الجدل حول الدولة الدينية والدولة المدنية جدل قديم ويتجدد , لكنه في هذا الزمن أخذ بعدا آخر حيث لم يعد حجة بحجة وفكرة بأخرى بين أهل الثقافة والفكر والسياسة بل أخذ طابعا عنيفا لما بدأ البعض محاولاتهم لفرض الرأي بالقوة مستغلين ضعف الثقافة الدينية للشباب المسلم التي تجعله سهل الانجرار وراء خطاب أخاذ في ظاهره مخيف في مساره ومآلا ته .
فما هي الدولة الدينية في الإسلام وما هي أسسها ؟ وهل لها سند في النص القرآني أوفي الحديث النبوي الشريف ؟ و هل قامت دولة دينية في الخمسة عشر قرنا التي مضت علي وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ وما هي الشريعة التي تطالب الجماعات الدينية بتطبيقها ؟ وما لفرق بين الشريعة والتشريع ؟
الدولة في تعريفها هي أرض لها حدود معلومة وشعب مرتبط فيما بينه بعقد اجتماعي ومؤسسات تعبر عن الإرادة الجمعية لهذا الشعب بغض النظر عن طبيعة تلك الإرادة وهذا العقد شرط لا غني عنه لأن بدونه لا يمكن حماية الدولة ولا الدفاع عنها.
أما الدولة الدينية فهي دولة يكون فيها الحاكم معصوما مطاعا لا يستأنف –عن قبول و طيب خاطر- أي حكم صدر عنه ولا يرد أمر أقره في حين أن الدولة المدنية دولة اجتهاد بشري قد يصيب في فترة من الزمن وقد يكون بحاجة للزيادة أو النقصان في فترات أخري و قد يكون مستحسنا هنا ومستهجنا هناك حسب البيئة والناس والزمان والمصالح .
و إذا كانت الحدود معلومة في الدولة المدنية فإن الأمر يختلف تماما بالنسبة للدولة الدينية في الإسلام حيث الحدود متغيرة باستمرار وغير معلومة لأنها حيث كان قوم مسلمون كانت حدود الدولة كما أن الشعب شعب من نوع خاص في العقد الجامع بينه وفي طبيعة وسلوك الأفراد أنفسهم.
فالشعب شعب فاضل يوظف دنياه من أجل آخرته ويضبط علاقاته فيما بينه وفق أحكام إلهية تأتيه بواسطة سلطة مربوطة إلي الله بوحي ويري المصلحة الفردية في مدي امتثاله لأوامرها ونواهيها.
ويخلط الكثير من الناس بين الشريعة والتشريع مما يستوجب إزالة اللبس الحاصل والذي تترتب عليه أمور جمة بالنسبة للمسلم في فهمه لدينه و ممارسته لعبادته وبالنسبة للمسلمين طوائف ومللا في تنظيم العلاقة بينهم وفهم حدودها وقبول بعضهم لبعض.
شريعة الله تختلف عن تشريعات فقهاء المسلمين وهي أسمي من أن تكون مادة يختلف هذا وذاك حولها أو أن تكون عرضة للتأويل فتتحول إلي شرائع بتعدد المدارك والرؤى و الاجتهادات, فهي شريعة واحدة أزلية أوصي الله بها نوحا وسائر الأنبياء من بعده وتعني ما سن الله من عبادات كصوم وصلاة وزكاة وحج وعقيدة.
فلم يختلف اثنان علي وجوب الصلاة ولا تأدية الزكاة ولا صوم رمضان ولا حج بيت الله الحرام كما أن عامة المسلمين اتفقوا علي صفات الكمال الإلهي واتفقوا علي وحدة الكتاب المنزل واتفقوا علي أن لا نبي بعده صلعم هذا بالإضافة إلي كل الأبعاد الخلقية للرسالة الإسلامية, لكنهم اختلفوا أو يكادون في كل شيء ما عدا هذا.
