ففي الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: بمحمد تفعل هذا !! فما ركبك أحد أكرم على الله منه، فارفض عرقا".
لقد كانت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم نعمة وأولاها أن تشكر، وشكر النعم بمقابلتها بطاعة مسدي النعم، ولا تكون الطاعة إلا بتوقيف.
فهل يكون الاحتفال بمناسبة المولد النبوي من باب شكر هذه النعمة العظيمة، فيؤذن فيه، أم هو تعبد بما لم يشرع الله تعالى ولم يأذن فيه؟
هذا ما عظم فيه الاختلاف، إلا أنه لم يسلم فريق من التعصب وعدم الإنصاف.
ولا بد قبل الحكم بنفي أو إثبات، وقبل جلب أقوال العلماء الأَثبات، من تقديم تصور معنى الاحتفال؛ إذ التصور سابق على الحكم.
فإذا كنا نعني بالعيد زمان حصول حادثة من نعم الله تعالى، ونعني بالاحتفال به مقابلتها بالشكر اللائق بها، فلا ريب أن مولده صلى الله عليه وسلم أعظم عيد للمسلمين؛ إذ ما حدث فيه هو أعظم نعمة من الله تعالى على عبيده، والشكر يكون على قدر النعمة.
وإن كنا نعني بالعيد المناسبات الخاصة التي أمر الشارع فيها بالاجتماع والخروج للصلاة، وطلب فيها التظاهر بالملابس الحسنة، وشرع فيها أنواعا مخصوصة من الطاعات، كالصلاة والزكاة والذبح، فيوم المولد لم يجعله الشارع مما يطلب فيه التظاهر، ولا مما تشرع فيه الصلاة والتقرب بالذبائح، والعبادة لا تدرك إلا بتوقيف.
ولا أظن أحدا يعتقد أن المولد النبوي الشريف عيد بالمعنى الثاني، كما لا يختلف في كونه عيدا بالمفهوم الأول.
فإن قيل: اليوم الذي حدثت فيه نعمة المولد واحد لا يتكرر، فما الدليل على اعتبار مماثله من كل سنة؟
فالجواب أن الدليل على رعي المناسبات عموما حديث الصحيحين عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوما، يعني: عاشوراء، فقالوا: هذا يوم عظيم، وهو يوم نجى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرا لله، فقال: نحن أولى بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه".
فاليوم الذي صامه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه ليس هو نفس اليوم الذي نجى الله فيه موسى، وإنما هو مماثله في السنة. وقد عظم موسى هذا اليوم بإحداث طاعة الصوم فيه شكرا لله تعالى وتعظيما له.
قال ابن عبد البر: فهذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصمه إلا تعظيما له.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم، عند هذا الحديث : "فيه جواز فعل العبادات للشكر على النعم فيما يخص الإنسان ويعم المسلمين، ويخص أهل الفضل والدين والذين ألزمنا حبهم وولايتهم من الأنبياء والصالحين، والشكر بالعمل والطاعة وبالقول والثناء".
ويدل لرعي مناسبة المولد النبوي بالخصوص حديث مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين، فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل علي".
ففي الحديث وجه من وجوه الإيماء إلى العلة، وهو التعليل عند سماع السؤال عن الحكم. كأنه قال: يصام لأني ولدت فيه، إذ لو لم يكن ذلك هو المراد لانتفت الإفادة من الجواب، لإخلاء السؤال عن الجواب، وذكر ما لم يسأل عنه، وهذا يصان عنه كلام العقلاء، فضلا عن كلام الشارع، فإن كلامه كله فوائد. والله أعلم.
قال الصنعاني في سبل السلام، عند هذا الحديث : "فيه دلالة على أنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه".
فقول عياض: "فيه جواز فعل العبادات للشكر على النعم، والشكر بالعمل والطاعة..، وقول الصنعاني: "بصومه والتقرب فيه"، يدل على أنه لا خصوصية للصوم عن غيره من أنواع الطاعات وأصناف القربات، وهو دليل لما جرت به عادة أهل هذه البلاد من العلماء والصالحين في مناسبة المولد النبوي من قراءة كتاب الشفاء للقاضي عياض، طيلة أيام هذا الشهر المبارك، ومن قراءة أمداحه المشتملة على ذكر سيرته وشمائله في لياليه، والإكثار من الصلاة عليه في عموم أوقاته.
فإن في ذلك تذكيرا للناس بنعمة ميلاده، وتنبيها لهم على عظيم صفاته وأحواله، وهو الذي جعله الله تعالى أسوة للمومنين.
ففي ذلك من الفوائد زيادة على نشر العلم، إلهاب الشعور، وإذكاء نار الشوق، ونفخ رماد الغفلة عن القلوب.
ولا نعلم لمن أدركنا من علماء هذه البلاد وأهل القدوة فيها ولا سمعنا عمن لم ندرك منهم، أنهم يفعلون احتفالا زائدا على ما ذكرنا.
مع أ نه لا حرج في فعل كل ما يدل على الابتهاج والسرور من الأفعال المباحة، كالتزين بالملابس، وأنواع اللهو المباح، أصل ذلك من السنة ما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى لعب الحبشة ووقف له، وأراه عائشة رضي الله عنها، وأنه ضرب عنده في العيد بالدف والغناء، فلم يمنع من ذلك. والحديث مخرج في الصحيحين.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وإما قال: "تشتهين تنظرين؟. فقلت: نعم. فأقامني وراءه خدي على خده، وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة"، حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم. قال: "فاذهبي".
