يعرف عصرنا الراهن نهضة فائقةً لفن الخط العربي، في مختلف دول العالم، من الصين واليابان شرقاً، إلى الولايات المتحدة غرباً؛ فضلاً عن العواصم التاريخية في تركيا وبغداد ومصر ودمشق. وحتى دول المغرب العربي، التي كانت بعيدة عن هذا المجال، ظهر فيها خلال العقود الأخيرة خطاطون كبار، حصدوا جوائز عالمية في هذا الفن الرفيع، كما قام المغاربة بمحاولات لتطوير "الخط المغربي"، وأنجزوا له كرّاسةً تعليمية، غرار الكراسات المشرقية.
ولكن؛ تبقى بلادنا دائماً هي الاستثناء – كحالها المؤسف في كل المجالات – وكأنها خارج العالم، بل وحتى خارج محيطها القريب، لا معارضَ خطية، ولا مشاركةَ في أي مسابقة دولية، ولا اهتمامَ بهذا الفن العربي الأصيل في المدارس بمختلف مراحلها!!
هذا بالرغم من وجود مواهب عديدة، لدى كثير من الشباب الموريتاني، لو وجدت دعماً واهتماماً، لكانت حجزت لبلادنا مكانتها المستحقة بين دول العالم، ولكن كثيراً من هذه المواهب – مع الأسف – يموتُ في مهده، إحباطاً وعجزاً أم الواقع المتجمد.
وقبل مناقشة أسباب المشكلة، أنوه إلى الخط العربي ينتظم في مدرستين، لكل منهما خصائصها وفروعها: مدرسة الخط المشرقي، ومدرسة الخط المغربي. ونحن في هذه البلاد ننتمي إلى المدرسة الأخيرة، لكن طبيعة الانفتاح والتواصل في هذا العصر، جعلت الخط مشاعاً للجميع، ولم يعد ذلك التمايز بين المدرستين ضرورياً.
هذا عن دول العالم من حولنا، أما عندنا فلا اهتمام بهذا ولا بذاك، وهذا ما يدعونا إلى محاولة تشريح الواقع وفهم أسباب تخلفنا عن الركب.
ورجوعاً إلى الماضي؛ أردت أن أستكشف أسباب عدم اهتمام أسلافنا بالخط وبتطويره، ويبدو لي أنه يمكن إعادة الأمر إلى ثلاثة أسباب أساسية:
- 1ـ أن الخط المغربي الذي هو أصل الخط الشنقيطي، لم يعرف التطور، وإنما ظل أقرب إلى العفوية والتلقائية، وإن كانت له سمات جمالية مشتركة، وأخرى تعود للتنميق الذي يقوم به كل خطاط، انطلاقاً من حاسته الفنية، ولكن ذلك كله لم يتطور إلى قواعد يمكن ضبطها والقياس عليها، كما حصل للخط المشرقي، الذي استطاع الوزير ابن مقلة البغدادي (ت: 328هـ) تقعيدَه في وقت مبكر، عن طريق النقطة "المعينة" هندسياً، والتي جعلها الوحدة المعيارية لقياس نسبة كل حرف، وبذلك صار الخط المشرقي يعرف بـ"الخط المنسوب". ولكن النقطة في الخط المغربي لا يمكن أن تكون وحدة قياس منضبطة، لأنها مدورة مدبّبة، أما القلم المشرقي فيكون مقطوط الرأس بشكل يسمح بتشكيل نقطة هندسية منضبطة. على أن من الخطوط المشرقية ما يخضع للذوق أكثر من "النسبة"، مثل الخط الديواني. وذلك ما جعل بعض المعاصرين يرى أن تحرر الخط المغربي من التقعيد قد يكون ميزةً وليس نقصاً، لما يعطي للفنان من مساحة في التشكيل والتركيب.