وردت الشريعة في القرآن الكريم في عدة مواضع وبصيغ متعددة ولكنها في عمومها تعني نفس المعني أي أنها حيث النجاة وحيث القصد في العبودية لله الواحد الأحد كما ورد في قوله تعالي في سورة الشورى : شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسي وعيسي أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.
وهذا يعني أن الشريعة هي ما هو مشترك بين الأديان من توحيد الخالق ومن عبادات وهو ما يجعلها بعيدة أن تعني المنظومة الفقهية إذ لا مشترك يجمع بين ما سنه فقهاء المسلمين وما كان من منظومات قانونية للديانات الأخرى إذ علي سبيل المثال لا الحصر تقطع يد السارق في الإسلام بينما يعاقب في ديانة يعقوب عليه السلام بفترة زمنية يقضيها خادما لمن سرق عليه......
كما وردت كلمة الشريعة في قوله عز وجل : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أي طريقا واسعا مسلوكا والمنهاج بمعني السنة علي قول الكثير من المفسرين ومن ضمنهم ابن عباس.
وهذا الرأي يدعمه ما نقل عن رسول الله صلعم : نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد وإن أولي الناس بابن مريم لأنا والمعني المقصود بالدين الواحد هو التوحيد كما جاء في قوله عز وجل : شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا...وقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.
و في موضع آخر من القرآن الكريم يقول الله عز وجل في سورة الجاثية : ثم جعلناك علي شريعة من الأمر فاتبعها أي علي مثال و مذهب منه كما يري القتيبي وفيه يقول شرع فلان في كذا و كذا أي أخذ منه ويقول فيها ابن زيد الشريعة الدين وقرأ شرع لكم من الدين....ثم قال فنوح أولهم وأنت آخرهم
و في سورة الشورى : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وهي آية تخاطب كفار مكة أي أن لهم آلهة سنوا لهم غير الإسلام دينا فأنكروا البعث وآثروا عبادة الأصنام.
كما ورد ذكر الشريعة في القرآن الكريم في سورة الأعراف : إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا أي ظاهرة علي الماء من كل الجهات كما يري ابن عباس ويتقاطع هذا المعني مع المورد بمعني الشريعة.
لم يكن المسلمون في مرحلة دولة النبوة بحاجة للتمييز بين الشريعة و التشريع لأن السلطة بيد من أرسله الله للناس كافة معصوما و محروسا بالوحي لا ينطق عن هوي لكن لما توفي صلعم أصبحت السلطة -وفق الرؤية السنية - بيد من تختاره الجماعة وهو ما يجعل دولة الخلافة من حيث المؤسسات و مرجعية السلطة تختلف جذريا عن دولة النبوة.
دولة النبوة
أصدر رسول الله صلي الله عليه وسلم فور وصوله المدينة أول دستور مدني مكتوب في التاريخ ضم 52 مادة منها 27 مادة خاصة بتنظيم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من رعايا الدولة الجديدة وعلاقات هؤلاء بدولة الإسلام التي تتميز في تلك الفترة بوجود رسول الله صلي الله عليه وسلم علي رأس السلطة السياسية والدينية.
رغم أن الدولة في عهده صلي الله عليه وسلم كانت دولة دينية بامتياز في جوهرها حيث السلطة معصومة بالوحي مثل صدور الصحيفة نقطة البداية في تأسيس دولة مدنية تحت ظلها تحضيرا لما بعد رسول الله صلي الله عليه لأن الأمة بحاجة إلي التكيف لتدبير شؤونها في مرحلة ما بعد انقطاع الوحي.
