الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله وعلي آله وصحبه.
وبعد فإن الله سبحانه وتعالى عظم شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وشرفه وجعله سيد خلقه وأخذ الميثاق علي النبيئين وعلينا بنصرته وتعزيره وتوقيره فقال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وقال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وجعل إيذاءه موجبا لعنة الله تعالى وسخطه فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) وقال تعالى (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا)
وحكم بالكفر علي المستهزئين به فقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ) قال بعض المفسرين : في هذه الآية التيئيس من قبول عذر الساب .
وقد اختلف النقل عن علماء الأمة في حكم الساب فمنهم من نقل الإجماع علي أنه يقتل ولا تنفعه التوبة في سقوط القتل ومن هؤلاء
: أبن المنذر وأبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية والخطابي رحمهم الله قال الحافظ بن حجر في الفتح وقد نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله ونقل أبو بكر الفارسي – أحد أئمة الشافعية – في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو تاب لم يسقط عنه القتل وقال القفال : كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام . ثم نقل الحافظ قول الخطابي : لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما . انتهى منه بلفظه .
وفي مقابل هذه الأقوال بالإجماع علي قتل الساب نجد القاضي عياضا رحمه الله تعالى يعزو لأبي حنيفة والثوري سقوط القتل عنه إذا هو تاب .
قال القرطبي :في المفهم قال القاضي عياض أجمع العلماء علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر واختلفوا هل حكمه حكم المرتد يستتاب أو حكم الزنديق لا يستتاب وهل قتله للكفر أو الحد فجمهورهم علي أن حكمه حكم الزنديق لا تقبل توبته وهو مشهور مذهب مالك وقول الشافعي وأحمد وإسحاق ورأوا أن قتله للحد ولا تنفعه التوبة لكن تنفعه عند الله تعالى ولا يسقط حد القتل عنه وقال أبو حنيفة والثوري هو كفرو ردة وتقبل توبة الساب إذا تاب وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك ’ انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
قلت وما عزاه القاضي عياض رحمه الله تعالى للحنفية فهو وإن كان الأرجح عندهم كما يقول ابن عابدين في الحاشية إلا أن غير واحد منهم قال بقتل الساب مطلقا ومنهم علاء الدين الحصكفي فقد قال في الدر المختار مرجحا للقتل ( وهو الذي ينبغي التعويل عليه رعاية لجانب المصطفى صلى الله عليه وسم ) وبه قال أيضا صاحب ننوير الأبصار محمد بن علي العزي الحنفي فقد قال رحمه الله تعالى ممزوجا بكلام شارحه ( وكل مسلم ارتد فتوبته مقبولة إلا الكافر بسب نبي فإنه يقتل حدا ولا تقبل توبته مطلقا لأنه حق عبد لا يزول بالتوبة )
وهو قول محمد بن الحسن في السير الكبير فقد قال بقتل المرتدة إذا أعلنت الشتم واعتبره استثناء من عدم قتل المرتدة عندهم كما في حاشية ابن عابدين .
وإلي هذا القول جنح محمد بن شهاب البزاز الحنفي في الجامع الوجيز المعروف بالبزازية فقد قال رحمه الله تعالى بقتل الساب وعدم سقوط قتله بالتوبة ( حاشية ابن عابدين ) ,
والذي يترجح من الدليل قول من قال إنه يقتل ولا تسقط توبته الحد وذلك لجملة من الأدلة نو جزها فيما يلي :
الدليل الأول : الأحاديث الواردة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم من سبه أو آذاه .
فقد روى الشيخان من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال محمد بن مسلمة أنا وفي الحديث أن محمد بن مسلمة وأصحابه قتلوا ابن الأشرف .
وروى البخاري من حديث البراء بن عازب في باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلي أبي رافع رجالا من الأنصار وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه ثم ساق البخاري قصة قتلهم لأبي رافع .
وروى أبو داود عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هنالك من الدم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا اشهدوا أن دمها هدر وقد سكت أبو داود عن هذا الحديث ومعروف أن ما سكت عنه أقل درجاته الحسن عنده وقد رواه النسائي لكن بدون ذكر وضعها الطفل قال الألباني و إسناد النسائي صحيح .
وروى عبد الرزاق في مصنفه أن رجلا سب النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يكفيني عدوي فقتله الزبير رضي الله عنه .
وروى النسائي عن أبي برزة الأسلمي قال أغلظ رجل لأبي بكر الصديق فقلت آقتله فانتهرني وقال ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر أنه تغلب علي راهب سب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال إنا لم نصالحكم علي شتم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
الدليل الثاني : أن الذمي ينتقض عهده بسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقتل وقد عزى ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا القول إلي الشافعي واحمد و إسحاق وفقهاء الحديث ( الصارم المسلول ).
فإذا كان الذمي ينتقض عهده بالسب ويقتل وهو علي كفره فكيف لا يقتل المسلم المرتد بالسب ؟ .
الدليل الثالث : أن قتل الساب قد حكي قوم الإجماع فيه منهم ابن المنذر وأبو بكر الفارسي و أبو سليمان الخطابي وهو قول الجمهور : الأئمة الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد كما عزاه القاضي عياض إليهم بل قال به جماعة من الحنفية كما ذكرنا ذلك عنهم فهو أولى لكثرة القائلين به .
الدليل الرابع : أن في قتل الساب سدا لباب سب الأنبياء والاستهزاء بحرمات الدين وفي العفو وقبول التوبة فتح باب الشر والكفر وهدم الدين فيكون القتل سدا للذريعة وهي من أصول الدين ومقاصده قال تعالى ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ).
الدليل الخامس : أن العفو عن الساب حق للنبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ فيه بالقتل والعفو ليلا يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه فلما انتقل إلي الرفيق الأعلى انتهى الإمكان فيه بوفاته صلى الله عليه وسلم فلم يكن لأحد حق العفو فيه , ولأنه كذلك حق من حقوق العبد فلا تسقطه التوبة .
الدليل السادس : أن قتل الساب هو مذهب مالك رحمه الله تعالى وعلي مذهب هذا الإمام معول فقهاء البلد في الفتوى والقضاء يقول الشيخ بداه رحمه الله تعالى :
والعلماء إن ذكرت فمالك نجم ولا خلاف عند ذلك
مذهبه من أحسن المذاهب ولست عن مذهبه بالذاهب
وقد قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء وبكل حال فإلي فقه مالك المنتهى فعالمة آرائه مسددة ولو لم يكن فيه إلا حسم الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس وكثيرا من بلاد مصر وبعض الشام واليمن والسودان والبصرة والكوفة وبغداد وبعض خراسان , انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
وبالنظر إلي الأدلة التي سقناها أحاديث وإجماعات وأقوالا للأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وجماعة من فقهاء الحنفية ونظرا لسد الذرائع إلي الإلحاد والاستهزاء بالدين والمساس بالجناب النبوي الطاهر وبناءا علي أن مسألة العفو حق للنبي صلى الله عليه وسلم فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلي الرفيق الأعلى انتهى الإمكان فيه ولأن حقوق العباد لا تزول بالتوبة و أعظمها حق المصطفى صلى الله عليه وسلم فإني أفتي مع قصوري وعجزي بوجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وبأن توبة الساب لا تسقط القتل .
والله حسبي ونعم الوكيل
محمدن بن المختار الحسن