أرض عربية.
■ أهديت البافور قائلا: «إلى الكلمات المعتقلة في سجون الخليل والمتنبي والمختار السالم.. من دون ريح لا ينتفضُ الريش…»، فهل هذا تبرؤ وانعتاق من الشعر الموزون والمقفى من شاعر لطالما جذبه الإيقاع وجاذبه عن حروفه؟
□ الشاعر ليس صاحب برنامج انتخابي مطالب بتنفيذ وعوده.. لقد أهديت ديواني إلى ذلك الشعر الذي أحسُّ أنهُ خضع لاسترقاق وزني لا مبرر له على مـرّ القرون والشعراء.. لقد عانى الشعر العربي من القوالب النمطية المناقضة للإبداع، بل ولحتمية التطور. أما أنا كشاعر عمودي فأبقى، رغم ذلك، وفيا للقصيدة الخليلية، وقصيدة التفعيلة.. بل أجد نفسي في القصيدة العمودية أكثر، خاصة أن قرض الشعر وزناً لا يكلفني أي مجهود، وأنا أكتب القصيدة العمودية بسرعة كتابتي للبرقية الإخبارية.. والفارق نظافة الأولى وتلوث الثانية، ولكن هذا لا يعني أنه لا يحق لي تجريب طرق أخرى في قرض الشعر، وفي مراوغة غير مفتعلة للعبارة الشعرية، التي تحتاج منا اليوم إلى تسوير معناها الصفري، حتى يمكننا تخليصها من حمولات وهمية وغير مفيدة، وبالتالي ـ تهيئتها وتحضيرها للعيش في بيئة شعرية جديدة وحمل معان جديدة.
■ كيف تلقت الأوساط الأدبية الموريتانية خبر صدور أول ديوان نثري «البافور» في موريتانيا؟
□ كما يتلقى العرب كل جديد.. البعض شكّكَ، وهم الحرسُ القديم، والبعض رحَّب وهنأ وأشاد… لا يهمني طبعاً الحرس القديم فهم حُراس الخفوت الثقافي والإبداعي. جدير بالذكر هنا أني تلقيت تهنئة كبار الشعراء في البلاد وهم رواد الشعر الحر في موريتانيا.
■ ديوانك «هذا هو النهد الذي اعترفت له»، الذي جاء فريدا من نوعه، حيث إن كل قصائده كانت ملحنة ومغناة، هل دُونت نصوصه قبل أم بعد تلحينها؟ أم أن جميعها كُتب خصيصا كأغان؟
□ بعضها كتب ليلحن ويغنى، وبعضها كتب تحت التلحين، كمثال قصيدة «لئن جنيت على نفسي»، التي كتبتها وأنا أسمع اللحن يُعزف لي.. وبعضها كتب كأي مقطوعة شعرية… ثم طلب فنان تلحينه.. لقد تعاونت دارا نشر فرنسيتان على إصدار هذا الديوان الأول من نوعه عربياً في عاصمة كباريس.. لقد طلبوا ديواناً عربياً كل قصائده مغناة… واستشاروا مجموعة من الأساتذة العرب في المهجر، وبشكل عجيب ومفاجئ وقع الاختيار عليّ، فجمعت القصائد وأرسلتها، وطلبوا مقدمة فآثرت كتابة تلك المقدمة، التي كتبت في مساءٍ واحد، لتكون «شاهداً» على «حقبة» ما يزال أبطالها أحياء يرزقون.. لأن الأدعياء يتكاثرون كالفطر في مواسم معروفة.. وأنا أريد دائما أن أبقى شاعرا لا يغامرُ بروحه الريفية ونياته الوردية مطلقاً.
■ في رأيك، ما الذي حصَّن الساحة الأدبية الموريتانية في القرن المنصرم تجاه تيار النهضة الأدبية الحديثة الناجمة عن الاحتكاك بالثقافة الغربية، رغم غزو الحضارة الغربية بلغاتها وثقافتها؟
□ هذا السؤال يؤلمني قليلا.. فقد كان المغاربيون بشكل خاص هم من «توفرت» في بلادهم وبيئتهم الأندلسية الفرصة للشعر العربي ليخرج من فردانية الرتابة العمودية، ولو عبر الموشحات.. ولقد كان الشعراء الموريتانيون (الشيخ سيديا قبل 150 عاما) أول من أطلق دعوة لتجديد الشعر العربي.. بل أقدم علامة شاعر مثل محمد اليدالي على اختراع وزن جديد في قصيدته الرائعة
«صلاة ربي».. كان ذلك قبل النهضة الشعرية في بلاد الشام والمهجر… لكن حدث أن تحالف «ثنائي» قاتل.. الأول هو «لعنة الجغرافيا»… فلم يجد الموريتانيون من يهتم إعلامياً بدعوتهم للتجديد الشعري، وهم سباقون إليها. والثاني مقاطعة الموريتانيين لكل ما هو غربي ضمن ما يعرف بـ»المقاومة الثقافية»، التي استمرت إلى حين استقلال البلاد عام 1960، بل استمرت إلى الآن في بعض وجوهها.
