في العصور الوسطى كان هناك أمير إنكليزي يدعى "ليوفريك" كان حاكما لولاية كوفنتري, طلبت منه زوجته " الليدي كوديفا " تخفيف الضرائب عن الشعب ولأنه لم يكن يرغب في ذلك الطلب المتكرر من زوجته وإلحاحها المستمر فوضع لها شرطا تعجيزيا كان على قناعة أنها لن تقبله, وهو أن تمشي في شوارع المدينة عارية تماما.
"الليدي كوديفا" ركبت حصانا ومشت في الشارع عارية.
لكن المفاجأة هي أن الشوارع كانت خالية من الناس والسبب أن الشعب لما علم بالموضوع وتفاني السيدة في خدمته, قرر التزام المنازل وإغلاق الشبابيك والستائر حفاظا على سترة السيدة التي ضحت من أجله.
رغم مضي قرون على هذه الحادثة مازال العالم يتذكرها وخلدها بعض الفنانين في لوحات خالدة باعتبارها مثالا للتضحية من أجل الشعوب التي لايتحلى بها غير القادة العظام الذين تهون الدنيا عليهم في سبيل شعوبهم.
ولأن الشعوب تحترم من يضحي لأجلها أتوقع من باب الوفاء أن يكون الشعب الموريتاني وفيا مع قائده الذي أنقذه من سنوات عجاف ذاق فيها مرارة الظلم مع أعتى الدكتاتوريات التي تعاقبت على حكمه ووضع أسسا لبناء دولة ديمقراطية يكون الشعب فيها هو الحاكم.
وهنا أريد أن أذكر ببعض الأمور التي تحققت في ظرف قياسي والظروف التي أنجزت فيها. مقارنة بالأنظمة السابقة على تفاوت فترات حكمها بطبيعة الحال.
في سنوات الاستقلال الأولى كانت موريتا نيا تغالب الظروف الاجتماعية والطبيعية والواقع الاستعماري الذي مازال قائما حينها وأطماع بعض دول الجوار التي لا تريد لها أن تكون وترى فيها "جزء منها وامتدادا لنفوذها الطبيعي" ليس حبا لها ولا لشعبها وإنما طمعا في الموارد التي تتوفر عليها. والتي قال أحد قادتها " نحن لا نحتاج شعبا بل حاجتنا هي الأرض".
موريتانيا استطاعت رغم كل الظروف أن " تستقل" وتكون دولة بأرضها وعلمها ونشيدها ومواردها ونظام حكم بغض النظر عن طبيعته. لكن فرحة – ولد لحسن – بالاستقلال لم تسلم من بعض المنغصات.
فالدولة حديثة الولادة والتي مازالت تبحث عن هويتها الضائعة في رمال الصحراء يجازف قادتها الذين لم يمتلكوا بعد خبرة إدارية أو عسكرية, يجازفون في حرب لم تكن لهم فيها آلية للنصر فخرجوا منها مهزومين فضاعت الأرض وضاع معها الحلم وبدأت الانقلابات العسكرية لتفتح أبواب الفشل السياسي والتنموي على مصارعها وتنسف خيمة الاستقلال بحلمها الجميل ولم تترك لنا سوى علم أخضر يرفرف في صحراء قاحلة يتوسطه هلال ونجمة , لم يكتمل بدر الهلال ولم يهدينا النجم إلى طريق مستقيم.
ففي العام 1978 أطيح بحكومة " الاستقلال" بحجة فشلها السياسي والعسكري في حرب لا ناقة لها فيها ولا هم يحزنون. وإنقاذ ما تبقى من البلاد غير أن الانقلابيين كانوا أكثر سخاء من غيرهم فسلموا الأرض مروية بدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعا عنها. ليتفرغوا للصراعات الداخلية على السلطة فبدأ كل منهم يزيح الآخر ويسقيه من نفس الكأس التي سقى منها هو سلفه.
كل الأنظمة التي تعاقبت على البلد المطعون في خاصرته اتفقت على شيء وحيد هو أن الشعب مجرد قطعان لا تستحق إلا أن تبقى تابعة لمن يقودها بغض النظر عن كفاءته وإخلاصه فتلك مسألة ثانوية فكل ما يرجى منه أن يصفق خوفا وطمعا، مجرد طمع .
قرابة خمسين عاما ونحن نعيش على فتاة الأنظمة المتعاقبة ممنوع علينا أن نحلم أو نفكر أو نعبر عن معاناتنا فهل لمثلنا الحق في ذلك؟!
غير أن المؤسسة العسكرية لم تكن كلها بهذا السوء فقد ضمت في صفوفها رجالا غيورين على الشعب وعلى بلدهم ويحسون بضرورة التغيير ويؤمنون بحتميته وأدركوا أنهم إن لم يتدخلوا لإنقاذ البلاد فستصل للهاوية التى بدأ السير نحوها منذ الاستقلال.
