يُعدّ قطاع التربية من أهم قطاعات الدولة التي تعكس مستوى تقدم أي مجتمع حتى أن أحد الخبراء قال مرة: "أخبرني عن نظامك التربوي أخبرك من أنت". وإذا أردنا أن نُخبر عن نظامنا التربوي في موريتانيا فإننا- مع الأسف- سنخبر عن مأساة تصيب هذا النظام منذ عقود ويروح ضحيتها باستمرار أجيال عديدة من أبناء هذا المجتمع، مما ينعكس- لا محالة- سلبا على تقدم البلد واستقراره.
لكن المأساة الأكبر هي أن حقيقة فشل النظام التربوي الموريتاني أصبحت مسلّمة يلهج بها كل لسان في هذا البلد من القمة إلى القاعدة، وتزخر بها مختلف الدراسات التي تعنى بهذا القطاع، إلا أنه ورغم كل ذلك- وهنا مكمن المأساة- لا يهتم أحد بإصلاح هذا النظام إصلاحا حقيقيا رغم كثرة ما يُسمى بإصلاحات النظام التربوي الموريتاني التي حطّمت، من حيث عددها، كل الأرقام القياسية!
والأدهى من كل ذلك والأمرّ هو أن المحاولات التي تبذل من آن لآخر لإصلاح النظام التربوي الموريتاني تنقلب إلى كوارث تُفاقم مشاكل هذا النظام بدل المساعدة في القضاء عليها. ومن أمثلة ذلك ما تمّ القيام به سنة 1979 مما سُمّي بعدُ "إصلاحا" وكان إفسادا ما بعده إفساد، ومحاولة ساذجة للتخلص من مطالب متناقضة للوبيات سياسية وقومية متصارعة، دون التفات إلى المصلحة العليا للوطن.
ونجد المأساة تتكرر من جديد بعد تبني إصلاح 1999 حيث تمت تغذية النظام التربوي بدفعات كثيرة من المعلمين والأساتذة في شكل دفعات سريعة تتراوح فترة تكوينها بين شهر وثلاثة أشهر دون اهتمام بمحتوى التكوين ولا نوعية المكوّنين بذريعة الحاجة الماسة إلى المدرّسين، حيث يتم ّ "انتقاء" بعضهم بمعدلات ضعيفة تصل في بعض الأحيان إلى أقل من 7/20، ناهيك عن ما يتم إدخاله في تلك الدفعات من متصيّدي الاعتمادات المالية للدخول في الوظيفة العمومية، من الذين لا يُمكن تصور قبولهم بأي حال من الأحوال في سلك التعليم، لكن اللوبيات المهنية والسياسية والجهوية... فتحت لهم أبواب هذا القطاع الحيوي لتتم إهانة التربية في عُقر دارها ومن داخل قطاعها. وكانت نتيجة كل ذلك أن زدنا الطين بلّة، فتفاقمت مشاكل النظام التربوي أكثر، وأصبح هذا النوع من المكتتبين سوسة تنخر جسم هذا النظام بدل انتشاله مما يُعانيه.
واليوم يبدو أن الحريق يمتد إلى مستوى التعليم العالي والذي يُعاني بدوره من الكثير من المشاكل والتحديات التي أدّت إلى تخريج جيوش من العاطلين عن العمل من جامعة انواكشوط في ظاهرة تكرّس "وثنية الشهادات" على حساب تكوين الأدمغة والكفاءات، وذلك نتيجة اعتماد التعليم العالي في انتقاء أساتذته على تصور عتيق لا يقول به قائل اليوم، وهو التصور الذي يرى أن كل من تعلم مادة فبإمكانه تدريسها، هذا بالإضافة إلى الاعتماد الكلي في التدريس على الطرق التربوية التقليدية التي تسعى إلى أن تحسن حشو الأدمغة بدل أن تحسن تكوينها وتأهيلها، ناسية أن التربية اليوم لم تعد تهتم بالسؤال: ماذا تعلم؟ وإنما: ماذا تستطيع أن تعمل؟.
