نشرت يوم أمس الأربعاء بالدوحة إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف القطرية في عدد جديد من كتابها الشهير "كتاب الأمة" بحثا منهجيا لغويا أصوليا، للباحث الموريتاني محمد سالم بن دودو، تحت عنوان: نظرية السياق في التراث الإسلامي محاولة في البناء، ويسعى البحث كما جاء في مقدمته إلى: كشف البناء الكلي لآلية السياق في التراث الإسلامي مبرزا؛ «أهميته، وماهيته، ومهمته».
وقد أشار الباحث في مقدمته إلى أنه وظف في بحثه: ما يربو على 300 نقل من نوادر اللفتات التنظيرية، والوقفات التقعيدية للسياق لدى أساطين الدرسين اللغوي والأصولي انتقاها من أزيد من 150 مجلدا، ترجع إلى 107 مؤلفات، لـ 95 علما من أكابر أئمة التفسير، والحديث، واللغة، والأصول، والفقه.. عاش تسعون منهم بالألفية الأولى وماتوا بها، وعاش اثنان أغلب عمريهما فيها وتوفيا في العقدين الثاني والثالث عقبها، وعاش الثلاثة الباقون في القرنين الثاني والثالث بعدها. مشيرا إلى أنه حرص: «كل الحرص على أن يكون العمل نقلا عنهم لا تقولا عليهم؛ مكتفيا كلما أمكن من التحليل بالجمع والترتيب.. ومستعيضا كلما تيسر عن التعليق بالربط والتبويب.. أملا في إثبات نسبة النظرية إليهم». مستهدفا بذلك «إثباتَ تَجَذُّرِ السياق؛ باسمه، ومضمونه، وتوظيفاته.. في التراث الإسلامي!.. استجلاء لما طمسه النسيانُ والإهمالُ من صرحه الشامخ؛ إنصافا للسَّلف، واعترافا بفضلهم.. وتيسيراً للخلفِ القيامَ بواجبهم، في مواصلة العطاء».
وبين الباحث أنه سعى من وراء ذلك إلى الرد على ما شاع في الدراسات اللسانية الحديثة من نسبة اكتشاف دلالة السياق والتنظير له إلى لسانيين غربيين؛ «كانوا أحياء يرزقون منذ أقل من مائتي عام، وأنهم أضافوا إلى المعارف الإنسانية شيئا اسمه "نظرية السياق" !!..».
وقد عرف الباحث "نظرية السياق" بأنها: «مجموع ما تلزم معرفته من القواعد والضوابط؛ لحصول العلم بالسياق من حيث الماهية والمهمة»، شارحا ذلك بلغة العصر "التقنية"، قائلا: «إن "نظرية السياق"، تقدم السياق عبر دليلين؛ "دليل تركيبه"، و"دليل تشغيله"».
وتبعا لذلك تقوم "نظرية السياق" على ركنين؛ أولهما: العلم بماهية السياق التي أجملها في أربعة أركان؛ «مقال يتضمن، ومقام يكتنف، ونسق يحتضن، وقرينة تقتضي»، وثانيهما: العلم بمهمة السياق وقد اختصرها في ثلاثة محاور؛ «لبس يعالج، وقصد يطلب، ومقتضيات توازن»، وحول هذه "العناوين السبعة" دارت الفصول الأساسية في هذه الأطروحة الموزعة إلى بابين يختص كل واحد منهما بمعالجة ركن من ركني "نظرية السياق".
كما عرف الباحث السياق نفسه بأنه: «هو كل ما يمكن أن يؤثر في معنى خطاب معين»، ويتبين من هذا التعريف أنه دائر على مجرد "القابلية للتأثير" في معنى الخطاب لا على "تحقق التأثير"، فكلُّ ما كان مؤثرا بـ"القوة" في معنى الخطاب فهو داخل في السياق، ولو لم يؤثر فيه بـ"الفعل". مبينا أن أركان السياق الأربعة السابقة ليست على وزان واحد في الاستقلالية والتجرد؛ «فمنها القائم بذاته، والقائم بغيره، والقائم في غيره». فأما القائم بذاته فهو «المقال والمقام»، وأما القائم بغيره فهو «النسق» لضرورة استناده على مقام أو مقال، وأما القائم في غيره فهو «القرينة» التي لا يمكن أن توجد خارج الأركان الأخرى. وقد خصص الباحث لكل ركن من هذه الأركان فصلا مستقلا.