لم يفرض رسول الله صلي الله عليه وسلم أي أمر علي غير المسلمين إلا ما كان يترتب علي المواطنة من حقوق وواجبات رغم أن المرحلة كانت السلطة فيها سلطة نبوة حيث رسول الله صلي الله عليه وسلم بين الناس لا استئناف لأحكامه لأن الله وملائكته صلوا عليه في سابق الأزل وأمر أن يطاع في أوامره ونواهيه ... ......فأين أنت يا رسول الله صلعم مما نعيش اليوم حيث يقتل الإنسان في ديارنا لمجرد أنه من دين آخر!!!
فهذا السلوك النبوي الشريف في التعامل مع غير المسلمين إنما هو تجسيد لإرادة الخالق الذي يقول في سورة يونس : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ويقول في سورة البقرة :لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ويؤكد علي ذلك في سورة يونس :أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين.
بدأ التحضير للدولة المدنية مع الصحيفة واستمر هذا التحضير من خلال شواهد تربوية حية يوحي من خلالها صلي الله عليه وسلم أن الدولة الدينية لا تستقيم إلا علي وحي منزل أو قرار مزكي من الله فكان صلعم يجتهد ولكن اجتهاده محروس بالوحي فإن وافقه كان ذلك وإن خالفه نبهه الوحي .
وقد تجلي ذلك في أنه سبحانه وتعالي لما أمر رسوله صلعم بالمشورة وشاورهم في الأمر جعل تلك المشورة للإستئناس فقط وتربية المسلمين علي التشاور وذالك هو القصد لأن القرار في زمن النبوة إنما بوحي إعلامي أو وحي إقراري ولذلك نزلت : فإذا عزمت فتوكل علي الله والعزم علي القرارلا يكون إلا بوحي.
إن من تأمل في العدد القليل من الحدود الذي نزل القرآن الكريم والذي لا يتجاوز الخمسة يدرك أن الله سبحانه و تعالي ترك تدبير شؤون المسلمين بأيديهم حسب ما تمليه الظروف المستجدة و ما تقتضيه المصلحة وبالتالي فإنه يهيئهم لدولة مدنية و هو ما كان أيضا رسول الله صلعم قد صرح به في حديثه الشريف : أنتم أدري بشؤون دنياكم .
فقد اقتضت المصلحة أن يعطل عمر حد السرقة عام الرمادة لأن القوم أصابهم قحط شديد اضطر الكثير أن يسرق مكرها لقوة الحاجة فالإسلام دين رحمة ويسر كما أن عمر هو أول من حد شرب الخمر بإشارة من علي بن أبي طالب إذ لم يكن الخمر من بين الجدود التي نزلت في القرآن الكريم كما أن رسول الله صلعم لم يجلد شارب حمر.
وكان صلعم يعود عن أي حكم أصدره إذا جاء الوحي بغير ذالك كما كان الحال مع عبد الله ابن أم مكتوم الذي أعرض عن لقائه في لحظة كان صلعم مشغولا فنزلت عليه :عبس وتولي وظل بعد ذلك كلما لقيه يناديه قائلا أهلا بمن عاتبني فيه ربي.
وقوله صلي الله عليه وسلم لما جاءته امرأة تشتكي زوجها وكان قبل الوحي قد أمرها أن ترد عليه بمثل ما فعل فجاء الوحي بغير ذلك, فنادي عليها صلي الله عليه وسلم : أردنا أمرا فأراد الله أمرا وما أراد الله خير وتلا عليها الآية : الرجال قوامون علي النساء. كما جاءه الوحي منبها.
مال رسول الله صلعم علي رأي أبي بكر الصديق حول معاملة أسري بدر ورفض رأي عمر بن الخطاب و عبد الله بن رواحة فافتدي منهم و لم يقتل منهم سوي اثنين فجاء الوحي معاتبا في سورة الأنفال : ما كان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد عرض الآخرة.
