اكتظاظ الساحة الوطنية حتى درجة ما فوق الإشباع بالمشاكل وهموم الناس يجعل كثيرا من الأحداث والظواهر تمر دون أن تحظى بالاهتمام الذي تستحق في الظروف الطبيعية، ليس لأنها لا تمس حياة الفرد العادي المباشرة: صحته، نومه، نقله، سلته الغذائية، أمنه في الشارع والبيت، دراسة أبنائه ومستقبلهم، فرصه في عمل يعطيه الحد الأدنى من العيش الكريم والسكن اللائق... بل لأنها بحكم العادة أصبحت تمر أمامه على شكل طابور من الصور والحقائق الصادمة تتخطفه بعدد ساعات اليوم، من ذلك أننا ونحن في قمة الشتاء عادت إلينا هموم الصيف مجددا حين تكررت نهاية الأسبوع الأول من دجمبر 2016، وخلال أيام متتالية انقطاعات التيار الكهربائي عن أحياء واسعة بالعاصمة نواكشوط، وقبله بأسبوع كانت الظاهرة تخيم بقوة مثل قطع الليل المظلمة في عاصمتنا الاقتصادية، وتنشر الكآبة والسأم في أحياء واسعة منها.
فالتيار الكهربائي كما هو معلوم أصبح في حياة المدينة بمنزلة الصورة الأسطورية التي نشأت في أذهان البشرية عن الكهرباء عموما عندما تكمن أليساندور فولتا من صناعة أول بطارية كهربائية عام 1800، فقد اعتُبرت حينها الكهرباء (قوة غامضة وشبه سحرية، قادرة على قتل الأحياء وإحياء الموتى،) ذلك لأن حياة الناس في المدن اليوم أصبحت تعتمد بشكل شبه مطلق على الأجهزة والأدوات التي يتوقف عملها على وجود تيار كهربائي داخل المكان: خصوصا المستشفيات، ومحلات الخدمة العمومية الأساسية : أفران الخبز ومبردات اللحوم والفواكه والخضروات إلى جانب الأجهزة المنزلية التي إن تعطلت داخله لا يبقى لوجود البيت من معنى: الثلاجة الغسالة التبريد المروحة الإنارة... والأهم من ذلك الماء لأن أحياء كثيرة من العاصمة ما زالت تمتحه بمضخات ( سربرسير) في ظل غياب ضخٍ يوصل مياه أفطوط الساحلي بشكل طبيعي إلى الصنبور، مما جعل منازل مدينة نواكشوط مضطرة في الغالب إلى وضع مياهها المعدة للشرب والاستخدام المنزلي في خزانات أرضية، تشكل بدورها ظاهرة عالية الخطورة على الصحة العامة والنظافة والذوق السليم لأنها ـ في غياب صرف صحي ـ يلزمها أن تتجاور في البيت مع خزانات الصرف الصحي ( افونصات) ، وغالبا ما تكون الحدود بين الاثنتين رفيعة جدا!!!.
لو كانت الحياة الطبيعية داخل البيوت تتوقف بمجرد قطع التيار الكهربائي وتعود بمجرد عودته، لهان الأمر نسبيا، لكن المشكلة أن هذا الانقطاع المفاجئ والمتكرر يسبب على الدوام أضراراً بالغة للأجهزة، غالية الثمن فتتضاعف الخسائر العبثية التي يعانيها المواطن المسكين يوميا.
إن أكبر كوارث الفساد وسوء التسيير أن يكون لبلد مخزون من الطاقة يمكِّنُه حسب أعلى مسئوليه من تصدير الطاقة بكميات وافرة إلى الجيران، في حين أن كبريات مدنه تتعطل فيها الحياة بشكل متكرر منذ سنوات وتتعالى فيها الصيحات والأنات التي يحجبها أزيز المولدات الكهربائية المنزلية المهترئة الضارة بالبيئة وحياة السكان وجيوبهم، ورغم ذلك تلجئ على الدوام الشركة الوطنية للكهرباء مواطني بلدها لاقتناء هذه الأجهزة لتزيد من بؤسهم وإفقارهم، ومن لم يمكنه جيبه من اقتنائها وهو الأغلب، عليه البقاء في الظلام الدامس والحيرة القاضية.