لا طاقة لي بمثيرات التذكار، ولا قوة لي على مغيرات الشجن، وطارقات الجوى... أحرى لو كنت في حيز النوى، وسطوة البعد!! فعذيري من ذلك إسعافات أولية من بكاء وندب ومساءلة للمكان....
حاولت كثيرا أن أكون جلدا أمام عواصف العواطف وما أفلحت، ورمت في أحايين كثيرة أن أبدي من الصبر غير الذي أكِنُ، فوشت بي الإنفعالات سريعا...
أنا نقيضٌ لما توهم محاور الحمداني! فلا الدمع عصي، ولا الصبر شيمتي، وللهوى علي أوامر ونواهي، وتنهال الدموع مسبلات، ويد الهوى مبسوطة أضواني الليل أم أظلمني....
منذ زمن رفعت الراية البيضاء، وخلعت لباس الخوف من الخوف، وأعلنت استسلامي، وكيف لي على أمر قضى الله أن يكون؟
حدِّثني عن صبٍ أضناه الشوق، أو مشتاق منعه النوى، قل لي عن سجين رأي أو مظلوم أو مريض أو فقير أو قتيل... ستجدني إن شاء الله من المتأثرين.
قصص وافرة من أسباب الهجر والنوى، وتبدل الدار بغيرها، والمرابع بالمرابع... ولكن من أقواها تأثيرا علي قصص من قبيل: ما جرى للبرامكة، والمعتمد ابن عباد، وابن زريق البغدادي، والقاضي عبد الوهاب، ويحي ابن طالب الحنفي الذي حولته طوارق الحدثان من حال إلى سواه، ومن هدأة زمانه إلى اضطرابه! وما شيء أبكى من قوله:
ألا هل إلى شم الــخزامى ونـظرة --- إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فأشرب من ماء الــــحجيلاء شربة --- يداوى بها قبل الممات عـليل
أحدث عنك النفس أن لست راجعا --- إليك فحزني في الفؤاد دخيل
ولا أوجع من قوله:
بعدنا وعـهد الله من أهل قرقرى --- وفيها الأولى نهوى وزدنا على البعد
بعدنا وبيت الله عن أرض قرقرى --- وعن قاع موحوش وزدنا على البعد
ولا أبل للجفن من محب للأض مشتاق للأحبة ممنوع من الأوبة، ولك ذلك في قول ابن طالب:
فـــيارب سل الـــهم عــــني فإنني --- مع الهم محزون الفؤاد غريب
ولست أرى عيشا يطيب مع النوى--- ولكنه بالعِرض كان يطيب
كان سيديا ولد أحمدو ولد قطرب جوادا ممدحا أديبا لم يلاق استعمار البلاد هوى في نفسه، فضاق ذرعا بالفرنسيين، ومال إلى مجاهدتهم، فانزاح عن دياره لا قلى لها، ولكنه النفور من الفرنسيين، يقول رحمه الله:
امْـــــنَعْنِ يالــرَّبْ امنٍ النارْ --- عاگَبْ ذَا منْ روغْ الكَفارْ
مَـــرَّگْــنِ كُـــــــلُنَلْ ادْيَــــارْ --- ما نَـــــتْخَمّمْ عَنْهَا نَرْحَلْ
گَــسْتْ أطَــارْ أوجَانِ فَطَارْ --- وتْــــــرَكْتْ أطَـــارْ الكُلُنَلْ
وگَسْتْ التَلْ أوحَاگَرْ دخْلِيهْ --- ما نَبْغِ كنتْ انْگيس التَلْ
يــــــغَيْرْ ابْـلَدْ كاملْ ما فِيهْ --- كُــــــلُنَلْ الـــاَّ مَتْــــــعَدَّلْ
في آخر مطافه اعتقله الفرنسيون، وأودع السجن في تيمبكتو، وقد نأى عن الدار والأهلين! وآخر ما أثر عنه رسالة ضمنها طلْعَةً يطلب العون فيها من أمير الحوض اعلِ محمود ولد محمد محمود ولد لمحيميد المتوفى 1941 يقول سيديا:
هاذِ "لِبْرَ" فـــــيكْ أمانَه --- وانّـــكْ لــٰـحَّگْهَ عــــــــجْلانَه
وأرْجَعْلِي بما أمْـــــكانَ --- منْ شِي فيهْ المقصودْ إعُودْ
گُـــولْ إلْــــخْيامْ إنِّ ذانَ --- فالــــحبسْ أُلا عندِ موجودْ
غيرْ امْـــحقَّقْ عنْ مُــلانَ --- مــــوجودْ أُعنْ لعْمرْ محدودْ
قــــــدَّرْنَ لَ مـا ريتْ آلَ --- تــــــبلغْ فيهَ فــٰــــمْ المقصودْ
گِيسْ إعْلِ محمودْ ألاَّ لَ --- تـــــتْعَدَّ گَــــاعْ إعْلِ محمودْ
إن للنوى والنأي عن الأوطان قصص مع الرجال، وللرجال صور - لا تزايل الغرابة!! - من مجالدة تلك الأحوال، فحين تطوح أسباب البَيْن بالإنسان ويستيقن أن لا رجوع، يأتيه فرج من الله قريب، فيعود إلى حيث ظن أن لا معاد!!
في الصورة رجال مرت بهم - لا شك - أوقات أيقنوا فيها أن حبل العوْد قد انجذم، وانبتت العلائق مع الوطن ورؤيته أخرى، ولكن في طيات غيبه تعالى ساعة فرج! ستجمع الثلاثة تحت عريش أهل صلاحي في بوحديدة في انواكشوط!!
كان محفوظ ولد الوالد طريد العالم في افغانستان وإيران، وفي منزلة من التوحد أوحش بكثير من حال المتنبي:
مغاني الشعب طيبا فـي المغاني --- بـــمنزلة الربيع من الزمان
ولــــكن الــــفتى الـــــعربي فيها --- غريب الوجه واليد واللسان
مـــــلاعب جـــنة لو سار فـــــيها --- ســـليمان لـــسار بترجمان
وبعد خمسة عشر عاما من السجن الإكوانتنامي يعود ولد صلاحي على حين غرة إلى وطنه، يسائل غاشيته في ساعاته الأولى أن يفسحوا له قليلا ليتعرف إلى وجوه أهله، ولا شك مرت أعوام وأعوام... دون ذلك الطلب، حيث لا ازدحام للموريتانيين على باب زنزانته!
وصالح ولد حننا ثالثهم! ومثلما جمعهم العريش فرقهم نظام جاء الدور على رئيسه في النزوح عن الأوطان، فهو الآن مقيم في منتبذه القصي في حي "الدفنة" في مدينة الدوحة، كأنه لم يسمر بالقصر الرمادي، ولم تصفق له أياد أضعاف تلك التي صفقت للمنقلب عليه ليلة البارحة بقصر المؤتمرات حين كان يمن على المصفقين التزامه عدم الترشح لولاية ثالثة يمنعها الدستور!!!
من صفحة أحمدو بزيد