لئن كانت نهاية سنة 2005 في موريتانيا قد شكلت بداية تحول إصلاحي شامل في الدولة بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق معاوية ولد الطايع، إلا أن مرفق القضاء حينها شكل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، إذ أن حكومة المجلس العسكري الذي أطاح بالنظام آنذاك أسندت حقيبة العدل للمحامي والنقيب المعروف محفوظ ولد بتاح، والذي سرعان ما بدأ ما سماه بإصلاح قطاع العدل، إصلاح بدأ في ظاهره لامعا لما حمل من تجديد للبنى التحتية وتطوير أساليب عمل المحاكم من خلال التجهيز و اعتماد أنظمة المعلوماتية و غيرها من وسائل العمل التي كان المرفق حينها بأمس الحاجة إليها، لكن مضامين الإصلاح المؤسسي و المقترحة من طرف الوزير من خلال مشروع تعديل النظام الأساسي للقضاء شكل صدمة حقيقة للقضاة جميعا، و ذلك لما حملته من تضييق على استقلال السلطة القضائية وتوسيع لنطاق تدخل السلطة التنفيذية، لدرجة تخويل وزير العدل صلاحية تعليق راتب القاضي حتى قبل أن ينعقد له المجلس التأديبي، زد على ذلك تمييع عملية الاكتتاب الداخلي و اعتماد الصوت التداولي في التشكيلات القضائية، كل ذلك تم بصفة مثيرة للجدل و دونما استشارة للقضاة .
المرحلة الأولى: بداية الحراك القضائي
هذا التحدي الصارخ من وزير العدل ما كان ليمر دون ردة فعل من القضاة خاصة أن جو الحريات العامة الذي كانت البلاد تمره به و هي تعبر نحو التحول الديمقراطي خلق مناخا ملائما، فقرر القضاة حينها في بداية أول حراك قضائي تعرفه البلاد منذ استقلالها تشكيل نقابة للقضاة كردة فعل على تمادي وزارة العدل في تنفيذ أجندتها الإصلاحية دون تشاور مع القضاة، و في هذا السياق يلاحظ أن بعض القضاة احتجاجا منهم على هذه الأجندة غير التشاورية وصلوا إلى حد التلويح بالاستقالة الجماعية، لكن الوزارة مضت قدما في إقرار التعديلات فكانت ردة فعلهم أن قدم خمسة قضاة استقالتهم من القضاء بتاريخ 06-04-2006 يقودهم حينها وكيل الجمهورية بنواكشوط القاضي محمد بوي ولد الناهي، وهي أول استقالة جماعية في تاريخ القضاء الموريتاني الحديث, غير أن وزارة العدل تمادت في تصعيدها ودعت إلى عقد دورة عاجلة للمجلس الأعلى للقضاء للبت في طلبات الاستقالة، كما أوعزت -أو باركت- تأسيس ودادية القضاة كردة فعل على تأسيس نقابة القضاة التي لم تعمر طويلا و انتهى المطاف بأصحابها إلى الاستقالة, غير أن هذه الودادية هي الأخرى ولدت ميتة، ولم تعرف أي نشاط رغم حصولها على ترخيص من طرف وزارة الداخلية سنة 2008، وذلك لنظرة القضاة إليها المشككة في أهدافها.
وقد بقيت ودادية القضاة مجمدة إلي حين سنة 2009 عندما التحقت دفعات جديدة من القضاة الشباب عملوا على بث الروح فيها من جديد خاصة أن مجموعات القضاة الشبابية المكتتبة حديثا لم تكن طرفا في الصراعات التي أفرزت نشأة الودادية .
حماس القضاة الشباب من أجل تفعيل تكتل القضاة الموريتانيين للدفاع عن مصالحهم المهنية سيؤدي في شهر يوينو (حزيران) 2011 الى عقد اجتماع للمكتب التنفيذي المؤقت للودادية، تمخض عنه تكليف لجنة غالبية أعضائها من القضاة الشباب بمهمة إعداد دليل انتخابي و اقتراح برنامج زمني لانتخاب أجهزة الودادية التي ظلت معطلة منذ نشأتها.
المرحلة الثانية : انقسام القضاة بين الودادية والجمعية
بعد تكليف لجنة من القضاة الشباب من طرف المكتب التنفيذي المؤقت للودادية بإعداد خارطة طريق للخروج من النفق المظلم الذي انتهي إليه حراك القضاة بقيادة قضاة النقابة الذين قدموا استقالتهم من سلك القضاء احتجاجا على مآل مشاريع الاصلاح القضائي، ساد شعور عام يملؤه التفاؤل بإمكانية تجاوز خلافات المرحلة السابقة و السعي إلي توحيد الجهود لانبعاث الحراك القضائي في اتجاه أكثر إيجابية، فقرر الجميع الانخراط في ودادية القضاة على أن تتم إعادة انتخاب جميع هيئاتها و إجراء جملة من التعديلات على نظاميها الأساسي و الداخلي، و هكذا نفذت اللجنة المهمة الموكولة إليها، و تم وضع دليل انتخابي و تهيأت كل الظروف لبداية عملية انتخابات الأجهزة المسيرة، كما تم إبلاغ وزارة العدل ووزارة الداخلية بتاريخ 10-07-2011 بالموعد المحدد لإجراء الانتخابات التي انطلقت بالفعل في يوم 01-11-2011 حيث فتحت صناديق الاقتراع في الدوائر الاستئنافية الثلاثة في البلاد، والتي كان من المفترض أن تنتهي يوم 30-11-2011.
