لا نحتاج التذكير بما يعنيه التعليم العالي بالنسبة لأي أمة , تريد أن تحصن مستقبلها بركن شديد , كما لا نريد أن نقول إن التعليم العالي هو زبدة التعليم ونتاج عمر من البحث والاطلاع لأن الكل يعرف ذلك , ويعرف أن تطور هذا القطاع محدِّد رئيسي لمدى تقدم كافة القطاعات الأخرى ,فقد تعددت إصلاحات التعليم بتعدد مراحل الدولة الموريتانية منذ الاستقلال , ولكنها ظلت في مجملها تحوم حول المشكل ولا تصل إلى لبابه لغياب تشخيص واع يراعي كافة جوانب العملية التربوية والأكاديمية , فكانت النتيجة دائما تصب في صالح الفشل وتردي المخرجات , بطريقة طالما أربكت المهتمين والشركاء التربويون , إذ هي لا ترقى إلى مستوى تطلعات الأمة والنخب الأكاديمية ولا تشكل متنفسا معتبرا لرفد القطاعات التنموية .
و جاء الإصلاح الأخير في هذا الجو الملبد بالتحديات ليشكل رافعة تشرق بالأمل لإصلاح هذا القطاع الأساسي والحيوي, لما قدم هذا الإصلاح من تصورات واضحة وعملية أخذت في الحسبان أهم محددات تطوير العملية التربوية متجاوزا أكبر المطبات المنهجية والإجرائية التي طالما كبلت الإصلاحات السابقة , فتبنيه بطريقة جادة لأهم الثوابت الوطنية , تجلى في تمظهرات عديدة ينبغي أن نشير إليها , لما نعتقد من قدرته على تقديم نتائج مميزة , حين شمل عدة قضايا في آن واحد , كان من أبرزها دمج الجامعتين في واحدة , ومدارس المهندسين في واحدة متعددة التخصصات, وإستراتيجية ممنهجة للبحث العلمي , وتوحيد لغة التدريس في المؤسسات الجامعية بدون استثناء.
فدمج الجامعات في جامعة واحدة تخضع للمعايير الضابطة للمؤسسات العلمية والبحثية أمر يشي بالجدية والواقعية ويستجيب للمعايير الدولية حسب اليونسكو , التي كنا نفتقد بخروج جامعاتنا السابقة عن معايير التصنيف الدولي للمؤسسات الجامعية , إذ لا يمكن لجامعة أن تحوي أقل من أربع كليات ولا أقل من عشرين ألف طالب لمراعاة الجوانب اللوجستية والبشرية وتحديد وعقلنة الإمكانات المتاحة , كما أن دمج مدارس المهندسين في مدرسة واحدة متعددة الاختصاصات يصب لا شك في دعم وتعزيز المخرجات النوعية للكفاءات والأطر العلمية الوطنية .
وقد كانت استراتيجية البحث العلمي أكثر وضوحا وعملية لما تتسم به من تماسك في التصور, سوف يضفي دون شك على عملية البحث جلبابا من الديناميكية لما ستضطلع به من مساهمة في مأسسة وتحديد الضوابط المؤطرة لعملية البحث وتوحيدها واتساقها مع الإمكانات اللوجستية والعلمية والمالية , وبذلك تكون أكثر موضوعية وعقلنة وتجاوبا واستفادة من المتاح والممكن.
و فيما يتعلق بازدواجية التعليم , فإن الخطوة أظهرت مزيدا من الجدية والإحساس بالمسؤولية نحو الإصلاح الفعلي , مقارنة مع سابقاتها مما يدل على أهميتها وتغلغلها في صميم المطلب والاحتياج الوطنيين , لما تحظى به من وجاهة على كافة الأصعدة , فقد كانت متعددة الفوائد .
فبالنسبة للطلاب , سوف يتكونون بأكثر من لغة وبطريقة موحدة , تفتح المجال أمامهم لتوسيع معارفهم ومجالات اطلاعهم , و دورها في توحيد المناهج فسيكون مميزا لما تعمل عليه من وضع لآليات موحدة للتكوين والتأطير بطريقة تخدم التطابق والتماهي في التقاليد العلمية والبحثية الوطنية , بطريقة تعزز وحدة الأهداف والأولويات البحثية والتنموية لدى الطلاب والمدرسين على حد سواء , وفي إطار عملها على توحيد الأجيال وانسجام المكونات الوطنية فلا يمكن إغفال ولا التغاضي عن فلسفة هذه الازدواجية لما لها من أهمية في انصهار العوامل التأطيرية والثقافية وتفاهم الأجيال والمكونات الموريتانية , بطريق سوف تعزز لا محالة اصطفاف الأجيال جنبا إلى جنب عبر الزمن ودون ما حاجز .
إن هذه الإصلاحات لتنبأ بمرحلة جديدة , إن هي احتضنت من طرف الجميع , وتم إشراك كل الفاعلين من نقابات وقطاعات وجهاز تدريس في تطبيقها وتبنيها بغية تفادي أخطاء الماضي , والابتعاد عن منزلقات التطبيق , والتأويلات غير العلمية التي لا تقدم ولا تأخر ..
ولا يخفى ما ينطوي عليه هذا الإصلاح من جدية , وما ينم عنه من إرادة لدى الأجهزة التنفيذية وانشغالها الدائم بالإصلاحات العامة لكل القطاعات , وإصلاح التعليم العالي بصفة خاصة , لذلك ندعو جميع فعاليات العملية التربوية من أساتذة وطلاب وآباء طلاب إلى الحرص على تبنيه وإنجاحه كل من موقعه , كما أن أملنا كبيرا في أخذ هذا الإصلاح بعين الاعتبار كافة مكونات العملية التربوية , من شركاء وغيرهم , وأن يأخذ بعين الإعتبار أكثر وضعية الأستاذ باعتباره حجر الزاوية في أي عملية إصلاح يراد لها النجاح , فأي نسيان أو تغافل عن أوضاع المدرس ستحد بلا شك من فاعلية الإصلاح أي إصلاح .
د.محمد الأمين ولد شامخ
أستاذ جامعي