عبء غير خفيف ذلكم الذي رفُع عن كاهل أهل السودان برفع العقوبات الإقتصادية الأحادية التي فرضتها أمريكا على السودان منذ العام 1996م، وهو وزر باهظ أرهق الإقتصاد السوداني ، وكاد يعزله ضربة لازب عن الإقتصاد العالمي بلا مبرر مشروع سوى أن حكومة السودان وسياسات السودان لا تروق للإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ ذلك الحين، وربما قبل ذلك منذ بدأ تململ السودان من قيود الإستتباع الذي تشده إلى المراكز المسيطرة.
عمل جماعي مؤسسى
لا شك أن التوصل بعد سجال وحوار وتفاوض مع مبعوثى إدارة أوباما إلى هذه النتيجة الطيبة أمرَ مشجع ، وقد أحرز هذا المسار النجاح بسبب عدد من العوامل لم تكن متوافرة دائماً في الأداء الحكومي ومعرفة هذه العوامل تشكل دروساً مستفادة للممارسة الناجعة الرشيدة في سائر أوجه الآداء الحكومي. وأول هذه العوامل هو الأداء الجماعي المؤسسي الذي وسم فترة الأشهر الستة التي شهدت الحوارات والتفاوض بين الطرفين على عدة مستويات، وقد كان التنسيق عالياً بين الأطراف الحكومية بوجه يستحق وقفة إشادة طويلة ، فلم تكن الأطراف الحكومية تتداعى لاجتماع مع المبعوث ووفده على عجل بل كان كل إجتماع يسبقه تحضير وتداول وتنسيق لخطوات إنجاز ما يجب إنجازه.. وكان كل ذلك يتم مع إلتزام كامل بالتكتم والإقلال من الكلام حول كل منتظم ينتظم للحوار بين الطرفين ، وغالب الأحاديث التي خرجت تحدث الفضوليين عن ما كان يجري ، كانت من متطفلين لا يعرفون شيئا إلا التكهنات وإشارة مستحقة بوجه خاص لرئيس المجموعة الوزارية البروفيسور إبراهيم غندور الذي لم يمتنع فقط عن التحدث عن هذا الأمر ،بل إمتنع أيضا عن التحدث عن كافة الأمور فلم يتحدث إلا مرة واحدة طوال تلكم الأشهر الستة ، ولم يكرم سائليه إلا بنذر من القول لا يشفي الغليل.
الشعب السوداني كان هنالك
كانت الوطنية هي الراية المشرعة في معركة العقوبات الأحادية، فالشعب السوداني الذي يأبى الضيم والظلم لم يستكن أبداً ، ولم يركن لقعود سلبي بل هب في شكول متعددة لرفض هذه العقوبات بصور متعددة ، وقد كنت أقول للشباب أبان حملتهم للتوقيع على العريضة المرفوعة للبيت الأبيض ضد العقوبات بعد شطب العريضة مرة بعد أخرى رغم تجاوزها للعدد المطلوب وهو مائة ألف توقيع ، (ألا يحزنوا ) فإن صوتهم قد وصل بالفعل، وأن من أريد لهم أن يعلموا بالإعتراض الكبير للشعب السوداني على ظلم العقوبات، وقد علموا بذلك علماً أكيداً . وقد اجتهدت جماعات عديدة داخل السودان وخارجه في مقاومة هذه العقوبات الظالمة . وكان لجهود السودانيين في مجلس حقوق الإنسان الفضل في تكليف المجلس لمقرر خاص لدراسة الآثار الضارة للعقوبات الأحادية وقد نهض الرجل بدور كبير يحمد عليه ويشكر. كذلك فإن عددا من المغتربين السودانيين قد قاموا بجهود جمة محمودة بالإتصالات بالإدارة الأمريكية مباشرة، أو عبر التراسل . وقد اطلع المواطنون على تلكم السيدة الفاضلة التي أوقفت الرئيس الأمريكي لتطلعه على الأثر غير الإنساني للعقوبات التي تفرضها إدارته على الشعب السوداني . وشهد الناس الوفود التي قادتها منظمات أهلية لأمريكا، وقادها أفراد سودانيون جاءوا بوفود أمريكية لتشهد الآثار الظالمة للعقوبات غير الإنسانية على شعب لم يجترح إثماً ولم يعدو على أحد. وكان لثلة فاضلة من رجال الأعمال السودانيين دور مشهود في فتح حوارات وإستقدام وفود للتعرف على الآثار السلبية للعقوبات فلجمعية رجال الأعمال السودانيين والأمريكيين التحية لما بذلت من جهدا كبير للتذكير بأن عاقبة العقوبات لا يقع أثرها على الشعب السوداني فحسب بل أنه يضر كثيراً بالمصالح الإقتصادية والتجارية للولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ضرر يقع على الطرفين بغير طائل.