ويعني هذا أن الدولة في عهده لا تستقر إلا علي وحي ولو شاء الله لتطابق كل اجتهاد لرسول الله مع الوحي ولكن ليعتاد المسلمون علي سنة التشاور وعلي أن أي حكم بشري يبقي اجتهادا مهما كانت صفات الحاكم لأنهم سيكونون في أمس الحاجة لأن يعتادوا ذلك بعد انقطاع الوحي وليدرك المسلمون أن العصمة بتواتر الوحي فإن انقطع فعليهم ببناء دولتهم وتدبير أمورها علي أسس مدنية حيث يصيب الخليفة ويخطئ فيترتب علي الأولي طاعته وعلي الثانية تنبيهه و إزاحته إن لزم.
دولة الخلافة
لم تعد هناك سلطة مطاعة بالشكل الذي كان ولم تعد هناك مرجعية لا يمكن لأحد -ولا هو أصلا يبيح لنفسه- أن يرجع لغيرها أو يخالف ما يصدر عنها بل قوم يجتهدون فيصيبون و يخطئون و أصبحت الأحكام التي تصدر من هذا و من ذاك قابلة للمراجعة لدي ثالث و رابع و أكثر ...فنشأت بواكير التشريع الإسلامي كمنظومة فقهية تتراكم أفقيا و عموديا عبر الأمصار و الأزمان.
التشريع الإسلامي هو هذه المجموعة من القوانين التي سنها فقهاء الإسلام علي أساس فهمهم للنص القرآني والسنة النبوية ورواية الحديث وتصنيفه إن كان متواترا أو حديث آحاد وهل هو قوي أم ضعيف ويضيفون الإجماع و القياس والاستحسان والاستصحاب وغير ذلك من المصادر.
لكن لا النص متفق علي فهمه ولا المدارك اللغوية متساوية ولا الروايات للأحاديث والأحداث متطابقة كما أن الإجماع يطرح من الأسئلة أكثر مما يجيب عليها, فمن هم أهل الإجماع , وهل بالإمكان حصر الفقهاء لمعرفة علي ما اجمعوا , وما هو تعريف الفقيه لمعرفة من يكون ومن لا يكون, ومن يزكي من, خاصة في فترة عاش المسلمون فيها خلافات كثيرة جوهرها سياسي في الغالب و إن حاول البعض أن يلبسها لبوسا شرعيا.
وكما هو الإجماع فإن الاستحسان والاستصحاب والقياس وباقي التأويلات و القراءات مجرد اجتهادات قد يخطئ أصحابها وقد يصيبون ولا يمكن أن تصنف علي أنها من الشريعة لأنها ببساطة لا يمكن أن تحمل قداسة الشريعة لكونها منظومات تشريعية للمسلمين سنها فقهاء الإسلام كما سن الرومان القانون الوضعي.
فإذا كانت المنظومات الفقهية الحالية هي الشريعة - كما يتلبس علي البعض- فلماذا اختلفت المذاهب حولها وهل يجوز أصلا الخلاف حولها وهل يدرك الشباب المسلم أن المذاهب الإسلامية انتشرت كلها بفضل السند السياسي لهذا الإمام أو ذاك وأن قرار حصرها في أربعة مذاهب قرار سياسي من سلطان مملوكي.
ظلت أركان الدولة الدينية مكتملة إلي أن توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وغابت السلطة المعصومة من الزلل والخطأ فاختلفت الجماعات الإسلامية بين من يري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أوصي بالولاية الدينية والسياسية كما هو حال الشيعة مع علي ابن أبي طالب وبين من رأي عكس ذلك كما هو حال أهل السنة.
ويترتب علي الرأيين اختلافات كبيرة في النظرة إلي مكانة الخليفة حيث أن وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم ملزمة العصمة لمن أوصي له وهذا ما يفسر مبدأ عصمة الإمام عند الشيعة وخاصة الإمامية منهم في حين أن الخليفة المختار من قبل الجماعة –كما هو عند السنة- إنما هو رجل من صفوة الصفوة ولكنه لا يحمل أي شحنة من نبوءة.
