لا توجد أسرة موريتانية تقرّ أو تعترف ولو ضمن سياقها الداخلي الخاص بوجود منحرف أو فاسد في أبنائها، رغم كثرة الفساد والانحراف، أحرى أن تعترف بوجود فتاة فاسدة أو منحرفة، وهذه إشكالية كبرى، فلا يوجد دخان بدون نار.
نحن مجتمع يحمي عتاة المفسدين الفاسدين بل يقودونه مع الأسف، نحن نفضل التحايل على الواقع بدل علاجه!
تزداد ظاهرة الاغتصاب ـ أطلق الاغتصاب هنا تساهلا ـ في نواكشوط وفي كبريات المدن، بل في الريف في بعض الحالات، مما يستدعي التوقف عند هذه الكارثة الخطيرة لتبيان بعض الأمور بعجالة لعل أهل الرأي والمتخصصين يطرقون هذا الباب المدمر للمجتمع:
أولا، لا يختلف اثنان في تراجع ـ حتى لا أقول تدهور ـ المنظومة القيمية في المجتمع وذلك لعدة أسباب منها المتعلق بالجانب التربوي في البيت وفي المؤسسات، وبتدهور التعليم، ومنها المتعلق بسلوك الوالدين، وبالاستقرار الأسري، ومنها المتعلق بطغيان المادة عموما، وبانتشار المخدرات، وبالانفتاح التكنولوجي الواسع الذي أخذ المجتمع من مجتمع بدوي أمي سطحي ورماه في أتون العولمة وسرعة تدفع المعلومات والمواصلات مع الجميع، فأصحبت الهواتف الذكية تتيح الولوج إلى كل شيء بما في ذلك المواقع الاباحية، التي يتردد القضاء مذ فترة في تحريمها هنا في الجمهورية الاسلامية هذه!
إننا ندفن رؤوسنا في الرمال عندما نرى ونسمع عشرات بل مئات وآلاف الفتيات في مقتبل العمر (17ـ 25) وهن ينشغلن طوال اليوم بالاتصالات بمجهولين عبر الواتساب والفيس بوك، ويخرجن في أتم زينة مع بعض التبرج الواضح والسفور التام، ولا نتساءل إلى أين؟ ولا لماذا؟ بل إن كثيرا منا يرى ويسمع ويستسهل ـ حتى لا أقول يشارك ـ ما هو أبعد من ذلك في سلوك جيل التيه هذا، ويظن أن محيطه هو فقط الأسري أو القبلي أو الجهوي بمنأى عما يحصل من تحوّل أو تدهور، وكأنه كتبت له براءة في الزبر. كما أننا نشجع انحراف المراهقين الذكور ـ خاصة أبناء النافذين من كبار المسؤولين وأبناء الأغنياء ورموز القبائل الخ ـ بمنحهم السيارات المظللة وغير المرقمة، مع بعض المال لتوفير شقق ورصيد هاتفي وشراء الوقود وغيرها من مستلزمات الانحراف، ونحن نعرف حقيقة سلوكهم وأخلاقهم في البيت، ونقص تعلمهم وعلمهم وتدينهم، كما أننا لا نملك القدرة التربوية ولا النفسية ولا الاستعداد لمعرفة ما يشغل بال هذه المراهقات وهؤلاء المراهقين، ونتهرب عن التفكير في مشاكلهم العاطفية والغريزية والنفسية الخ
الحقيقة المرة التي لا نريد أن نعرفها هي أن كثيرا من حالات "الاغتصاب" هذه ليست سوى انحراف اختياري أو شبه اختياري سلكته الفتيات مع الأسف. وأقصد ب"شبه الاختياري" خروج فتاة في مقتبل العمر مع شاب أغراها برسائل الغرام والحب وبالورود والهدايا المادية أو المعنوية، ثم غدرها واغتصبها بإرغامها أو بقبولها بعد ما كانا في المكان المناسب لتلك الجريمة وفي الظروف المناسبة لها، وقد حصل الكثير من ذلك، بعضه تم الابلاغ عنه لأن الفتيات كن رافضات أو لحقت بهن أضرار بدنية مفجعة أو بسبب حالات حمل، وبعضه لم يتم الابلاغ عنه بسبب الحرج المجتمعي. إذن ليس كل ما نطلق عليه اغتصابا هو كذلك!
