كأي موريتاني طبيعي أجدني مبتلى بالتطلع للممارسة السياسية؛ لأسباب ودوافع أغلبها مجهول وغامض ؟! وبعضها معلوم بالضرورة ، مثل
- التربية في محيط عائلي مارس السياسة
- وبحكم التكوين المعرفي ( العلوم السياسية ) - مع أنه ليس شرطا –
- وبحكم الخبرة الحياتية والعملية ( بعض التجارب النقابية والسياسية والوظيفية )
- فضلا عن فهم خاص يعتقد باستحالة تغيير عمومي في البلدان النامية يكون حقيقيا وحاسما ؛ إلا من خلال الصعيد السياسي كمجال " حاكم ، وموجه ، وقائد " للمجالات والصعد الأخرى ؛ التي هي في حالة تبعية "مرهقة" للسياسة لسوء الحظ أو لحسنه ربما ؛ فحيازة السلطة بالمعنى العام؛ هي مايراهن عليه الكل بوعي أو بغيره، لاحداث التغيير المتوقع والمفترض، حيث استقر في الوجدان أولوية الفعل السلطاني على الانقياد القرآني ، فأصبح الناس تلقائيا لا ينقادون إلا لإرادة خارجة عنهم وفوقهم هي "السلطة" ، وإن كان الحديث المشار إليه ينبه على حقيقة "قدرية" وطبيعية هي قدرة السلطات - كونها تحوز قوة الإكراه وتحتكر الموارد - على الفعل أكثر من الفاعلين الآخرين.
لكن ورغم الفكرة الشائعة عن الموريتانيين وهي انكبابهم على السياسة ، إلا أن السياسة في موريتانيا تعيش أحلك أوقاتها ، وهو ما جعل البعض ينادي صادقا، بأهمية اعادة الاعتبار للسياسة وللممارسة الحزبية ، فسؤال المراجعة للفاعلين السياسيين ولفكريتهم ولسلوكهم أصبح ملحا أكثر من أي وقت مضى .
فالممارسة السياسية المنظمة والمخططة والمنهجية، لم تعد متاحة نتيجة فوضى المعايير والأفكار والتحركات ، إذ التحديات المتعلقة بالنخب ( سواء الحاكمة أو المحكومة ) أو بثقافة المجتمع ( كحامل ومستهدف بالعمل السياسي العام) تطرح أكثر من تحد .
ذلك أن تاريخا طويلا من الرؤى العبثية والممارسات السياسية الخاطئة؛ رسخت – وعن وعي ولحسابات ضيقة جدا – لعبة سياسية معيبة ، لا حدود ولا قواعد مصلحية تضبطها ، فتقاذف الجميع بالميولات الضيقة وبالغرائز بدل المصالح الحقيقية والعامة ، فترسخت ثقافة عميقة وخطيرة لحمتها قيم سلبية تمثل سدا ذريعا أمام أية ممارسة سياسية مبدئية وايجابية وفي وجه بناء محيط سياسي عمومي وشرعي واضح ومعقلن ومعقول (مفهوم) .
ويمكن لهذه الثقافة السلبية، وتلك الممارسة السياسية القاصرة ،وكذا القيم المستحوذة ، أن تفسر لنا – ويا للمفارقة – فشل النخبة السياسية في السياسة ، بل إن هذا العجز الذاتي وفقدان القدرة على ممارسة السياسة، على أساس رؤية وسلوك للبناء ، يفسر جوهريا فتح المجال واتاحة الفرصة دوما، للتغييرات السياسية الغير الشرعية للأنظمة في موريتانيا – الإنقلابات - التي تنتظرها النخب السياسية المدنية أحيانا وبفارق الصبر ، بل وتعرف تماما كيف تستغلها ، لخدمة وتعظيم مصالحها الخاصة ، فالتغييرات الغير الدستورية، تفتح فرصا لركوب الوضعية السياسية المستجدة ،من خلال المساومة والرهان على طرف ما داخلي أو خارجي ، وحتى بيع الأصوات والحناجر والعقول ( الدعاية المبتذلة) .
ولذا لا تعجب من كون هذه النخب، هي نخب كسولة فكريا وعمليا ومستريحة ومستقيلة من المكابدة والمثابرة من أجل العمل وبث الوعي الضروري للتغيير الإيجابي.
- من وحي التجربة الخاصة ؛ كموريتاني يتطلع فطريا وموضوعيا للسياسة ، وتكلم ويتكلم مع تيارات عريضة وشخصيات عمومية جمعها الهم السياسي ، لمست بعض القيم السلبية، المستبدة بعقول النخبة الوطنية ، خاصة منها تلك النخب المتعلمة والتي تتطلع بشكل طبيعي، للعب أدوار في الشأن العام ،وكذلك النخب الشبابية المعنية بالبحث عن دور سياسي مأمول ؛ وعلى رأس هذه القيم :
- اليأس ، من القدرة على الفعل مهما كان الواقع مبررا .
- العجلة والتسرع على قطف ثمار الأفكار والتحركات، وهو ما أثر بشكل واضح على المسلكية العمومية لهذه القوى ، وأدخلها في تحالفات وسياسات غير مفيدة ابتغاء العاجلة .
- أزمة الثقة في النفس وفي الآخر الشريك المجتمعي والسياسي .
- الواقعية العدمية التي تبرع في توصيف الواقع، رصدا للمعيقات وتعمى عن الفرص.
- الوثوقية الزائدة في المعتقدات والمعارف ؛ وهي وثوقية تسد الباب أمام التواضع الضروري، للتشاور وتبادل وجهات النظر بدل الاكتفاء بالرأي .
- وضعية السواء النفسي -اجمالا- الخاصة بافراد النخبة .
- .......إلخ
وتبقى الحقيقة – في هذه العجالة- والتي لا تقبل الجدل نظريا على الأقل؛ أن الواقع السياسي والتنموي العنيد ، لا يمكن أن يتغير من تلقاء ذاته ؛ وسيناريو المعايشة السلبية، سيجعل منه واقعا متدهورا بالضرورة ، وأن هذا الواقع المتخلف لا يملك قوة في ذاته ، وإنما يعود استمراره لغياب البدائل المناسبة فحسب .
والحقيقة أنني كثيرا ما أجازف مع أحد الفلاسفة بالقول " أنه لا يوجد شيء أقوى من فكرة جاء وقتها " ، بل وأجادل بأن كل الدعوات الدينية والفكرية والسياسية عبر التاريخ واليوم؛ لم تبدأ أبدا كاملة ولا ناجزة ولا معبئة بشكل مناسب تماما ، بل كانت الفرصة للتعلم والتجربة وبناء الخبرة قائمة، حتى آتت هذه الأفكار أكلها شرط العمل والإخلاص والشجاعة .
من يريد أن يسبح عليه أن ينزل إلى البحر ؛ يظل دائما من بيننا من يهنئ ويشيد بالمنطق المتسق والأفكار الطموحة ،لكن إياك أن تريد به العمل، فلسان حاله دوما (أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) ؛ لكن هذا ليس مدعاة للاحباط ، ففرص النجاح والخروج من ضيق التخلف، إلى فسحة التبدل والتطور الايجابي أكثر من أن تحصى ، علينا فقط كنخب واعية واثقة أن نغير زاوية نظرنا ، ساعتها سنلمح ذلك الدور الايجابي المتجول باحثا عن من يلعبه .
السعد بن عبد الله بن بيه