يستند الشيعة إلي حديث رسول الله صلعم في حادثة غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه....... ويدعمون رأيهم هذا بما يرونه أسباب ومناسبة نزول الآية الكريمة : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك التي يرون أنها آخر آية نزلت من القرآن الكريم أو ما قبل الأخيرة ويقولون في تفسيرهم لها إن الله أمره صلعم بأن يبلغ الولاية الدينية والسياسية لعلي بن أبي طالب هذا بالإضافة إلي روايات كثيرة عن اللحظات الأخيرة من حياته صلي الله عليه وسلم.
كما أن موقف فاطمة الزهراء التي ماتت وهي رافضة لبيعة أبي بكر الصديق بالإضافة إلي أن بيعة علي له شابتها اكراهات و إن اختلف المؤرخون حول تفاصيلها إلا أنهم اتفقوا علي أنها جاءت متأخرة وأنها لم تكن بطيب خاطر كل ذلك وغيره من الحجج أسس لميلاد ثاني أكبر جماعة إسلامية بعد السنة.
أما السنة وهم أكبر الجماعات الإسلامية وأكثرها تأثيرا في التاريخ الإسلامي فإنهم يرون عكس ما يري الشيعة تماما ويرفضون مطلقا أن وصية قد حصلت وهو موقف تدعمه الكثير من الشواهد التي لا يختلف اثنان علي حدوثها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فلو أن رسول الله أوصي لأحد , ما كان لأحد من الصحابة أن يجيز لنفسه أن يكون له رأي آخر أحري أن يكون طرفا في نزاع وهو عكس ما حصل في السقيفة حيث أن المسلمين اختلفوا في البيعة بين مهاجرين وأنصار بل حتى داخل كل بيت من الاثنين.
لقد اختلف القوم إلي درجة الخطورة القصوى حول من يكون خليفة للمسلمين واتفقوا -مهما قال البعض عن إحداثيات ذاك الاتفاق- علي رجل من خيرة الصحابة ومن أكثرهم ملازمة لرسول الله صلعم ولكنه بمجرد أنه اختير من قبل الجماعة يكون بذلك أعلن ميلاد الدولة المدنية الأولي للمسلمين , دين أهلها الإسلام وأمرهم شوري بينهم لا أحدا منهم معصوما ولا آخر يحتكر لنفسه الرأي الصواب.
ورغم إعلان البيعة لأبي بكر الصديق فقد ارتد بعض من المسلمين حديثي العهد بالإسلام في ردة فعل مباشرة علي الوضع المستجد حيث غابت سلطة الوحي وانفصلت السلطة السياسية عن السلطة الدينية فتعددت الآراء السياسية حول تدبير شؤون الدولة مما شغل الخليفة أبي بكر في معالجة حروب وخلافات بينية جمة شغلت المسلمين كثيرا وأثرت علي مسار الدولة المدنية الناشئة وأودت لاحقا بحياة الخلفاء الراشدين الثلاثة من بعده.
أصبحنا إذا أمام سلطات متعددة تعدد الآراء و التأويلات حول النص القرآني وتعدد الروايات حول الحديث النبوي الشريف بعدما كانت الدولة الإسلامية في زمن رسول الله صلعم دولة الحق المطلق الذي لا تستقيم إلا عليه وإذا اختلف اثنان في أمر ما فإن الحسم بينهما قريب ومقبول من الجميع وحاسم : وحي إعلامي أو وحي إقراري.
وقد عبر كل الخلفاء الراشدين عن مدنية الدولة الإسلامية في الخطب الاستهلالية لخلافة كل واحد منهم معلنين أن لا عصمة بعد رسول الله صلعم وأن تدبير الشأن العام مشورة ورقابة وإن اقتضي الأمر مساءلة وإزاحة.