و بالفعل صوت أكثر من سبعين قاضيا في نواكشوط، كما صوت أغلبية القضاة المنتمين لدائرة استئنافية نواديبو في شمال البلاد، إلا أن القضاة فوجئوا بتاريخ 29-11-2011 قبل يوم من انتهاء موعد الانتخابات، بتدخل مباشر من وزارة العدل التي أوعزت إلى الإدعاء العام بوقف عملية التصويت التي كانت تجري في قصور العدل، ليتصاعد الجدل مجددا وبدأت الاجتماعات و المشاورات حول ردة الفعل المناسبة، و في غمرة الأحداث ظهر مولود جديد حمل اسم جمعية القضاة الموريتانيين، هذه الجمعية الجديدة حصلت بسرعة البرق على ترخيص وزارة الداخلية، و عقدت اجتماعها التأسيسي في قصر العدل بنواكشوط بمباركة من وزارة العدل و قدم مؤسسوها أنفسهم كبديل لودادية القضاة معتبرين هذه الأخيرة جزءا من تركة ماض لابد من تجاوزه .
لقد أعاد هذا المولود الجديد الانقسام إلى الساحة القضائية لتعرف استقطابا حادا بين تيار الودادية المتمسك بها كخيار قضائي صرف تم تأطيره و بعثه بإرادة من القضاة أنفسهم، وبين تيار الجمعية الذي يقدم أصحابه أنفسهم على أنهم يريدون العمل من أجل مصلحة القضاة من خلال تجاوز الماضي بكل تجلياته و خلق شراكة مع وزارة العدل باعتبارها الجهة الوصية من أجل تحقيق مكاسب مادية ومعنوية للقضاة بدل تضييع الوقت في الخلافات التي أهدرت كثيرا من الوقت، وفوتت الكثير من الفرص على القضاة خاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي، وبالفعل فقد تحققت خطوات هامة في هذا الاتجاه كالتعجيل بمنح قطع أرضية للقضاة وتنظيم ندوات و لقاءات عديدة حول مشاكل قطاع العدل إلا أن ذلك كله لم يكن كافيا ليقنع جمهور القضاة و خاصة الشباب منهم بالانخراط في الجمعية، بل ظل كثير منهم متمسك بالودادية رغم استهدافها الواضح من طرف وزارة العدل من خلال التضييق على نشطائها و حرمانها من التمويلات التي أغدقت بسخاء على الجمعية، و فضل عدد آخر من القضاة الانزواء و اعتزال الاستقطاب الحاد الذي ظل قائما طوال فترة وزير العدل ذ عابدين ولد الخير الذي كان وراء فكرة تأسيس الجمعية و المحرك الفعلي و الموجه لكل أنشطتها في نظر قضاة الودادية .
المرحلة الثالثة : تأسيس نادي القضاة الموريتانيين كإطار وحيد جامع لكل القضاة
بتاريخ 17-10-2013 و بموجب التغيير الحكومي الذي أدى الى خروج وزير العدل ذعابدين ولد الخير الداعم للجمعية، انتعشت آمال كثير من القضاة بإمكانية إحياء الحراك القضائي بعد سبات طويل، و خوفا من عودة الاستقطاب الحاد داخل الجسم القضائي أعلن رئيس المحكمة العليا ذ / يحفظو ولد محمد يوسف عن مبادرة جديدة دعا فيها إلى فتح مفاوضات مباشرة بين قضاة الجمعية و قضاة الودادية من أجل التشاور للخروج من دوامة الانقسامات، خاصة أن عدد القضاة في موريتانيا حينها لم يكن ليتجاوز 250 قاضيا، مما يعني إمكانية انصهار الجميع في هيئة واحدة، وبعد جولات قصيرة من المفاوضات المباشرة بين الطرفين داخل مكتب السيد رئيس المحكمة العليا، و بإشراف مباشر منه اتفق الجميع على حل الإطارين ودادية القضاة و جمعية القضاة، و تأسيس إطار جديد و موحد سيحمل اسم نادي القضاة الموريتانيين . و هكذا انطلقت صباح يوم السبت 19 -04-2014 في جميع دوائر الاستئناف على عموم التراب الوطني عملية انتخاب هيئات نادي القضاة الموريتانيين الممثلة أساسا في المكتب التنفيذي و الجمعية العامة.
و تنافست في هذه الانتخابات لائحتان هما لائحة "المستقبل" برئاسة الوزير السابق القاضي الامام ولد تكدي، و لائحة "الوفاق" برئاسة المدعي العام السابق امبارك ولد الكوري. و قد انتهت الانتخابات التي عرفت مشاركة واسعة من القضاة بفوز لائحة المستقبل بفارق ضئيل على لائحة الوفاق، و قد نظم نادي القضاة الموريتانيين أول نشاط له مساء يوم السبت 26-04-2014 بفندق موري سانتر بنواكشوط بحضور وزير العدل الجديد حينها السيد سيد ولد الزين ورئيس المحكمة العليا و عدد كبير من القضاة و المحامين و كتاب الضبط معلنا بذلك عن بداية أنشطته، و مدشنا مرحلة جديدة في تاريخ الحراك القضائي بموريتانيا.