قال عياض: وفيه أقوى دليل على إباحة مثل هذا الأمر لهم".
وفي فتح الباري لابن حجر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا عمر" يعني أن هذا شأنهم وطريقتهم، وهو من الأمور المباحة، فلا إنكار عليهم".
وليس هذا من مطلوبات العيد الشرعية، حتى يمنع في غيره، فقد نص على ذلك ابن بطال، قال: "حمل السلاح والحراب يوم العيد لا مدخل له عند العلماء في سنة العيد، ولا في هيئة الخروج إليه، ولا استحبه أحد من العلماء ولا ندب إليه".
ثم قال: "وفي الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق الحسن، وما ينبغي للمرء أن يمتثله مع أهله من إيثاره مسارّهم فيما لا حرج عليهم فيه".
ففي كل هذا دليل على أن ما يفعله بعض الناس من لبس الملابس الحسنة واللعب المباح ابتهاجا بهذه المناسبة الطيبة وسرورا وفرحا بها، لا حرج فيه إن شاء الله تعالى، وليس هذا من التعبد في شيء، وإنما الداعي إليه هو الجري على مقتضى عادات الإنسان من التجمل عند تجدد مناسبات الفرح والسرور، وأمور العادات لا تنصرف للعبادة إلا بقصد العبادة.
ثم إن العذر للصحابة والتابعين في ترك الاحتفال بالمولد على الوجه الذي حدث بعدهم، أنهم كانوا حديثي عهد بذلك العهد النبوي، فما زالت الصورة في أذهانهم ماثلة، والذكريات في قلوبهم حاضرة، فما نسوا العهد حتى يذكروا:
وغدا يذكرني عهودا بالحمى
ومتى نسيت العهد حتى أذكرا
فأيامهم أيام أعياد، وأفعالهم كلها احتفالات، وخواطرهم كلها ذكريات:
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى//
والذكريات صدى السنين الحاكي.
وقد روي من دلائل محبة الصحابة والتابعين للنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يكن لغيرهم.
قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، منهم من يفعل ذلك محبة له وشوقا، ومنهم من يفعله تهيبا له وتوقيرا".
هكذا كانت أيام الصحابة ولياليهم،كلها كانت مواليد واحتفالات، وأما ما حدث بعدهم من رعي هذه المناسبات الخاصة، فإنما ذلك أقضية حدثت لفتور حدث، ولعل ما حدث من الفتور وعجمة القلوب هو الذي دعا القاضي عياض إلى تأليف كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، حتى قيل: لولا الشفا ما عرف المصطفى.
فأين زمان يروج فيه مثل هذه المقالة من زمان الصحابة الذين لا يعرفون إلا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فلو عكست العبارة وقيل: لولا المصطفى ما عرف الشفا، لكان عين الصواب.
وليست هذه الاحتفالات عند تجدد المناسبات إلا جزئية من جزئيات ما حدث بعد تلك القرون الأولى من إحداث وسائل اقتضتها حاجات طارئة، مثل ما حصل في سائر فنون العلم.
فنشأة صناعات العلوم إنما كانت لحدوث أسباب اقتضتها، فدون الحديث لما ضعفت الأذهان، وخيف على المحفوظات النسيان، ووضعت أصول النحو والبيان لما انتشرت في بني الإسلام عجمة اللسان، وأول ذلك وأصله ما أحدثه الصحابة من جمع القرآن. ثم دونت أحكام الوقائع وقواعد الاستنباط، فنشأ علم الفقه وعلم أصوله. وهكذا نشأت الصناعات شيئا فشيئا تلبية لحاجات تجددت، حتى تمت واكتملت.
فإن لم نعتبر شيئا من ذلك بدعة مذمومة فما نحن فيه كذلك. إذ كل ذلك إنما جاء إما دواء لعلة حدثت، أو تحصينا من عجمة طرأت، أو ضبطا لقواعد علم تأسست.
فإن قيل: إذا كان شهر المولد مناسبة فرح وسرور، لما حدث فيه من عظيم نعمة ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أيضا زمان المصيبة بوفاته صلى الله عليه وسلم، فاجتمع المانع والمقتضي.
فالجواب أنه لولا عظم نعمة الولادة ما فجعت مصيبة الوفاة لكن لسان الحال ينشد :
لئن أذنبت قدما ليالي افتراقنا //فقد شفعت في ذنبها ليلة الوصل.
وأيضا فإن مصيبة الوفاة وإن عظم وقعها على الأمة، فقد يهون ذلك أن الانتقال إلى الملإ الأعلى كان باختيار النبي صلى الله عليه وسلم وغاية مطلبه.
ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: "إن عبدا خيره الله تعالى بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار العبد ما عنده"، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فعجبنا له. وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر عبد خيره الله تعالى، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه هو المخيرَ، وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به".
وقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: "إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير"، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى". فقلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى".
قال ابن بطال: "إنما قال ذلك بعد أن علم أنه ميت في يومه برؤية الملائكة المبشرة له عن ربه بالسرور الكامل، ألا تسمعه يقول لابنته فاطمة حين ندبته: "لا كرب على أبيك بعد اليوم".
ثم إن الوفاة وإن كانت شديدة على الأمة، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنها خير لها ورحمة بها.
قال عياض في الشفا: قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم، وموتي خير لكم"، وقال: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا".
فهنيئا لأمة كان النبي صلى الله عليه وسلم فرطا لها وسلفا.
والحمد لله رب العالمين.