كان الانقلاب عام ألفين وخمسة على نظام ولد الطائع بمثابة الضوء في آخر النفق غير أن الطريق حينها لم تكن سالكة بما فيه الكفاية نحو الديمقراطية, وإن كان الأمل بدأ يستعيد عافيته واستيقظ الشعور الوطني وبدأنا نشعر أن – للبيت ربا يحميه- وكان العقيد حينها يتصدر المشهد مع بعض رفاقه يسوقون من قبلوا التغيير كرها وطمعا في الحكم الذي تورع عنه قائد التغيير الفعلي محمد ولد عبد العزيز ورفاقه.
بعد سنتين تقريبا اتضحت الحقيقة وتبين المصلح من المفسد فقد حاول رئيس المجلس العسكري حينها الإخلال باتفاقه مع قادة التغيير بنية البقاء في السلطة مستخدما حيلة البطاقات البيضاء.
وفى قادة التغيير بوعدهم وانتزعوا منه السلطة وسلموها لرئيس منتخب. وعادوا لثكناتهم فقد أنجزوا مهمة التغيير, غير أن أزلام الأنظمة السابقة ومنظروا الفساد تسللوا من الخلف واختطفوا الرئيس المنتخب مستغلين حسن نيته, فألبوه على قادة الجيش وحاولوا عرقلة المؤسسات الدستورية واستنزاف ما تبقى من الوطن فأعادوا المسار إلى سابق عهده.
فكان الثالث من أغسطس عام 2008 البداية الحقيقية لتصحيح المسار غير أن الطريق إلى الحق كعادتها ليست مفروشة بالورود فقد حاولت بعض أحزاب ما يطلق عليه مجازا المعارضة عرقلة حركة التصحيح مكونة جسما أطلقوا عليه " الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية "
هذا الجسم المترهل الذي ضم ممتهني السياسة ممن أعمتهم مصالحهم الشخصية عن مصلحة موريتانيا العظيمة, وطالبوا بالتدخل الأجنبي وتوسلوا السفارات الغربية لكن مطالبهم قوبلت بالرفض فأذعنوا لحوار دكار الذي كان من نتائجه انتخابات رئاسية أختار الشعب خلالها الرئيس محمد ولد عبد العزيز وفاء لتضحياته , وثقة بنيته الصادقة. لم يخب ظن الشعب في رئيسه, فقد بدأت موريتانيا منذ المأمورية الأولى تستعيد مكانتها في محيطها الإفريقي والعربي وتجاوزتهما لتفرض نفسها في العالم كدولة فاعلة ومؤثرة في المشهد العالمي.
قادت إفريقيا والعالم العربي وحاربت الإرهاب فانتصرت وأصبح جيرانها يحسبون لها ألف حساب.
قادت الصلح بين دول الجوار فنجحت في بعض الوساطات وحسبها أنها سعت في البعض الآخر.
لم تختصر إنجازات الرجل على المستوى الدبلوماسي وحسب بل سعى لرأب الصدع بين المجتمع الذي كادت السياسة تعصف بتماسكه فعمل على إغلاق ملف المبعدين وأنهى حقبة مؤلمة من التاريخ الموريتاني, بشهادة المفوضية السامية للاجئين. إضافة إلى سن ترسانة قانونية تجرم العبودية والاسترقاق.
وفي المجال الاقتصادي والتنموي قاد الرجل نهضة داخلية شملت البنية التحتية لكل القطاعات وتضاعفت الميزانية. وأنشئت في عهده منطقة للتبادل التجاري الحر. وعمل على جلب الاستثمار الأجنبي مقدما كل الضمانات والتحفيزات.
وإيمانا منه بضرورة إنشاء مؤسسات قوية وتجاوز الاحتقان السياسي ظل يدعو لحوار وطني شامل تطرح فيه كل القضايا للنقاش وهو ما ظلت بعض قوى المعارضة ترفضه.
وبدعم من أغلبية الشعب ممثلة في بعض الأحزاب والكتل انطلق الحوار الوطني الشامل وكانت مخرجاته بحجم وطن. وبحجم إرادة الشعب الذي التف حول قائده.
ووفاء لهذا القائد الذي ضحى ويضحي من أجل شعبه والذي سيغادر السلطة وفاء لتعهده ووفاء للدولة الموريتانية. أتوقع أن يكافئه الشعب الموريتاني وليست هناك مكافأة أكبر من أن يحافظ على الوطن الذي ضحى من أجله خصوصا أن موريتانيا تمر حاليا بمنعطف تاريخي يستدعي منا أن نكون على قدر التحدي والتضحية.
فهنيئا لنا بموريتانيا وهنيئا لنا بقائدنا.
عيسى ولد الطالب عمار