محمد ولد بوعماتو رجل أعمال موريتاني طموح وذكي؛ بدأ حياته المهنية معلما في انواكشوط وسرعانما انتقل إلى التجارة؛ ولم يكن يوما سياسيا بالمفهوم الشائع في موريتانيا؛ رغم بقائه قريبا من صنع القرار السياسي في الحكم والمعارضة منذ التسعينيات من القرن الماضي. تصريحاته السياسية قليلة وعلاقاته بالفرقاء الموريتانيين قوية؛ يعمل كثيرا ويتحدث قليلا؛ تحالف مع الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد عبد العزيز بشكل قوي وجلي في مرحلة مابعد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله؛ ثم ساءت العلاقة بينهما كثيرا لتصل حد القطيعة وتتسبب في هجرة محمد ولد بوعماتو خارج البلد بشكل شبه نهائي.
استمرت علاقة بوعماتو مع الداخل عبر الأصدقاء من المعارضة؛ ولم يثبت عنه إبقاؤه على صلة بمن هم داخل السلطة الحالية إلا في حالات نادرة مطعمة بالقرابة؛ التي تجمعه أيضا بالرئيس عزيز؛ إذ هما من نفس الجيل ونفس المجموعة القبلية وصداقتهما ممتدة لسبعينيات القرن الماضي.
أسالت علاقة الرجلين لعابا كثيرا ومدادا؛ خصوصا حين قويت وحين ساءت؛ فمن الناس من يقول إن الرئيس أراد أن يرسل إشارات إلى صديقه رجل الأعمال بوعماتو أن الشراكة في السلطة غير مقبولة بالمرة؛ ومن قائل إن الأمر تطور إلى أكثر من ذلك حيث يتهم الرئيس قريبه بالسعي لقلب نظامه؛ ومن قائل إن الأمر مجرد شعور ولد بوعماتو بخيبة الأمل في رجل لم يوفق في العرفان لصديقه.
وفي كل الأحوال استطاع بوعماتو في مهجره القصير أن يحدث عن نفسه مشاكسا وداعما ومتدخلا في مجريات الأحداث في موريتانيا في عهد عزيز؛ حيث تلقف المعارضين للرئيس وصادقهم واستقبلهم وربما أهداهم من ماله -حسب بعضهم- ولم يكن الجفاء الذي خيم على محور الرباط-انواكشوط بمعزل عن تواجد بوعماتو في المملكة الجارة.
أقام محمد ولد بوعماتو امبراطورية مالية وصناعية وإنتاجية وخيرية في موريتانيا؛ لامست يوميات الموريتاني العادي حتى صار علما من أعلام البلاد ومشغلا لمئات الموريتانين بشكل مباشر والآلاف بشكل أقل مباشرة؛ وأراد نظام عزيز أن يوجه رسائل غير ودية علنية للرجل في ماله فتفاعل معها بشكل انسيابي؛ حيث انسحب من قيادة معظم مؤسساته في البلد لصالح مقربين منه وأعلن تقاعده عن التجارة.
أما الرئيس محمد ولد عبد العزيز فقد عركه السلطان وازداد منعة واستتبت له الأمور بعد بوعماتو؛ وظل يتعايش مع معارضة لا هي تغازله بالمرة ولا هو يعاتبها لكنهما متفقان على عدم التنائي في الجغرافيا السياسية.
وفي بلد ينمو فيه المال بالسلطة وتتغذى فيه السلطة بالمال في تقنية عربية كلاسيكية مفرداتها الخوف والطمع؛ تبقى الحاجة ملحة لابتكار طرائق جديدة للتعايش بين المال والسلطة دون أن تكون ثمة علاقة حب.
فهجرة رجل أعمال بحجم بوعماتو وضياع استثماراته مضيعة لمصالح مواطنين موريتانيين عملوا لديه فوجدوا أنفسهم معطلين؛ وموريتانيين دأبوا على الاستفادة مما جلب الرجل ومنظمته الخيرية من أشياء تنفع الناس وتمكث في الأرض؛ ومضايقته في الداخل والخارج ومحاسبة من لقيه ولو صدفة إفلاس سياسي وأخلاقي جلي.
أما أن يظن ولد بوعماتو أن عدم توافقه مع الرئيس عزيز مبرر لترك البلد ومبيح للتفريط في مصالحه ومصالح بلده وعماله؛ فذلك إفلاس تجاري وتاريخي وشخصي متعمد.
لست هنا بصدد تقويم المحمدين الرئيس والتاجر؛ إذ هما أكبر سنا ومقاما مني؛ لكني كأي مواطن موريتاني أتطلع للقطيعة مع أيام كان فيها المعارض فاجرا في نظر الحكومة؛ والقائد شريرا بالفطرة في نظر المعارضة. وأتطلع ليوم يعالج فيه الشأن العام بعيدا عن الشطط وحظوظ النفس؛ فمال ولد بوعماتو مال موريتانيا وعمال موريتانيا وأبناء موريتانيا؛ وسلطة الرئيس عزيز هي لبوعماتو وللموريتانيين جميعا.
فما لهذين الرجلين المحترمين لا يرعويان؟ أتذكر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي حين فقد أحد الأطر السامين في الدولة الموريتانية وظيفته بعد أن أعان زعيما معارضا على طريق الأمل على إصلاح عجلة سيارته ! وأعلم يقينا أن أرباب العمل في فرنسا ليسوا بالضرورة من اليمين أو من اليسار. وكلهم رغم ذلك يسافر مع الرئيس الفرنسي حيث حل ونزل يروجون لمنتجاتهم ويبحثون عن أسواق جديدة وشراكات جديدة.
نحتاج لمكاشفة داخلية تضمد الجراح وتقوي اللحمة وترفع الحرج عن الاختلاف؛ ولنترك الخارج للدبلوماسية والتنمية والاعتزاز بالبلد ومن ومافيه؛ فلا رد الله زمانا كان فيه آلاف الموريتانيين هاربين من جحيم الإقصاء والتهميش لمجرد آرائهم أو ألوان بشراتهم.