- 2ـ أن الخط يعدّ من الصناعات الحضرية، التي تعود إلى فنون الرفاهية.ومن الواضح أن أحوال "المنكب البرزخي" لم تكن لتسمح بذلك، فحتى وجودُ الورق المطلوب للكتابة كان مشكلةً كبرى؛ولعلنا نذكر كيف عبر عن ذلك الشيخ محمد اليدالي(1096 – 1166هـ)، في (المربي شرح صلاة ربي) حينما وجد شيئاً من "الكاغد الرومي"، فعدّها كرامةً عظمى، ونجده في (فرائد الفوائد في علم العقائد) يعبر عن معاناته كمؤلف شنقيطي، فيقول: «فعذري فيه أني جمعته وأنا في تيرس أجول في أكنافها، وأهيم مع أهلها يمنة ويسرة في جوفها وأطرافها:
يوماًبحُزوى ويوماً بالعقيق ويو = ماً بالعذيب ويوماًبالخُليْصاء
فتارةً ينتحي نجداً وآونةً = شِعبَ الحزون وطوراً قصرَ تيْماء
الطَّرفُ معتبِرٌ بكُداها وأباطحها، والقلب منتظِرٌ لعِداها وطواطحها، والقلم غير مساعف، والهم مبثوث، ولا مداد إلا مداد صبيان المكتب والطرثوث، ولا جمع غالبا إلا بالليل؛ لاستغراق النهار بالترحال الحثيث».
- 3ـ أن صناعة الخط إنما كانت تزدهر في العواصم الكبرى، لا في الأطراف؛ فقد بدأت نهضته في بغداد، ثم بعد سقوطها تنقل بين مراكز القوى الجديدة، إلى أن جاءت الدولة العثمانية، فعرف عصره الذهبي في كنفها، وبعد ضعفها انتقل مركزه إلى مصر.
أما في بغداد التي هي العاصمة الأولى، فلم ينهض الخط مجدداً إلا في منتصف القرن العشرين على يدي هاشم البغدادي ويوسف ذنون؛ فالأول هو صاحب الكرّاسة التعليمية المشهورة، والتي اعتمد عليها آلاف الخطاطين المعاصرين في تكوينهم. وأما الثاني فكان صاحب الفضل في إدراج مادة الخط العربي في المعاهد، كما أقام مئات الورشات الفنية، والمعارض الخطية في العراق وخارجه. وبعد نهوض الخط العربي في بغداد، بدأ الأتراك يعودون إليه من جديد وينهضون به، أيضاً باعتباره جزءاً من التراث القومي التركي، فأقاموا له هيئة حكومية مختصة تسمى: (مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إرسيكا).
وبعد؛ أليس من الغريب أن تظل بلادنا خارج كل هذا الحراك العالمي، نهضتها في هذا المجال في عصرنا الحديث، خصوصاً إذا رأينا النهضة من حولنا في المغرب وتونس والجزائر وليبيا، وهي دول تشاركنا نفس التراث والتاريخ!
إن لدينا – رغم ما تقدم – تراثاً هائلاً من المخطوطات يدل على علو الهمة التي تمتع بها أسلافنا في محيط غير مواتٍ بالمرة، وفي ظروف من البداوة القاسية. ومنها مخطوطاتٌ تقدم نماذج فنية رائعة، يمكن استلهامها والبناء عليها، لإحياء الخط الشنقيطي الأصيل.
وفي الوقت الراهن، لدينا أيضاً خطاطون متفرقون، طوّحت بهم ظروف الحياة، كما فعلت بأسلافهم، ولم يجدوا وقتاً ليتفرغوا لفن الخط العربي، الذي يحتاج للتدريب المستمر والتفرغ الكامل.. وقد آن الأوان لنغير الواقع، ونحجز لبلادنا مكاناً يليق بها في المحافل الدولية.
وهذه دعوة للمسؤولين في مراكز القرار، ليتخذوا القرارات الضرورية من أجل إحياء هذا الفن في المدارس وغيرها، وهي أيضاً دعوةٌ إلى الخطاطين المشتتين في أرجاء الوطن وخارجه، ليجتمعوا وينسّقوا الجهود، ويتبادلوا الخبرات والأفكار.
محمد الأمين السملالي ـ [email protected]