محمد يحيى بن عبد الرحمن
عبر تاريخ مَظْلمة فئة لمعلمين ومعاناتهم لم يجد المجتمع الموريتاني مندوحة عن الإمعان في ظلمهم وتلبيسهم أي جرم يمكن أن يخطر ببال، نسجا للخرافات والأساطير المدعمة بأسانيد "دينية" مفتراة نسجتها عقول مريضة. ولم يكن المجتمع ليفوت سانحة الإساءة التي ارتكبها سيء مسيء في حق أكرم الخلق وأعدل الخلق صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليفوتها ليزيد في نهش أعراضهم، معرضا عن كل إساءة مماثلة يرتكبها أي مسيء ينحدر من أي فئة أخرى من فئات المجتمع! لكن مهرجان النصرة الرضوية كان استثناء وفارقا بكل المقاييس.
بينما أنا تصفح المنشورات الفيسبوكية إذا برسالة خاصة من أحد قيادي مكتب المنتدى العالمي لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أمين الثقافة محمدن بن امد - وكنت قد عرفته مسبقا، موفدا شخصيا من الشيخ علي الرضا رفقة قياديين آخرين لندوة لنا في "حراك لمعلمين" كانت قد نظمت ردا على الإساءة - رسالة يشعرني فيها بدعوة من الشيخ علي الرضا لي شخصيا ومن خلالي إلى "لمعلمين"، أجبت بالإيجاب متشرفا بالدعوة وممتنا لصاحبها، لكنني لاحظت في اليوم الموالي رسالة جديدة من القيادي في المنتدى تقول: "الشيخ علي الرضا سوف يحضر بنفسه وينص عليكم شخصيا في الحضور" ، قلت: جزى الله خيرا عني الشيخ سوف أكون هناك بإذن الله.
وبعد صلاة الجمعة بساعة ونصف رن هاتفي باتصال من القيادي في المنتدى محمدن ولد امد يستفسر إن كنت في ساحة النصرة، فأكدت له أنني في طريقي إليها. توجهت إلى الساحة، وفي طريق من "مدريد" إلى الجامع، كان بعض المارة يسابق السيارات على قدميه، تهفو أفئدتهم إليها تماما مثلي قبل الوصول. وصلت إلى ساحة النصرة وتواصلت هاتفيا مع السيد أمين الثقافة حيث استقبلني عند بوابة الممر المؤدي للمنصة، وعندما ولجت من ذلك الباب أحاطتني الرهبة عن جانبي، إذ عن يميني نساء يلهجن بالذكر على إيقاع سبحاتهن، وعن شمالي رجال وشباب يهللون ويكبرون، في موقف غاية في العظمة.
أمام المنصة استقبلني الأمين العام للمنتدى للعالمي لنصرة الحبيب صلى الله عليه وسلم محمد محمود ولد بدي، حيث سلمني إلى بعض المسؤولين عن التنظيم وحضض على إتاحة الفرصة لي لإلقاء كلمتي باسم "حراك لمعلمين"، كانت صلاة العصر قد أزفت، ونودي بها من على المنصة، رتب الناس صفوفهم، أخذت مكاني في الصفوف الأمامية، واستثمرت فرصة الصلاة لمناجاة ربي بالتثبيت، بطلب السداد في القول وفي الفعل. وهو ما تم بحمد الله ومنته بعد صعودي على المنصة.
صعدت على المنصة ولم أجد فرصة لأرتب أفكاري على شكل نقاط في قصاصة ورق حتى لا أنسى بعض ما أود قوله؛ لكنني ما إن صعدت حتى نادى علي صاحب الربط الأستاذ محمد سالم ولد النيه – وهو شيخ يعرفني وأعرفه من سنين، ويحترمني وأحترمه – محيلا إلي الكلمة باسم لمعلمين. تقدمت إلى الميكرفون ولم أشعر أمام ذلك الجمع الغفير من الناس بأدنى توتر على غير عادتي في مثل هذه المواقف! وقلت من بين ما قلت مرتجِلا: "يشرفني ويسرني أن أتحدث باسم لمعلمين الذين كانوا أول من تبرأ من المسيء وأول من رد عليه، لم ولن تأخذنا الرأفة بحقه، ونشدد كما شددنا أول يوم على تطبيق الشرع فيه". وأردفت قائلا "بأن المسيئين ملة واحدة، بعضهم من بعض، بدءاً بالمسيء العتيق ولد آبه، ومروراً بالمسيء ولد امخيطير وانتهاءً بالمسيء ولد الشيخ محمد المامي. وينبغي تطبيق الشرع بحقهم جميعا واجتثاثهم من هذا المجتمع حتى لا يفرخوا أجيالا من المسيئين الجدد".