ومع ذلك يوجد الاغتصاب بما فيه اغتصاب القصّر، وتوجد عصابات الجريمة المنظمة وبشكل كبير، تسرح وتمرح على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن العاجزة والمقصرة والمهملة، ومن السلطات الضعيفة الفاسدة المترهلة. لقد أخبرني أحدهم قبل فترة باعتقال صاحب سيارة أجرة قام باستدراج واغتصاب حوالي 20 سيدة مستغلا في ذلك مواد تخديرية وطاقم من النساء يركبن معه للتمويه، وربما للمساعدة عند الضرورة، والكارثة أن مثل هذا المجرم قد لا يطول سجنه ( لا ننسى أن معالي وزير العدل قال إن سجن دار النعيم بلغ 850 سجينا رغم أن سعته الطبيعية 350 فقط وأن الدورة الجنائية المقبلة ستحاول التخفيف عنه من خلال إطلاق سراح البعض)، وقد يكون نقل فيروسات وأمراضا بين عشرات الأسر، كما لا ننسى وساطة القبائل والنافذين عموما من أهل السلطة والمال في مجرميهم.
ما الحل؟
هذا السؤال ينبغي أني تم توجيهه بجدية إلى أصحاب الرأي الفاعلين الجادين من التربويين ورجال الفكر والسلطة وإلى الفقهاء والعلماء وإلى المعلمين والأساتذة، وإلى آباء الأسر وأمهاتها ممن يتوسم فيهم مستوى معين من المسؤولية والمعرفة، وإلى أصحاب الأقلام وصنّاع الرأي. وقبل ذلك يمكن الاشارة إلى بعض النقاط بعجالة:
يجب أن يبدأ كل بيت في مراجعة سلوك مراهقيه ومراهقاته، دون التمييز بينهم بتجاهل انحراف الشباب الذكور وفشلهم الدراسي، فذلك هو بداية الانحراف إلى مسارات التيه هذه التي تشمل الاغتصاب وغيره، ، فتوفر شباب منحرفين يعني حتما انحراف فتيات ولا يمكن أن تنحرف فتاة إلا مع شاب أو رجل منحرف.
إن الانعزالية والسلبية وعدم الانشغال بالتعلم أو بالعمل يؤدي إلى الانحراف، كما أن عدم زرع القيم والدين ـ نعم الدين ذلك الرقيب الذي يعيش مع الشخص أينما حل ـ والأخلاق في النشء وهم طور تشكل الوعي ـ خاصة في العقد من 5 سنوات إلى 15 سنة ـ هو اللبنة الأولى في المسار الصحيح، ولا يظن أب أو أمّ أنهم سيتركون أبناءهم وبناتهم لوسائل التواصل الاجتماعي والمسلسلات والافلام الخليعة حتى ولو ظلوا بين جدران البيت، ويحصدون جيلا مستقيما أخلاقيا جادا منتجا مسؤولا.
هل نغلق على الفتيات الأبواب ونعزلهم عن العالم الخارجي وننزع منهن الهواتف ونمنعهن من الخروج ومن الزينة؟ بالطبع لا، وهل هذا يجدي أو هو متاح؟ إن زنا المحارم يوجد في بعض البيوت، واغتصاب القاصرات في بعضها، ثم إن العلاقات غير الشرعية وجدت قبل وسائل التواصل الاجتماعي وقبل توفر التكنولوجيا، فكانت الفتاة في بعض الحالات تستيقظ وتخرج الخيمة عند ظهر أبيها لتقضي ساعة أو ساعات ليلية مع شاب أو رجل، وسيستمر وجود هذه العلاقات في أي مجتمع، لكن لا يعني هذا قبول الأمر أو تشجيعه، ولا تحول العلاقات العاطفية في مجملها إلى حالة وباء انحرافي أو إلى جنون غريزي أو جسر إلى الإنهيار الأخلاقي!
إنما يجب أن نركز على التربية أولا، وأن نقترب من هذا الشباب أكثر ونعيش مشاكله.
