بعد النجاح الباهر لوساطة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز في الأزمة الغامبية، لاحظت في عدة مجموعات على الواتساب كثيرا من الدس والتشويه والتلفيق في كل الاتجاهات، مما تتطلب مني الكتابة على بعض تلك المجموعات عن الأزمة..
ثم رأيت من المناسب أن أشرككم ما كتبت هناك؛
الأزمة الغامبية.. القصة الكاملة:
جمهورية غامبيا بلد إفريقي صغير هادئ مسلم بنسبة ٩٠٪، تحيط به جمهورية السنغال من ثلاث جهات ويحتضنه المحيط الأطلسي من الجهة الرابعة.. كان خضوعه للاستعمار البريطاني المانع الأول من انضمامه للسنغال المستعمرة الفرنسية السابقة، وكانت الأغلبية الماندنكية فيه مانعا آخر من الاندماج الثقافي مع الأغلبية الولفية في السنغال، رغم وجود عرقية ثالثة مشتركة بين البلدين هي البولار التي ينتمي إليها رئيسا البلدين المنتخبان حديثا..
وقد ظلت السنغال تتعامل مع جارتها المزروعة في خاصرتها بنوع من الوصاية كاد أن يصل إلى حد الابتلاع في عهد الرئيس الغامبي الأسبق الحاج داودا كيربا جاورا بموجب الاتفاقية المعروفة ب"الاتحاد السينيغامبي" حيث أصبح الضباط السنغاليون هم من يتولون قيادة الوحدات العسكرية الأكثر أهمية في غامبيا وتتولى وحدات عسكرية سنغالية خالصة حراسة الرئيس الغامبي نفسه، وتأمين كل المنافذ البحرية والبرية والجوية بالبلد..
لكن الرئيس المنتهية ولايته الحاج يحيى جامي قد ألغى هذه الاتفاقية فور إطاحته بجاورا في انقلاب عسكري وضع به حدا نهائيا للوصاية السنغالية على بلاده..
وقد عرف يحيى جامي بجرأته البالغة التي تصل في أحيان كثيرة حد التهور والغرور، كما عرف بميوله الديني والعروبي البارز..
وهذا ما أشارت إليه إذاعة البي بي سي فور توليه مقاليد السلطة في بلاده، حيث قالت في تقرير لها: "من كان يتوقع أن غامبيا المستعمرة البريطانية السابقة ذات الموقع الاستراتيجي بين المستعمرات الفرانكفونية سيتولى دفة الحكم فيها أصولي إسلامي متشدد ؟!"
وفعلا بدأ الرجل مسيرته في الحكم بتطهير بلاده من كل مظاهر الفساد الأخلاقي من خمارات وأوكار للرذيلة، ووضع حدا نهائيا لحالة الفلتان الأمني المزمن الذي كانت تعيشه شوارعها وأزقتها وبعض أريافها ولم تضعه قوات السنغامبي على جدول أعمالها أبدا..
وظل جامي يخطو خطوات ثابتة في نشر التعليم الديني والعربي في بلاده وإشاعة المظاهر الإسلامية بها، إلى أن أعلن أخيرا تسمية بلاده بجمهورية غامبيا الإسلامية، وأعلن اللغة العربية لغة رسمية لها..
وقد شهدت البلاد في حكمه تطورا مستمرا في نواحيها الاقتصادية والإدارية ثم السياسية التي مكنت شعبه أخيرا من إزاحته من خلال صناديق الاقتراع بعدما سئموا إصلاحاته التي جاءت قسرية في أغلب الأحيان مشوبة دائما بدكتاتورية فجة وغرور أسطوري أكسباه لقب قذافي إفريقيا السمراء..
ولميول جامي العروبي فقد ربطته علاقات ودية بمعظم الدول العربية وخاصة دول الجوار، كموريتانيا والمغرب اللتين تزوج من رعاياهما المقيمين ببلده قبل توليه سدة الحكم.
لم يجد يحيى جامي غضاضة في الاعتراف فورا بهزيمته في الانتخابات الأخيرة وبادر بالاتصال هاتفيا بغريمه الفائز آدم بارو ليهنئه بنجاحه ويضع خبرته وتجربته تحت تصرفه خدمة للبلد والشعب، معربا في ذات الوقت عن أمله في أن ينعم بحياة طبيعية في مزرعته وعلى أرض وطنه، وقد جاء رد الرئيس الفائز على نفس المستوى من الودية والمسؤولية.
