قد لا أكون هو أفضل من يعطي الدروس في مجال صياغة الأخبار، وخاصة أخبار الحوادث والجرائم.. لأن لها متخصصين فيها، ومَن هم أكثر دراية ودُربة مني في التعامل معها.. ولكن على رغم هذا سأشير هنا، استطراداً، إلى أن لصياغة القصص الخبرية عموماً أسلوباً صحفياً مهنياً يستحسن الاستئناس به، وهو أمر تزداد ضرورته حين يتعلق الأمر بقصة مليئة بالمنغصات الذوقية، والمحاذير الأخلاقية، لزوم تفادي الوقوع تحت طائلة الاستسهال والابتذال، ولتفادي عبور الخط الوهمي الفاصل بين ما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي أن يقال في مجال الصحافة الخبرية.
وأعتقد أن طريقة تعامل كثير من مواقعنا الإخبارية الموريتانية قبل فترة غير بعيدة مع جريمة وقعت في نواذيبو لم يكن موفقاً ولا مهنياً، ولذلك سأتخذها هنا مثلاً اعتباطياً، إلى حدما. ويمكن أن تتهم بعض صياغات المواقع الخبرية في هذا المثال بالإساءة إلى الذوق العام وعدم الحساسية تجاه ما تقتضيه آداب وأخلاقيات الحديث في الفضاء العمومي، بشكل عام.
والقصة في حد ذاتها تبدو خبرية ومثيرة إعلامياً بامتياز: جريمة قتل، ذات أبعاد فضائحية، وربما جنسية! وقد قال «تيد تيرنر» صاحب قناة «سي إن إن» إن الإثارة في مجال الإعلام لا تتحقق في زمننا هذا إلا من خلال السينات الثلاث: الفضائح، والجنس، والرياضة Scandals, Sex, Sport! ولذا فالقصة لمن يريد الاستسهال، والابتذال ومن ليست عنده مشكلة مع إثارة الإسفاف، تبدو بسيطة للغاية: شقة مفروشة بحي بغداد في مدينة نواذيبو وجدت فيها فتاة عشرينية مقتولة تتخبط في بركة من الدماء، وعليها آثار طعنات بسكين، وشاب غارق هو أيضاً في مستنقع من الدم وقد تعرض عضوه التناسلي أو ذكَره -هكذا كتبوا دون كناية- للقطع بآلة حادة! وما زال محققو الشرطة والنيابة العامة يتقصّون ويتحرّون حتى الآن في خلفيات القضية، والمرحومة على الأرجح ترقد الآن في قبرها نسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته ويلهم ذويها الصبر والسلوان، والشاب ما زال الأطباء يجْهدون في المستشفى لإنقاذه، نسأل الله له الشفاء العاجل!
وقد جاءت القصص الخبرية لهذه التفاصيل في مواقعنا بصياغات كثيرة غير ملائمة من قبيل: «فتاة تقطع ذكَر شاب في نواذيبو»! و«جريمة نواذيبو.. بدافع الغيرة فتاة تجبُّ صديقها».. وهنالك صياغات أخرى تحدثت عن وجود بيت -يفهم أنه شقة مفروشة: سيقولون هم «بيت دعارة»- كان الشاب يلتقي فيه بالفتيات على تمام العاشرة من كل يوم، وفي ذلك اليوم بالذات حضرت الفتاة، مع ذكر اسمها كاملاً، واسم الشاب، وفجأة اكتشف صاحب الشقة واقعة المجزرة وفق أطوار خبرية مفككة، وروايات مهلهلة، لا يمِيز القارئ فيها الحق من الباطل، ولا المنسوب لشهود العيان مما أضيف من «بهارات» من طرف المحرر لزوم الإثارة والتشويق والتسويق الخبري!
وكما يقال فالعبارة تحسن وتخشن! وقد كان في مقدور الزملاء المحررين أن يرتقوا بمفردات اللغة إلى مستوى لا يخدش الحياء ويسيء للذوق العام، مثلاً بدل الحديث عن «قطع ذكَر الشاب» يمكن كتابة: «تعرض لجروح في موضع العفة من جسده»، أو «موضع حساس»، أو «طُعن في ملابسه الداخلية»، أو «تعرض لإصابة بجسم حاد في موضع حساس». وبدل قذف فتاة أفضت إلى خالقها، والله أعلم بظروف موتها، والقضاء هو وحده من يتعين عليه البت في ذلك، كان يفترض عدم الإشارة إلى اسمها إلا بالحروف الأولى: (م. ب . س) مثلاً، وكذلك الشاب (أ. ز. د)، لأن في ذكر اسمها الكامل تشهيراً بها وبأسرتها وعشيرتها البريئة من القصة كلها.. وعوضاً عن الإطناب في وصف الأفعال الجنسية الفاضحة الفادحة التي يفترض البعض وقوعها في مثل هذه الجرائم عموماً -ولا أقصد هذه الجريمة بالذات- من قبيل «مارس معها الجنس» يمكن استخدام صيغ ألطف و«أشرف» وأكثر حساسية على مستوى اللغة مثل «هتك عرضها» أو «خدش حياءها»، وإن كانت المتهمة أو المظنونة من النساء ذوات السيرة غير الحسنة يمكن وصفها بـ«صاحبة سوابق» أو «ذات سجل عدلي» أو «لا ترد يد لامس»! أو حتى بوصف ما وقع في الجريمة كلها بأنه قد «هتك عرضها برضاها»! وبدلاً من عبارة «لقائها مع عشيقها» يمكن وصف ذلك بأنه «خلوة غير شرعية»، أو «كانا يتواجدان في مكان شبهة»! وكذلك لا حاجة إلى التفصيل في إيراد بعض الأوصاف التشريحية لمواقع الإصابة في الجريمة الموصوفة «ضربها بسكين على الثدي» إذ يكفي عوضاً عن ذلك مثلاً: «عليها أثر إصابة في الصدر».. لأن هنالك فرقاً بين اللغة الخبرية، ولغة التشريح الطبي، فهذه الإصابة مثلاً لو وصفها طبيب شرعي يمكن أن يقول: «على صدر الجثة قطْع نافذ طولي بعرض ثلاثة سنتمترات وعمق تسعة سنتمترات، ناتج عن اصطدام بجسم صلب، يفترض أن يكون معدنياً، وقد نتج عنه قطع شريان مغذٍّ للقلب، أدى إلى نزيف، مفضٍ إلى الوفاة»! وهكذا.. ولو وصف رجل قانون هذه الواقعة يمكن أن يقول مثلاً: «لقد قام المتهم بكل غلظة بالتعدي بالعنف على جسد الغير، باستخدام آلة حادة، مما لا ينتفي معه تبييت نية القتل وإزهاق روح المجني عليها، مع سبق الإصرار والترصد»! وعلى العموم فلكل أهل فن لغة خاصة بهم، وللصحافة أيضاً لغتها الخبرية الخاصة بها! وليس مطلوباً من صياغة الأخبار، على كل حال، أن ينتحل لغة الطبيب الشرعي أو رجل القانون أو المحقق! وحتى لو حاول ذلك فلن ينجح! فقليلاً من المهنية، ومن الذوق، وحسن الملفوظ، يا محررينا الأعزاء.. يرحمكم الله.
صفحة حسن ولد احريمو