الأصدقاء كانوا معنا
وكان لجهد الدبلوماسية الرسمية وزارية ورئاسية وبرلمانية ، وجهد الدبلوماسية الشعبية أثره في تدافع الأصدقاء والنصراء لمساعدة السودان في التخلص من هذه العقوبات الظالمة . فما من مؤتمر قمة أفريقي أو عربي أو إسلامي أو مؤتمر لدول عدم إنحياز ، وما من مؤتمر عالمي أو قاري أو إقليمي انعقد إلا وصدرت أحد توصياته برفع العقوبات الأحادية عن السودان ، بل أن رئيسة المفوضية الأفريقية وأمين عام الجامعة العربية وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي وقعوا معاً على عريضة مشتركة وجهت للرئيس الأمريكي رفع العقوبات عن السودان . كذلك ما اجتمع البرلمان العربي والإسلامي إلا وأصدر توصية برفع العقوبات، وأما البرلمان الأفريقي فقد أرسل وفدا خماسياً إلى واشنطون يطالبها برفع العقوبات عن السودان ، وكان الشأن مثل ذلك في كل إجتماعات النقابات ومنظمات المجتمع المدني ، حتى صارت الإدارة الأمريكية ما إلتفتت إلى ناحية إلا وسمعت صوتا مطالبا برفع العقوبات عن السودان . وكان للمجالس الإقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي ، والإيقاد، والساحل والصحراء دور مشهود في المطالبة بفك العقوبات في السودان ، واضطلعت دول مثل السعودية وعمان والإمارات بأدوار مهمة بالإتصال المباشر بالإدارة الأمريكية ، وكان الشأن السوداني حاضرا بصفة مستدامة في أجندة إجتماعات دولة قطر ودولة الكويت بأطراف أمريكية وأوروبية . ونهضت روسيا والصين بأدوار لا يمكن إغفالها ، وقامت أثيوبيا وتشاد وجنوب أفريقيا كذلك بأدوار مهمة في إثارة موضوع العقوبات مع الإدارة الأمريكية . واضطلعت أطراف ودول أخرى بأدوار مساندة قد لا يحصيها هذا القلم ، ولكن الفضل معروف لأهله عند ذوي الفضل، . والشاهد والعبرة من كل هذا السرد هو نجاح الدبلوماسية السودانية في حشد الأشقاء والأصدقاء والنصراء في المعركة ضد العقوبات الأحادية، وهذا جهد يجب أن يستكمل في مواجهة التصنيف غير المنطقي والظالم للسودان ، بوضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب ، بينما تشهد الإدارات الأمريكية كافة بتعاونه التام في مواجهة الإرهاب وبنجاحه في تجفيف بؤره داخل البلاد، كذلك فإن معركة السودان ضد ما يسمى بالمحكمة الجنائية الدولية معركة عادلة ضد منهجية التلفيق والإدعاء الكاذب والإستهداف السياسي المكشوف من جهة إفتضحت وسائلها حتى صارت من العلم المبذول للكافة.
الدوروس المستفادة
وأول هذه الدروس أهمية إستدامة العمل الجماعي المؤسسي ، وثانيها التكتم على الشأن الذي يتوجب التكتم عليه، ولكن التكتم يبقى هو الإستثناء فالأصل في الأمور هو العلانية والشفافية، فإنه يجدينا أن نتعلم من القول المأثور الذي يذكرنا بأهمية جعل السر في محل السر والجهر في محل الجهر ، وتترافق مع هذه الأهمية ضرورة إقتصاد أهل السياسة في الكلام الذي ما وراءه من طائل ، ولو علم أهل السياسة كم تسبب أحاديثهم الكثيره من سأم وملل لكفوا عن الكثير منها . وثالث هذه الدروس المستفادة هي الإستظهار بالجهد الشعبي وعدم الإستخفاف به ممثلا في وجوه الدبلوماسية الشعبية المتعددة ومنظمات العمل الطوعي والمبادرات الشعبية والشبابية على وجه الخصوص، ورابعا هو تنشيط الدبلوماسية مع المنظمات العالمية والإقليمية والمجالس البرلمانية ، فهذه أصبحت سياجاً يدافع به المظلومون عن سيادتهم وكرامة أوطانهم . ويتوجب المزيد من تحسين العلاقة مع الأشقاء الأفارقة والعرب وسائر الجوار الحيوى للسودان ، فذلك سياج آخر لحماية السيادة والحقوق . بيد أن الدرس الأهم هو أن تضامن الشعب مع الحكومة، هو الذي يحقق الإنتصار ، ولن يتضامن الحكام مع الشعوب إلا بالتوسعه لها في الحريات وجعل الشراكة معها في كل شأن هو النهج المتبع والخطة المثلى في كل حين.