فهذا أبو بكر الصديق يستهل فترته بالقول : لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني, ويتبعه عمر فيقول للجموع التي بايعته : وأعينوني علي نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خطب عثمان في مستهل خلافته وهو المعروف بحيائه الزائد بكلمات قصيرة لم تتجاوز أن قال إنكم في حاجة لإمام عادل خير من خطيب فصيح وأما علي فقد كانت خطبته الطويلة مرآة عاكسة لما كان عليه حال المسلمين من خلافات ولكنه رغم ذلك حرص علي أن يذكر الجميع : إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم في تعبير جلي أن الدولة الدينية قد انتهت مع وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم لأن السلطة الدينية المعصومة لم تعد موجودة والخليفة مجرد واحد من القوم.
بدأت الدول الإسلامية بعد ذلك تتوالد من بعضها البعض ولكنها وإن كانت إسلامية الطابع ظلت دولة مدنية يدين أهلها بالإسلام ويقبل بعضهم البعض كل علي مذهبه وفي رؤيته وتعددت المذاهب وبلغت الأربعة وكادت أن تزيد لولا أن قرر الأمير بيبرس أن لم يعد مقبولا أي مذهب زيادة علي أبي حنيفة و مالك والشافعي وأحمد.... فالسياسة إذا كانت القاطرة التي نشرت المذاهب الفقهية وكانت أيضا هي من حد منها.
انقسم العلماء إلي فتوى وحديث وكان لكل واحد سند وظهير في السلطة السياسية القائمة فأبو حنيفة مثلا انتشر مذهبه علي يد القاضي أبي يوسف الذي وجد العضد من المهدي والهادي والرشيد.
والإمام مالك كانت له حظوة كبيرة عند أبي جعفر المنصور الذي قال : لا يفتين أحد ومالك في المدينة وهي الحظوة التي استفاد منها تلميذه الشافعي في نشر مذهبه وكان أحمد رابع وآخر أئمة السنة قد استفاد كثيرا من علاقاته المتميزة مع الخليفة العباسي المتوكل.
يخيل إلي البعض أن قرار الحد من المذاهب يحمل شحنة من قداسة كما لو كان قد نزل من السماء في حين أنه لا يعدو كونه قرارا من سلطة سياسية مدنية اجتهدت أن مصلحة المسلمين في حصر المذاهب مع ما يعنيه ذالك من قتل لروح الخلق والإبداع وملاحقة أحوال المسلمين وتقلباتها.
و رغم أن هذا الحصر يعني قتلا للعقل حيث لم يعد بإمكان أحد أن يأتي بجديد إلا أنه يبدو قرارا صائبا لأنه لو تخيلنا أن الباب بقي مفتوحا لكان أهل السنة فقط منقسمين اليوم بين مئات المذاهب مع ما يعنيه ذلك من تشرذم علي تشرذم وشقاق في شقاق خاصة أن المدارس الفقهية التي تم الترخيص لها هي الأخرى تحيط نفسها بمنظومة حمائية فتري في الانتقال من مذهب إلي آخر نكوصا كبيرا. هنا تداخل التشريع الإسلامي مع الشريعة الإسلامية وأضفي أصحاب التشريع قدسية الشريعة علي نظرتهم للأمور فأصبح المسلم يري أن حكما في مختصر الشيخ خليل أو فتوى من الشيخ القرضاوي أو أخري من ابن باز علي سبيل المثال تملك من القوة الدينية ما يجرم محاولة تجديدها مع أن الملايين من المسلمين ومن صفوتهم ماتوا قبل الشيخ خليل و قبل الأمام مالك وسائر الأئمة وماتوا علي دين مكتمل الأركان لا ينقصه شيء.
فا التشريع إذا منظومة قانونية أبدعها فقهاء مسلمون أجلاء اجتهدوا وبذلوا جهدا كبيرا ولكن لا عصمة لهم و ما صدر عنهم قابل للزيادة والنقصان وهم أنفسهم أول من أدرك ذالك وعمل به حيث أخذ الإمام مالك بعضا مما جاء به أبو حنيفة وزاد عليه وخالف بعضه كما فعل الشافعي مع أبي حنيفة و مالك وأحمد مع الثلاثة الذين سبقوه وكان سيفعله خامس وسادس لو أن المماليك لم يغلقوا باب التعدد.