لكن دعوات من هنا وهناك أطلقتها شخصيات معارضة تعيش في المنفى لمحاكمة جامي، وما تلاها من تعهدات علنية من نائبة الرئيس المنتخب بإحالته للعدالة، كانت كافية لزعزعة ثقة جامي في تعهدات غريمه التي لم تلبث أن انقشع آخر سرابها برد آدم بارو نفسه على سؤال لصحفي عن مصير الرئيس وملفاته السابقة بالقول: "لست أنا من يحدد مصير الرئيس، وإنما الشعب هو صاحب الكلمة".
هذه التطورات المتلاحقة دفعت يحيى جامي إلى اتخاذ خطوات ضغط لتأمين مستقبله فقرر التراجع تكتيكيا عن الاعتراف بالهزيمة متذرعا بالاطلاع على خروقات شابت الانتخابات وطالب بإلغائها..
وقد جاءت ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية سريعا بإدانة خطوة جامي هذه، وبدعوته إلى تسليم سلس للسلطة إلى الرئيس المنتخب في الوقت المقرر.
وكانت المبادرة الأكثر بروزا وحدة هي مبادرة المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإكواس" التي أطلقت تحذيرات متتالية وأرسلت وفودا قابل جامي تحذيراتها وتهديداتها بكثير من الازدراء والاحتقار مما زاد من غضب بعض الفاعلين فيها فضلا عن الثأر السنغالي القديم عند جامي الذي أخرج غامبيا عن نفوذها، والتي ينتمي رئيسها الحالي إلى عرقية البولار (الفلان) التي منها الرئيس الغامبي المنتخب الذي تولت حمايته عناصر أمنية سنغالية طيلة حملته الانتخابية، قبل أن ينتقل بنفسه إليها بعد إصرار جامي على التمسك بالسلطة.
وهذا ما يفسر تصعيد السنغال وحماسته الشديدة لخوض تدخل عسكري شرعه من خلال الإكواس أولا ومن خلال مجلس الأمن الدولي ثانيا، ويهدف من ورائه إلى تأديب غامبيا عموما وجامي خصوصا، وتحقيق المزيد من المنة وبسط النفوذ على بارو من أجل إعادة غامبيا إلى حظيرة التبعية المطلقة للسنغال.
وقد جاء التدخل الموفق والمشرف للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في اللحظات الأخيرة مستغلا ضغط تحركات السنغال المدعومة إقليميا ودوليا لتليين موقف صديقه المتهور يحيى جامي، ومستفيدا من شبح حرب غير مضمونة العواقب في الحد من تغول جارته السنغال على غامبيا بما يعنيه ذلك من تهديد لمصالح بلده هناك.
وهكذا استطاع ولد عبد العزيز مستعينا ببعض نظرائه الأفارقة وخاصة رئيس غينيا الاستوائية توفير الضمانات المطلوبة لجامي من كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وتمكين آدم بارو من تسلم مقاليد الحكم في البلاد دون الحاجة إلى تدخل عسكري سيكون باهظ الثمن.
كل ذلك فضلا عن تأمين أرواح وممتلكات ومصالح الجالية المورتانية الكبيرة في غامبيا، وهي جالية لها دورها البارز في اقتصاد البلدين.
وليضيف ولد عبد العزيز إلى رصيده في المنطقة مكسبا جديدا لا يقل أهمية عن سابقه المتمثل في قيادة المصالحة التاريخية بين أطراف الحرب الأهلية في جمهورية مالي جارته الشرقية قبل سنوات قليلة..
وطبيعي أن يزيد هذا النجاح من حدة التوتر الحاصل منذ فترة في العلاقة بين موريتانيا والسنغال، وأن يزيد من متانة العلاقة التاريخية بين موريتانيا وغامبيا، ويخفف على الأخيرة من حدة تغول السنغال جارتها المباشرة الوحيدة، كل ذلك فضلا عن تجنيب المنطقة برمتها وَيلات حرب خاسرة.
ولعل من الأهمية بمكان أن نؤكد أن الرئيس الغامبي الجديد آدم بارو مسلم يعتز بدينه كما هو حال الغالبية العظمى من عرقية البولار (الفلان) التي ينتمي إليها والمنتشرة في العديد من دول إفريقيا من موريتانيا إلى السودان، ويرجعها الكثير من مؤرخيها إلى أصول عربية حميرية.