ولمن لا يعرف العتيق ولد آبه (لعدم التشنيع عليه كما ينبغي حين كان في موريتانيا) فهو مسيء سخر من إبراهيم عليه السلام ومن الذات الإلهية في قصة الذبيح عليه السلام التي ذكرت في القرآن الكريم، وكان قد كتب هذه السخرية على صفحته الفيسبوكية (أكتوبر 2013) وواصل التعنت على إساءته إلى أن أساء قرينه ولد امخيطير إساءته النكراء بحق النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بحين (في 31 ديسمبر 2013)، وبعد إلقاء القبض على هذا الأخير بأحد عشر يوما (في 12 يناير 2014) كتب العتيق توبته على صفحته الفيسبوكية "استجابة لمن تربطه بهم المودة والقربى" حسب قوله. وهي "توبة" تم تقبلها بقبول حسن من خلال مئات الإعجابات وعشرات المشاركات من قبل الفيسبوكيين. ثم أتت الإساءة الأكثر قبحا بعد ذلك بأكثر من عام من قبل ولد الشيخ محمد المامي معضدا ما قاله قرينه المسيء ولد امخيطير قبله ومضيفا إلى إساءة قرينيه ما هو أعظم وأفظع وأقبح من منكر القول في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق عائشة رضي الله عنها وفي حق الذات الإلهية الأعظم.
أكدت في كلمتي المقتضبة جدا على أنهم زمرة واحدة، وأن بعضهم من بعضهم وينبغي قرنهم ببعضهم، وأضيف هنا أنه لا يجوز ربطهم بفئاتهم الاجتماعية ولا قبائلهم ولا عائلاتهم، فمعروف أن عائلة أهل لمخيطير تبرأت من المسيء ولد امخيطير وأن عائلة أهل الشيخ محمد المامي تبرأت كذلك (ولا علم لي ببراءة من عائلة المسيء الأول العتيق ولد آبه). ومن الحري بكل ناصر للحق أن يعزلهم عن فئاتهم، فلا جرم للمعلمين بسبب ولد امخيطير ولا جرم للزوايا بسبب الآخريْن، بل هم سواسية في السوء، دوافعهم ومنطلقاتهم واحدة، وأسبابهم ومآربهم متحدة.
وعودة إلى المنصة توالت المداخلات الشعرية والنثرية، وقد كان الصحفي سعدنا حبلل الذي كان يناوب على الربط، واضحا وجليا في قوله؛ نطالب بإعدام المسيء ولد امخيطير ونطالب باستجلاب المسيء ولد الشيخ محمد المامي والحكم عليه بالإعدام كذلك، وهو أمر لم أسمعه من على المنصة التي نصبت الجمعة الماضية من قبل أي متدخل. وخلال المداخلات الشعرية كانت هناك مداخلة شعرية لشيخ اسمه رباه ربو جمع فيها بين شرف وواجب الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجر إنصاف عائلة "أهل لمخيطير" التي مدحها في عدة أبيات.
توالت المداخلات الأدبية والنثرية متقدة حماسا ومشتعلة رفضا للإساءة وذما للمسيء بما يستحق، حتى جاء وقت حضور الشيخ علي الرضا رئيس المنتدى العالمي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد كان ملفتا وقت حضوره، تدافع قوي من قبل الجلوس على المنصة الرئيسية لإفساح المجال له ولتحيته عن قرب، وقد كان على المنصة أحد الشعراء يسرد قصائده المديحية لكنه قطعها للترحيب بالشيخ، وما إن حاول الاستفاضة في تعداد مناقبه حتى قوطع من قبل الشيخ نفسه بالتوقف عن ذلك واستئناف قصائده المديحية، فامتثل للأمر مباشرة.