وفي الباب الثاني تعرض الباحث لمهمة السياق إجمالا بقوله: «لا يُلجأ إلى إعمال السياق إلا عند "قيام اللبس"، ولا يطلب من السياق إلا الإجابة على سؤال وحيد، وهو: ما قصدُ المتكلم ؟! مؤكدا أن الإجابة المقبولة لا بد أن يتوفر فيها شرطان؛ موافقة مقتضيات اللسان العربي من جهة، والملاءمة لـ"مقتضى الحال" من جهة ثانية».
ثم فصلها من خلال ما أسماه؛ "دليل تشغيل آلية السياق"؛ بدءا بـ"دواعي" استخدامها، فـ"الغاية" المرجوة منها، فـ"مسارات" التشغيل الأمثل، وانتهاء بـ"مخاطر" التشغيل الخاطئ.
مبينا أن "دواعي تشغيلها" تنحصر في "معالجة اللبس"، عبر أربع مراحل؛ في أصل "الدلالة" عند "الواضع"، وفي قصد "الإفهام" عند "المتكلم"، وفي قصد "التفهم" عند "الناظر"، وفي قصد "التفهيم" عند "المناظر".
وأن "الغاية المتوخاة" من تشغيلها تنحصر في "الوقوف على قصد المتكلم"؛ "تحريرا" له بـ"دفع اللبس" عند "الاستعمال"، أو "تحديدا" له بـ"رفع اللبس" عند "الحمل".
مفصلا "مسارات تشغيلها الأمثل"؛ بدءا بحسم التردد بين الوضع والاستعمال، فتمييز الحقيقة من المجاز، فجعل الكنايات صرائح، فإبراز ما وراء اللفظ من إشارة وتنبيه واقتضاء، فتعيين معاني الصيغ في الإخبار والاستخبار والأمر والنهي، فتوسيع الدلالة وتضييقها تعميما وتخصيصا وإطلاقا وتقييدا، فتغيير حكم الأقوال والأفعال من مقتضى إلى نقيضه، ومن محتمل إلى معين، ومن ظاهر إلى مؤول، وانتهاء بقصر المشترك على بعض معانيه. ثم "أجمل" كل ذلك في "الترجيح بين المعاني بحسب المقتضيات".
وختم بالقول: إن هذه الآلية لا تؤدي المطلوب منها على الأوجه الأمثل إلا بتكامل الأدوار بين مكوناتها الثلاث البارزة؛ المقال والمقام والنسق، وبوجود المكون الرابع الضمني، وهو القرينة، في بعض الثلاثة أو في جميعها.
وكان الباحث قد خصص حيزا من بحثه لأهمية إبراز القوانين والقواعد التي صاغها سلف الأمة للاستدلال بالسياق بصفتها ميزانا يحتكم إليه في كشف الدلالات ونقدها، «خصوصا بعدما تبلَّدت الملكات، وتبدَّلت الأذواق، وانتشرت التأويلات.. فكانت الحاجة إلى وضع النقاط على الحروف أكثر إلحاحا، حتى لا يبقى السياق وقضايا الملكات، والأذواق، والأحاسيس، والمواجيد، والقصود.. مطايا مذللة يعتلي صهواتها كلُّ من أراد من أصحاب الأهواء والنحل أن يوجد لباطله تأشيرة دخول إلى ساحة الرأي الفقهي أو الأخلاقي أو العقدي».
وتجدر الإشارة إلى أن الباحث محمد سالم بن دودو، يرأس حاليا قسم الدراسات العليا بمركز تكوين العلماء، ويتولى منصب نائب الأمين العام لمنتدى العلماء والأئمة بموريتانيا، وقد عمل سابقا مستشارا شرعيا لوزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي ورئيسا لبعثة الحج الموريتانية، وله خبرة فلكية متميزة ظل بموجبها موقتا معتمدا في البلاد منذ عام 1991م.