تحقيق: أحمد سالم ولد باب
قبل أشهر أرسل لي أحد الأصدقاء رابطا لفيديو على موقع "اليوتيوب"؛ يحوي سردياتٍ - بحسانية لا تشوبها شائبةٌ - تحكي قصة ميلاد المسيح عليه السلام، وما يزعمه المسيحيون من صلبه تكفيرا عن ما يسمونه "الخطيئة الأصلية للبشر"..
أراد الصديق مني نشرَ الفيديو في موقع "مراسلون"؛ على سبيل التحذير من خطر التنصير في موريتانيا، لكنني رأيتُ أن في نشره ترويجا له، وتنبيها للغافلين عنه، فاطَّرَحْتُه..
غير أن نبرةَ المتحدث في الفيديو عَلِقَتْ في ذهني أشهرا بعد ذلك.. كنت أتساءل: من يكون هذا الرجل؟ هل يقيم في موريتانيا أو خارجها؟ وهل يؤمن بما يتحدثُ عنه، أو هو مجرد أجيرٍ قام بعملٍ؛ تلقى مقابلَه ثم مضى؟
أستطيع الآن أن أؤكد أن الصورة النمطية التي كونتُها في ذهني عن هذا المتحدث؛ هي أبعد شيء عن الحقيقة..
لم يكن هذا الرجل - أو من يفترض أن يكون - يرتدي ربطةَ عنق ولا بذلة أنيقة، ولم يكن أزرق العينين، ولا أشقر الشعر..
كان صورة نموذجية لـ"الأدخن"، كما رسمتْها "أدبيات" الطلاب الموريتانيين في الخارج: لونٌ ضارب إلى السمرة.. ذَقَنٌ طال عهده بالحلاق.. ودراعة مهلهلة..
هي - باختصار - ملامحُ مألوفةٌ بشكل مدهش..
من تحدثوا في الفيديو كانوا من بني جلدتنا.. يتكلمون بألسنتنا.. وينتمون لقبائلنا.. نصادفهم في الطريق يوميا دون أن يَرِيبَنَا من أمرهم شيء..
في مساء من أماسي نوفمبر المنصرم؛ قادني أحدهم إلى ما زعم أنها أوكارُ المُنَصّرين.. وقفنا بعيدا نراقب سيارةَ أحدهم مركونة أمام بيته، وصادف أن خرج في تلك اللحظة.. أسرعتُ لأتبينَ ملامحَه عن قرب.. حددتُ النظرَ إليه وأنا مارّ، نظر إليّ أيضا، ثم خفض بصره.. ترى هل أَحَسَّ أنني كشفت سرَّه الرهيب؟
لن نستطيع أن نقول الكثير عن مصدرنا؛ إذ من شأن ذلك أن يُلحق به الضررَ في الوقت الحالي على الأقل..
اختار مصدرُنا أن نلتقي في مكان يقع في مركز أوكارِ التنصير التي وقفنا عليها..
سألته: هل يمارس هؤلاء التنصيرَ عن إيمان واقتناع، أم لأغراض نفعية بحتة؟
يجيب: كلُّ ذلك جائز.. لكنني أعتقد أن هذه المجموعة بالذات بلغت مرحلةَ الاقتناع:
"أ" موظف في وزارة الداخلية (يصفه مصدرنا برأس الأفعى)؛
"ب" معلم (حصلنا على دليله المالي في الوظيفة العمومية)؛
"ج" يعمل بمركز مشهور لتعليم اللغة الإنكليزية؛
"د" (الزنجي الوحيد في هذه القائمة) مدير مدرسة حرة في إحدى مقاطعات انوكشوط الجنوبية، ولهذه المدرسة دور كبير في عملية التنصير (يصفها مصدرنا بالكنيسة المصغرة)؛
ولم يفصح المصدر عن نشاط اثنين من هذه الجماعة، هما: "هـ" و"و"، لكنه أكد أنهما يسافران كثيرا إلى الخارج لأغراض متعلقة بالتنصير..
وتحدث المصدر عن دور محوري لمسيحي مصري، يدعى "ع"، في تأطير الجماعة دينيا، وتلقينها تعاليم المسيحية، وقد كان "ع" أحد العاملين بمركز اللغة الإنكليزية، قبل أن يغادر موريتانيا منذ فترة..
قادني المصدر إلى منزل يقع قريبا من الإدارة العامة لـ"ماتال" كان بمثابة الكنيسة التي يأوي إليها هؤلاء دائما، وفيه يمارسون طقوسهم وترانيمهم..
لم يعد المنزل الآن يتبع للمجموعة، فسياسةُ الحذر الدائم؛ تجبرها على تغيير الأماكن باستمرار..
يتولى "ج" و"هـ" التبشير بحماس، حيث يسجلون نسخا من الإنجيل، وترانيم دينية بالحسانية وباقي اللغات الوطنية: البولارية والسوننكية والولفية..
وقد عرض المصدر أمامي جهازا في حجم قبضة اليد، يتم شحنه بالطاقة الشمسية عبر مرآة صغيرة، وهو مزود ببطاقةِ ذاكرةٍ، تحوي نسخة كاملة من الإنجيل بالحسانية ..
وتر آخر تعزف عليه شبكة التنصير هذه.. هو القروض الميسّرة، فبحسب المصدر فإن هذه الشبكة تجلب أموالا كثيرة من الخارج، تحت غطاء العمل الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني..
وقد تأكد مصدرنا من وجود نشاط لها في بوحديده وعرفات، وقرى لبراكنه وكوركول وشنقيط، تدعم من خلاله تعاونيات نسوية وغيرها..
يسافر هؤلاء ويلتقون كثيرا في مؤتمرات تُعْقد في تونس ومالطا وجنوب إفريقيا والسنغال..
وقد زودنا المصدر بصور؛ يظهر في بعضها أميركي يدعى "د" إلى جانب الموريتاني "ب"، في اجتماع ذي طابع ديني، انعقد في انواكشوط، ويبدو في بعض الصور الأخرى باقي المجموعة؛ وهم في أنشطة تبشيرية في إحدى مدن الضفة، كما قال.
أخيرا، أخرج صاحبنا دفترا صغيرا مسطّرا، خاليا من الكتابة كما بدا لي:
-هل تستطيع أن تؤكد لي أن هذا الدفترَ خالٍ من الكتابة؟ سألني..
-بكل تأكيد.. هذا واضح.. أجبتُه..
-إذن فأنت مخطئ! قالها، وأخرج مصباحا من نوع خاص، سَلّط ضوءَه على الأسطر، فتحول الدفتر - بقدرة قادر - إلى نسخة عربية من "إنجيل مرقس"..
قرأتُ وأنا أرتجف: إنجيل مرقس.. الإصحاح الأول.. بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله...
عندما أطلق الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا صرخته الشهيرة:
حماةَ الدين إن الدين صارا ** أسيرا للصوص وللنصارى
لم يكن الفرنسيون حينها قد دخلوا البلاد محتلين، بل إنما استشرفَ الشيخُ ببصيرته الثاقبة قربَ دخولهم، فاستبق ذلك باستنفار المسلمين واستنهاضهم..
أما الآن فقد درجوا بين بيوتنا، وفاتنا بعضُ أبنائنا إليهم.. ولا صريخَ ولا نذير..
ملاحظة: تعتذر "مراسلون" عن نشر المزيد من الصور والوثائق التي بحوزتها؛ بناء على رأي هيئة التحرير..