لن نجد صعوبة كبيرة في الحسم لصالح الدولة المدنية حيث لا يعقل تخيل أي تعايش بين مختلف الطوائف تحت عنوان ديني خاصة بلغة هذا الزمن وفهم أهله للدين......فهل يعقل أن تسكت الطائفة الشيعية وتقبل بسلطة دينية سنية وهل سيقبل مالكي بفقه حنبلي للدولة المشتركة وما عساها تكون العلاقة بين أهل الصوفية و أهل السلفية وهل سيقبل الأباظي أن يحتكم في خصومة إلي مفتي سني نصبته الدولة الدينية السنية ليحكم وفق المذهب السني إلي غير ذلك من التناقضات الجمة التي لا يمكن جمع أصحابها إلا في إطار دولة المواطنة حيث لكل واحد دينه وطائفته وملته وللجميع الوطن الواحد.
لكن مشكلة المسلمين لم تعد في الاختيار بين هذا النمط من أنظمة الحكم أو ذاك بل إننا نواجه مشروعا - لم تتضح بعد معالمه حتي لأصحابه أنفسهم - يجرنا نحو هاوية سحيقة ليست فقط بفعل الدمار الذي يلحقه بعضنا ببعضنا وباسم ديننا دين السلام والبناء بل بفعل تخريف عقولنا مما يؤذن بفناء ما تبقي من هذه الحضارة العظيمة.
اليوم تتمزق الأمة علي وقع شعارات أخاذة من قبيل بناء الدولة الإسلامية التي تحكم بشرع الله وتعيد المسلمين إلي عصر النبوة أو علي الأقل عصر الخلافة الإسلامية وينخرط الكثير من أبناء المسلمين في هذه الدعوة بفعل العاطفة القوية و غياب الثقافة الدينية وضحالة الوعي المعرفي وينضاف إلي ذلك المرارة الكبيرة من ظلم القوي الغربية و غطرستها ونفاق شعوبها.
فتري الواحد يردد اسم الله إن هو قتل نفسا مسلمة مخالفة له يستوي في ذلك السني والشيعي وإن هو فجر عمارة فباسم الله وإن هو حرق أسيرا فباسم الله وإن هو أفتي بكفر فلان وفلان فبوحي من الله وباسمه ومن غرر بأرواح شابة في مقتبل العمر ودفعها إلي الموت فأيضا باسم الله وباسم الإسلام !!!
يخبرك فقيه سعودي كبير وموعود أن ملائكة الرحمان تقاتل في حلب – كأنما رآهم – لشحذ همم مقاتلين أبرياء ليكونوا وقودا لنار عبثية لا تبقي ولا تذر ولا تجد من يفيق ليقول له علي رسلك يا شيخ فملائكة الرحمان لا تدري أنت ولا غيرك من أخبارها شيئا وإن قاتلت في جانب فبأمر من الله وحيث كانت يكون النصر........أصبنا بكساح العقل
ويقول فقيه موريتاني كبير ووازن في العالم الإسلامي علي المستوين الشعبي والرسمي إنه لما استرخي في نومه رأي رسول الله صلعم صحبة جمع من صحابته رضوان الله عليهم وأنه فهم مما دار في ذاك المجلس الكريم وهو نائم أن حرب اليمن والشام جهاد في سبيل الله فيهلل شباب في مقتبل العمر والعطاء مفتونا بالرجل فيردد حي علي الجهاد وهو إن سألته متى يكون الجهاد وكيف لن تجد من الجواب سوي أن فلانا قال إنه رأي رسول الله صلعم ويروي قصة ذاك الحلم.........أصبحنا أمة تساق بالأحلام !!!