كما يجب على الدولة أن تقوم بواجبها من خلال عدة أمور، منها إصلاح التعليم والتركيز فيه على الجوانب التربوية، وخاصة ذات البعد الديني والأخلاقي ـ قد ينزعج البعض من التركيز على الجانب الديني فليكن، هذا الجانب هو ضمان صلاح دنيانا وأخرانا وهو الرقيب الذي لا يغفل ـ ويجب وضع شقق الإيجار تحت المراقبة مع شروط عمر معين وعقود زواج إن أمكن لمن يلجها، حتى لا تبقى ملاذا لمن يقومون بهذه الجرائم، وكذلك الفنادق والشواطئ، والساحات العامة وضواحي المدينة، يجب أن يقوم القضاء بواجباته بعيدا عن ضغوط نافذي المجتمع، كما يجب بعث جهاز الشرطة وإصلاحه، فقد كان قتله التدريجي أو تهميشه وإضعافه خطأ، وهنا أعرف أن البعض قد يسخر من هذه النقطة لمعرفته بسلوك كثير من الشرطة نفسها، لكن لا بد من البناء على الموجود، إذ يمكن تنقية الجهاز مع الوقت، أو تحسينه. ويجب جعل الأجهزة الأمنية عموما في وضعية تسمح لها بالعمل سواء تعلق الأمر بالتكوين أو بالرواتب أو بالآليات. لقد انطفأت أمامي سيارة لاند كريزير للحرس قبل ليال وبدأ عناصر الدورية يدفعونها ليشتغل محركها من جديد، فهل يمكن لهؤلاء مطاردة عصابة مسلحة تختطف فتاة مثلا؟
كما يجب العمل في المدى المتوسط والطويل على علاج ما يعانيه الشباب من فقر وجهل وبطالة وهامشية في الحياة العامة.
يجب أن يلعب الأئمة والفقهاء والخطباء دورا كبيرا في الوعظ والتربية، فقد تراجع الأداء التربوي لكل النخبة الدينية عموما بمختلف مشاربها ومدارسها خلال السنوات الأخيرة ـ إذا ما استثنينا قلة قليلة من أمثال الداعية محمد ولد سيدي يحي حفظه الله ـ وعلى من يتصدرون هذه الأمور أن يكونوا قدوة ما أمكن. كما أنه على المجتمع عموما وقف الشفاعة في المغتصِبين، فمن العيب والخطأ والجرم أن تتم الشفاعة في من يدمر مستقبل فتاة بهذه الجريمة البشعة. لقد سمعنا وشاهدنا وقرأنا قصصا وأخبارا عن وساطات شيوخ قبائل ورموز اجتماعية وحتى بعض الأئمة ومسؤولين كبار في الدولة في مجرمين بهذا الخصوص.
يجب العمل على تسهيل الزواج لكل من يرضون ذلك ويطلبونه، وهنا يجب العمل على محاربة غلاء المهور وكل مظاهر الفساد والبذخ التي تحول بين الشباب والزواج، كما يجب رفع ذلك الفيتو الاجتماعي القبلي والعرقي بين كل أفراد الشعب، فأي فتاة أو امرأة ترضى أي شاب أو رجل بالزواج على سنة الله ورسوله يجب تشجيعهما ما أمكن. إنه لمن السخرية والعبث أن يكون بعض حراس الوهم يقومون بالعضل ولاء لجنون "القلظ" أو "الغلظ"، ضد فتيات أو نساء بعضهن يخرج خلسة مع من يمنعهن من الزواج منه بسبب حراسة الوهم هذه. والمؤلم المر المضحك المبكي أن حراس الوهم هؤلاء في غيهم يعمهون ويظنون أنهم ومحيطهم الاجتماعي بمنأى عن أي انحراف أو فساد وكأنهم كتبت لهم عصمة دون غيرهم. إننا نجد الرجل الذي طلق أم بناته منذ سنوات ولا يعرف عنهن شيئا، وهو يرد الخطبة تلو الخطبة لأنه رضع "نحن اهل افلان ما انجوهم" من ثدي عجوز انتقلت إلى الحياة الأخرى قبل نصف قرن أو ثلثيه!
يجب طرق جرس الخطر، يجب العمل على بعث الأخلاق، يجب زرع الدين في النشء، يجب محاربة عصابات الإجرام والمخدرات، يجب تلافي المجتمع، إن المجتمع ينهار أخلاقيا!
محمد الامين ولد سيدي مولود