ثم ماذا بعد:
بعد إستخلاص الدروس ما ينبغي إلا العمل بهمة عالية لإستدراك ما قد يستدرك من مصالح ودرء ما يستطاع درءه من مفاسد، وأول ذلك هو التحرك السريع من بنك السودان المركزى لبناء علاقات جديدة ، واسترجاع العلاقات السابقة مع المراسلين والمتعاملين الذين أخافتهم للغاية الغرامات الباهظة التي فرضت على مصرف فرنسي ، وآخر ألماني لتعاملهما مع السودان رغم الحصار المصرفي الأمريكي ، كما أن عدداً من المصارف الإقليمية خضعت هي الأخرى إلى تحقيقات ومحاسبات لاتهامات بالتعامل غير المباشر مع السودان ، ولربما تتلكأ بعض تلك المصارف في طريق العودة للاستيثاق، من كون السبيل آمن ، ولكن لا شك أن جهات أخرى أكثر جرأة في التعامل مع الفرص السانحة سوف تكون على إستعداد للتعامل الفوري مع السودان. وهنالك مصارف أمريكية مثل مجموعة (سيتي بانك) كان تعاملها ناجح ومربح في السودان ، فلعل من الحكمة التواصل السريع معها ، وذلك أن التعامل مع المصارف الأمريكية سوف يشجع سائر المصارف الأخرى عبر العالم للمسارعه في العودة إلى التعاون مع المصارف السودانية. لقد خسر السودان خسارة فادحة لحرمانه من الإئتمان الدولي لأكثر من عقدين من الزمان وآن الأوان للعمل بهمة لاستعواض تلكم الخسائر.
كذلك فإن ما يجب المسارعة في التحرك نحوه هو إبتدار حملة قوية لإعفاء ديون السودان ، فالسودان هو البلد الوحيد من مجموعة الدول المثقلة بالديون (الهيبك) الذ لم يستفد من المبادرة العالمية لإعفاء ديونه ، وكان ذلك لأسباب سياسية لا علاقة لها بتأهله وإستحقاقه للأستفادة من المبادره، وقد أبدت بريطانيا في وقت من الأوقات إستعدادا طيباً للتحرك من أجل إعفاء الديون، كما أن الدول الضامنة لاتفاقيات السودان مع جنوب السودان تعهدت هي الأخرى بالعمل على إعفاء الديون التي تبهظ كاهل البلاد.
والمسار الثالث للتحرك السريع يأتي في مجال الطاقة، وقد استبشرنا بالإخبار عن قدوم وفد من شركة شيفرون الأمريكية للتباحث مع وزارة النفط والغاز حول إمكانية استثمار الشركة الأمريكية في مجال الطاقة في السودان . ولاشك أن السودان يحتفظ بالكثير من الإمتنان للدول التي استثمرت في قطاع النفط في السودان وعلى رأسها الصين وماليزيا والهند وكندا ، بيد أنه من المعلوم أن الشركات الأمريكية ذات أهلية عالية للإستثمار في هذا القطاع لما لها من رؤوس أموال ضخمة وللتكنولوجيا العالية التي تتمتع بها. ويمكن الإستفادة من التكنولوجيا الأمريكية في رفع نسبة الإستخلاص من الآبار المنتجة . كما يمكن توجيه الإستثمارات الأمريكية إلى مناطق واعدة في أقصى شمال السودان وفي حقل الراوات جنوب السودان وفي البحر الأحمر، كذلك فإن دولة مثل النرويج تتمتع بتكنولوجيا عالية وموارد جيدة يمكن أن تدعى الإستثمار في قطاع الطاقة . لربما يحفز ذلك الإستثمار الجديد التحسن في أسعار النفط الذي قد ينجم من تخفيض الحصص في السوق العالمي.
أما المجال الرابع الذي يجب المسارعة إليه فهو فتح تعاملات مباشرة في التجارة الدولية مع الدول التي هي منشأ للبضائع التي ترد إلى السودان. فلزمان طويل أضطر السودان للتعامل مع الدول التي تعيد توريد السلع ، وذلك لصعوبة تعامله تعاملا مباشرا مع دول المنشأ، بسبب صعوبة التحويلات المصرفية ليس ذلك فحسب بل أن الفرصة قد تسنح لإقناع بعض تلك الدول لتصنيع بعض تلك البضائع في السودان لما يتمتع به من ميزات تتمثل في كفاءة الرصيد البشري وبسبب انفتاحه على أسواق أفريقية مهمة.
لا شك أن رهط المخططين يعكفون هذه الأيام في تداول غير رسمي حول كيفية إغتنام ما تتيحه الفرصة الراهنة ، بيد أن ذلك التداول يتوجب أن يتطور ليصبح ندوة جامعة لأهل الإقتصاد، ورجال الأعمال، ورجال ونساء الدولة لإجتراح مسار سريع للنهضة بالإقتصاد السوداني بعد أن فرض عليه الإنكماش بفعل الحصار لأمد غير قصر.
د/ أمين حسن عمر