فكيف يكون النوم من مبطلات الوضوء و يكون في نفس الوقت لحظة للقاء سيد الخلق وينقل ما دار فيه كما لو كان حقيقة ثابتة الحدوث.
قد يكون الرجل رأي في نومه ما ذكر أنه رأي إذ لا حدود للأحلام لا بالنسبة له ولا بالنسبة لغيره لكن المشكلة أن يأخذ الحلم أي قوة شرعية إفتائية أحري أن يؤسس لفتوى تسمو علي العقل والنقل مدركي المنظومة الفقهية عند المسلمين.......تتحول هذه الأمة من أمة اقرأ لتفهم وتمشي علي بصيرة إلي أمة تنساق وراء حلم من هذا وحلم مضاد من ذاك....ضاعت كل الضوابط !!!
في هذا الزمن الذي ينصب كل واحد نفسه بسهولة ويسر علي أنه صاحب القول الفصل في تزكية المسلمين وأنه إن أفتي بفسوق فلان أو ردة فلان كان لله في ذلك رضي ,وفي هذا الزمن الذي يطوع الإنسان معرفته الفقهية لتحقيق مصالح شخصية ولو علي حساب إضلال المسلمين وتشويش أذهانهم وترتيب مرجعيات للحساب والعقاب هو وحده من أنتجها وهذه الفتاوى تكون دائما وليدة شرعية لتموقع سياسي لصاحبها في لحظة معينة ما إن تزول حتى تتغير الفتوى وتنقلب الصورة نهائيا وفي هذا الزمن الذي اختلط فيه كل شيء مع كل شيء يبدو لي أننا معاشر المسلمين بحاجة إلي صقل العقول وتوجيه المجهود الذهني لخدمة الدين في حقيقته لا أن نكون أداة لخدمة هذا الشخص أو ذاك الذي يعلن نفسه مخلصا وهاديا وهو قبل غيره يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة في أموره الخاصة أحري أن يكون شافعا لغيره أو منقذا له.
لقد تطورت الحضارة الإسلامية في العصر العباسي إلي حد لم يبلغه سواها من قبلها و أبدع المسلمون من كل الملل والنحل في كل مجالات المعرفة من أدب وعلوم و فلك ورياضيات وكيمياء و فلسفة و طب و دخل الكثير من الناس في الإسلام بفعل ثورة الترجمة و التأليف........لم يكن هناك إكراه لأحد في دينه و لا قتل أحد أحدا لأنه لا يشاطره رأيا ولا يتقاسم معه فكرا.
و كذلك الحال بالنسبة للدولة الأموية قبلها و الدول الإسلامية التي نشأت بعد ذلك مع أن الخلافة في هذه الدول ظلت وراثية لا مشورة لأحد في اختيار من يدبر الشأن العام ولم يكن هؤلاء الخلفاء في غالبيتهم من المشهود لهم بالورع والتقي.
واليوم رغم سوداوية المشهد الإسلامي في العموم فإن هناك دولا إسلامية كماليزيا و أندنوسيا نجت من هذا الكساح العقلي الذي أصاب الغالبية فازدهرت و تطورت و أعطت نموذجا للدولة الإسلامية الناجحة المستقرة المتصالحة مع نفسها المنسجمة مجتمعيا رغم تنوعها الديني و الثقافي.........فأيهما أكثر تعبيرا عن الإسلام : هذه النماذج الناجحة أم النموذج الأفغاني مثلا
مشكلتنا أن العقل المسير بالمال و الفكر المبدع تحت الطلب لن ينتبه إلي هذه التجارب الناجحة لأنها ببساطة تشوش علي مفاصل البنية الدعائية للمشروع التدميري الذي أتي علي الأرض و عمارتها ويتسلل للإجهاز علي ما تبقي من عقل في أمة إقرأ.