في حقبة الستينات برز للوجود في ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان ما يناهز خمسين كيانا ، جاء اغلبها من خلال حدود وترتيبات وتوازنات موروثة عن الاستعمار ، لكن الآمال والتطلعات كانت لا حدود لها في حصول استقلال منجز يحقق السيادة والراحة المادية لدول وسكان القارة الإفريقية. وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين كانت الخيبة كبيرة، بعد أن تحكمت اعتبارات الحرب الباردة في علاقة القوة الاستعمارية الأولى ( فرنسا) في القارة وتعاملت إزاءالحكومات الإفريقية بدافع الخوف من سقوطها في الفلك اليساري السوفيتي وفي دائرة النفوذ القومي العربي المتحالف مع موسكو.
فكما هاجمت الولايات المتحدة عبر وكالة مخابراتها المركزية (CIA) خلال سنوات الحرب الباردة كل الحكومات التي عرفت بميول أصحابها اليساري والمنتخبة ديمقراطيا في أمريكا اللاتينية وسعت لاستبدالها بحكومات تُصْفِي الود لها، سعت فرنسا في إفريقيا إلى دعم أو ( تَفَهُم) ما عرف اصطلاحا في أدبيات تلك المرحلة ب الآباء المؤسسين، وهم منظرو الحزب الواحد: سينغور في السينغال، جوليوس نايريري في تانزانيا، سيكو توري في غينيا، المختار ولد داده في موريتانيا، وحمايتهم من توجهات يسارية تحررية عارمة أحيانا انخرطت داخلها الطبقة الوسطى التي كانت رغم هشاشاتها النسبية في تلك الفترة قادرة على لعب دور إيجابي في بناء الدولة ومؤسساتها ونظامها على قواعد العمل السياسي المعاصر. فرغم أن الآباء المؤسسين سعوا لوضح بصمات ايجابية ناعمة على الفضاء الفكري والاستراتيجي لمرحلة ما بعد الاستقلال، لكنهم حاولوا دائما بأشكال مختلفة تأصيل نمط من الحكم في التقاليد الإفريقية قائم على التشاور كصيغة لممارسة السلطة، لكن وفق تراتبية تحصر صلاحية معالجة الشؤون العامة في النافذين التقليدين وحدهم ، وبذلك أبعدوا الفئات الشابة القادمة من أحشاء الأوساط التي من مصلحتها التغيير والساعية إليه، وأوقفوا مطامح هذه الفئات في استزراع بذور النظام السياسي الذي يلوح بريقه في أفق المرحلة، ويسمح بتداول السلطة عن طريق التناوب على الحكم، أو على الأقل إيجاد حد معين من المشاركة فيه وتوسيع دائرته خصوصا في مجال حرية الرأي والتنظيم الذي يجد فيه كل تيار فرصة للتعبير عن نفسه ولو في الأمد المتوسط والبعيد، ولعل هذا من بين أسباب أخرى هو ما أدى إلى فشل المشروع الوطني السياسي السلمي في القارة الحزينة وتجلى الفشل بوضوح في العدد الكبير من محاولات تغيير الأنظمة بالقوة الذي تجاوز منذ 1966 إلى الآن 150 محاولة وما ترتب عليها من قتل ودمار وإبادة جماعية ، وتعطيل خطط التنمية وزيادة العجز عن مواجهة الكوارث والأوبئة التي تفتك بالقارة، ووجود ما يزيد على عشرة رؤساء أفارقة يعيشون اليوم في المنافي بعد أن ظلت تودعهم المطارات إلى المطارات، حتى استقرت بهم نهاية مطاردة شعوبهم أوالمنقلبين عليهم منسيين بائسين ينتظرون حبال المحاكمات وينامون على كوابيس الانتقام، وأنظمة لم تتعظ ما زالت تتلاعب بالقوانين وتطوعها بوقاحة لصالح بقائها في السلطة، وتتفتق (عبقريتها) كل يوم عن توابل جديدة لطبخات لا ديمقراطية تكون جزءا من الوعي السياسي الشقي لنخب القارة الإفريقية الدائرة بخنوع ومذلة في فلك من بيده السلطة وعصاها المجسدة معنويا وفيزيائيا في ما يمسكه يحي جامي في يمينه، وجزرتها التي اختفت مع جيل الانقلابيين الأخير في القارة الذي جمع أسوأ حِرصين: شهوة السلطة وشهوة المال