حان وقت كلمة الشيخ الرضا، لقد وقف الرجل منتصب القامة، جهوري الصوت، مرتجِلاً لكلمته التي استغرقت عشر دقائق من الوقت؛ تجزأت إلى جزئين هما واجب الدفاع والنصرة للحبيب صلى الله عليه وسلم وواجب الذب عن أعراض المسلمين، استهلها بضرورة امتثال الشريعة المحمدية وتطبيقها على جميع المسيئين، "إذ لا يجوز تطبيق الشريعة على بعض الناس دون بعض"، وشدد على "اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حياة الناس سواء كانوا علماء أو فقهاء أو مشايخ أو عامة أو سلاطين أو فقراء أو مساكين". ثم أردف قائلا: "أشكر مجموعة لمعلمين على تبرئها من الكاتب المسيء محمد الشيخ ولد امخيطير، فإن جماعة لمعلمين هم أول من تبرأ منه ووكلوا أمره إلى الشريعة المحمدية، وقالوها كتابة، ونطقوا بها، وأتذكر أنهم عقدوا مؤتمرا لتبيين ذلك في فندق إيمان قبل سنتين تقريبا، ثم بعثنا إليهم بعض من حضره من المنتدى، فأيدناهم على ذلك ولا نزال نؤيدهم على ذلك. وأقول لهم بعد ذلك إن انتساب شخص إليهم لا يضرهم ولا ينقص من قيمتهم، فالله تعالى يقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
ثم تابع الشيخ محضضاً على الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم واتباع هديه، وطالب باسم الحاضرين "تحكيم الشريعة المحمدية في الكاتب المسيء محمد الشيخ ولد امخيطير" وأردف قائلا: "ولا ننسى أن بعض المرتدين الموريتانيين الذين يوجدون في الخارج نطالب بمحاكمتهم غيابيا ولا نخص شريحة لمعلمين بنقص ولا تنقيص، وأبشرهم بأن تكسبهم بالحرفة التي يمتهنون من أجل الكسب في الشريعة المحمدية، ومن شريحة لمعلمين في التاريخ القديم والحديث في موريتانيا العلماء والصلحاء والدعاة، وغير ذلك من الفضلاء، وهم شريحة لا يضرهم كون شخص معين قال كلاما لا يليق بالجناب النبوي نعوذ بالله من حاله".
ثم ذكّر الناس بقصة يحكيها خاله محمد الامين ولد عابدين أنه كان في شبابه مع أمه التي نصحته بقولها "إياك أن تغتر بانتسابك للشرف، فإن كنت شريفا صحيح النسب فلا رخصة لنا في تغيير حكم من أحكام الله، ولا رخصة لنا في ترك فرض من فرائض الله، ولا رخصة لنا في فعل شيء مما حرمه الله عز وجل، وجميع كفار قريش وصناديدهم الذين كانوا يعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاربون الإسلام ويعبدون الأصنام لم تنزل سورة باسم أحد منهم سوى عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي لهب، لعنة الله عليه".
في المحصلة كان مهرجان النصرة الرضوية مهرجان نصرة بحق، ينصر بالحق، ويضرب على أيدي الباطل، لقد جمع الشيخ الرضا بين الحسنيين؛ حين قام بشرف الذب عن عرض رسول العدل صلى الله عليه وسلم، وحين عضد ذلك بموقف يؤجر عليه - بإذن الله – ألا وهو إنصاف "لمعلمين" أمام عشرات الكاميرات وأمام ألوف المنتصرين للمقدسات، في موقف لم يسبق إليه من مرجعية دينية في مثل مقامه.
ولم تكن هذه أولى خطوات الشيخ علي الرضا في إنصاف "لمعلمين" فقد آزرهم قبل أكثر من سنتين (ذكر ذلك في كلمته المرتجله بذاكرة قوية تحفظ المواقف المشرفة للناس)، حين قمنا في "حراك لمعلمين" بتنظيم ندوة "الإسلام والعدالة الاجتماعية" ردا على الإساءة، حيث أوفد مسؤول الثقافة في المنتدى رفقة قياديين من قياداته بخطاب شخصي منه وبمشاركة أدبية من الموفد الثلاثي تمثل في قصائد ثلاث تنصف لمعلمين، وبيان نشر باسمه في وسائل الإعلام. ولقد كان موقفا شرعيا لم يسبق إليه من شخصية دينية مرجعية مؤازرة لفئة لمعلمين الساعية للعدل والإنصاف؛ مؤازرةً ومناصرةً بلا استحياء وبلا مواربة.
لقد كان الشيخ علي الرضا والمنتدى من بعده متأسيا في فعله وفي قوله بالرسول الكريم الذي يحمل لواء الدفاع عنه، إذ لم يحدث أن تلبس صلى الله عليه وسلم بحمية جاهلية ولا غطى على جرم لأقرب مقريبه، وأكد أنه "لو سرقت فاطمة ابنته لقطع يدها" وأنذر عشيرته الأقربين قائلا: "أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا" فحقق بذلك المنتدى ورئيسه الرضا النصرة، وجسدوا بذلك حقيقة المحبة.