■ يقول محمد المختار ولد أباه في كتابه «الشعر والشعراء في موريتانيـا»: «إن أشهر شعرائنا المعاصرين لا يزالون متمسكين بالشعر الأصيل، مع أن لهم محاولات تنم عن يقينهم بأن شيئاً ما يجب أن يتجدد، ونأمل ألا يكون التجديد محاكاة للغير»، فبم تعلق عليه بصفتك من أبرز المجددين في القصيدة الموريتانية؟
□ لقد كان محقاً وصادقاً في كل هذا… ومع ذلك، ومن قراءاتي، أقول إن العملية الإبداعية (النصية) هي عملية عالمية، والشعراء العرب شكلوا إضافة مهمة للأدب العالمي.. والتجديد الشعري يجري في سياق عالمي بتزامن وتواصل أو تجايل له خلفياته.. هل أخبركم أن المرأة الموريتانية كتبت شعر «التبراع» منذ مئات القرون، وهو شعر مدهش عند مقارنته بقصيدة «الهايكو» اليابانية؟ لنكن واقعيين إن الأنساق الشعرية تبدو شكلياً، وكأنها وصلت مرحلة التخمة في التجريب، لكن ما يميز الشعر الحديث، كما أرى، أنه شعر يتخلص من وظائف لا شعرية، فقد كان الشعرُ وسيلة نقل علوم ومعارف وتعليم… واليوم يجب أن يعود لوظيفته الرئيسية وهي الوظيفة الشعرية المحضة، باستثناء أنه مطلوب منه أن يشكل دائما بيئة عقلية محفزة.
■ لم تجد قصيدة النثر حتى وقتنا الحاضر مكانة في موريتانيا رغم النماذج الجميلة السابقة عند إبراهيم ولد عبد الله، وغيره، فإلى أي مدى أسهمت إشكالية التلقي في المجتمع الموريتاني على تطور وتحديث القصيدة الموريتانية؟
□ المجتمع الموريتاني رغم المحاولات الفردية والجماعية المحدودة، ما يزال مجتمعاً عربياً ، ليس من السهل تجاوز ألف سنةٍ من العزلة الشعرية، ومن تأليه «القصيدة الجاهلية». ومع ذلك فالمجتمع المتنوع في انغلاقه لا يعدم «مسارب» ستؤدي حتما دورها في وقت لاحق. اليوم نحتفل بميلاد أول صالون شعري شبابي في موريتانيا… هؤلاء الشباب يشكون من ترهل المفردة والقصيدة العربية.. هذا شيء جميل، وحدث حقيقي سيكون له أثر عظيم بفضل موهبة هؤلاء الشعراء الشباب، الذين جلست قبل أسبوعين للاستماع لهم طيلة أربع ساعات.
أنا متفائل جدا إزاء مستقبل القصيدة الموريتانية… وطبعاً مطمئن إلى أنني سأنجح في رهان الشعر النثري في موريتانيا، بل لماذا لا أبالغ قليلا وأقول إن القصيدة النثرية الموريتانية تشهد اليوم ولادة جديدة.
■ هل ترى أن للإنترنت وما وفره من وسائل نشر واتصال دوراً ايجابياً في تحديث الحركة الشعرية بموريتانيا وضخ دماء الحداثة فيها؟
□ نعم.. كل تطور في وسائل الاتصال هو في خدمة الإبداع.. فقط ما أخشاه هو أن وسائط النشر السريع تغافل الكثيرين وتخدعهم بسهولتها ومرونتها التي تعطيهم قامات بالونية..
■ ماذا عن الحركة النقدية في موريتانيا؟
□ لا وجود لها.
■ في ظل واقع عربي يستوجب الانخراط، أين يقف قلمك؟
□ حسنا.. أنا رجل لا أفهم السياسة.. أو لا أبني رؤيتي السياسية على معيارية اللون الواحد.. نحن أمة عربية منكوبة من الوريد إلى الوريد.. تتعاورنا حضارات إقليمية ليس لها من الأعداء سوانا، ولا يمكنها الانتقال لصفة إمبراطورية بدون احتلالنا ومسخنا ثقافياً واجتماعياً وحضارياً… ونحن اليوم نمر بمأساة حقيقية، وأنا منحاز بكل قطعية للعرب الرافضين للاحتلالين الصهيوني والصفوي، وأرفضُ أيضاً أي وصاية على العرب مهما كان عنوانها.
■ هل من مشاريع أدبية تعمل عليها حاليا؟
□ نعم.. هناك ديوان جديد سيصدر من باريس، ولدي روايتان جاهزتان للطباعة، ورواية أخرى قيد الكتابة، وديوان شعر يتنزل يوميا.