ولا شك أن إنعاش قطاع التربية، من وقت لآخر، بدماء جديدة من خلال الاكتتاب يُعدّ فكرة مستساغة من حيث المبدأ، إلا أن هذه الفكرة قد تتحطّم وتنقلب وبالاً على القطاع المذكور تماما كما رأيْنا أعلاه في اكتتاب أشخاص التعليم الأساسي والثانوي، وذلك بسبب غياب الشروط والمعايير الفنية والخبراء المتخصصين والمدرّبين والمخلصين للقطاع والوطن وليس للوبيات تسعى لأجندات ضيقة وتصفية حسابات رخيصة.
ولا أدلّ على انتقال تلك المأساة وذلك الحريق إلى مستوى التعليم العالي الموريتاني من مسابقة اكتتاب أساتذة التعليم العالي الجارية حاليا والتي من بين بنودها انتقاء أساتذة لتدريس علوم التربية بالمدرسة العليا للتعليم، حيث تمّ إقصاء المتخصصين في علوم التربية بدعاوى مختلفة منها تارة عدم وجود مقرر معادلة الشهادة مع العلم أن لجنة مُعادلة الشهادات موجودة ولكن بدون جدوى، ومنها تارة أخرى ما لا يُمكن تفسيره إلا بتصفية حسابات مع بعض المترشحين أو بعض الجامعات، لتكون حصيلة كل ذلك إقصاء كلّ من يمتّ بصلة إلى التخصص المطلوب (علوم التربية)، وليتم الاحتفاظ ببعض الملفات لبعض أصحاب الشهادات الذين لا علاقة لهم، في سيرتهم المهنية ولا في تخصصاتهم الأكاديمية، بعلوم التربية: من علم نفس وفلسفة التربية، وتربية عامة وخاصة ومقارنة...إلخ، وليُصيب مادة علوم التربية ما أصاب النظام التربوي نفسه من هزال وضعف حيث أصبح يُراودها- مع الأسف- كلّ من أراد ذلك من حملة الشهادات ممن كانت مساراتهم المهنية والأكاديمية مقتصرة على مجالات أخرى بعيدة عن علوم التربية كما يشهد بذلك ما يجري اليوم، حيث إن المترشحين المقبولين هم من تخصصات اللغة والأدب أو علم الاجتماع العام بل حتى من مسارات أبعد من بينها تخصص الرياضة البدنية!...إلخ.
وكيف لا، وقد أُهملت التربية وعلومُها طوال الوقت، فعلى امتداد عمر تعليمنا العالي لم يتم العملُ مرة واحدة على فتح كلية للتربية في جامعة انواكشوط تضمن لنا تكوين رجال ونساء تعليمنا المتضعضع بمختلف مستوياته، بل، على العكس من ذلك، ها نحن نقصي المتخصصين في علوم التربية ونجعلها عرضة للمساومة من كل من دبّ وهبّ، بدل السماح لهم على الأقل بالمشاركة ضمن ذلك الكلّ، بعدما امتنعنا من إعطاء القوس باريها وتطبيق مبدأ المناسب في المكان المناسب، لنخسر بالتالي هذه الوظيفة، ونخسر المبالغ التي يُنفقها المجتمع عليها، ويخسر المستفيدون المتوقعون منها من أساتذة ومفتشين... وكل ذلك يجسّد لنا الواقع الذي يُؤكد شدة ما وصل إليه قطاعنا التربوي من ضعف، وما أصاب تربيتنا من هزال:
لقد هزلت حتى بدا من هُزالها كلاها، وحتى سامها كل مُفلس
وهنا فإننا، نحن المتخصصين في علوم التربية ممن نذروا أنفسهم لهذا التخصص النبيل، نبرأ إلى الله سبحانه وتعالي، وإلى مجتمعنا العزيز، وإلى التاريخ مما تتمّ حياكته في مجال اكتتاب أساتذة علوم التربية بالمدرسة العليا للتعليم. كما نُهيب بكل ذوي الضمائر الحية بدْءا بفخامة رئيس الجمهورية، مرورا بمعالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وصولا إلى كل من لديه بقية ذرة من أخلاق وغيرة على هذا الوطن... نُهيب بالجميع إذن، للوقوف بحزم للتصدي لهذا النوع من المهازل التي تُفاقم مشاكل نظامنا التربوي.. فهل من مستجيب؟
عن مجموعة المتخصصين في علوم التربية
منسق المجموعة: د. سيدي محمد/ المصطفى/ بنّاصر