وبقراءة أولية لحادثة اختطاف الأمريكي "جيف" من النيجر، وانطلاقا من مسلمات أحداث التاريخ القريب وإحداثيات الجغرافيا المحلية، وارتكازا على حقائق الواقع في المنطقة، يمكن حصر احتمالات المسؤولية عن هذه العملية في ثلاث جهات حتى الآن:
أولها: "جماعة المرابطون" بزعامة "المختار بلمختار" التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وهذا الاحتمال تعززه جملة معطيات، من بينها التجربة الطويلة لهذه الجماعة في عمليات اختطاف الغربيين وتخصصها ـ أحيانا ـ في تنفيذ عمليات خارج حدود أزواد ومالي عموما، فضلا عن البعد الجغرافي الداعم أيضا لذلك الاحتمال، حيث تنشط جماعة المرابطون في المنطقة الشرقية من أزواد الممتدة من مدينة غاوا شمالا وشرقا باتجاه الحدود مع النيجر، وهو معقلها التقليدي منذ أن أيام التحالف بين جماعتي "الملثمون" و"التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" قبل اندماجهما في تنظيم المرابطون منتصف عام 2013، وقد سبق لعناصر التنظيم أيام كانوا جزءا من "كتيبة الملثمون" أن نفذوا عمليات اختطاف مماثلة من النيجر استهدفت إحداها الدبلوماسي الكندي "روبيرت فاولر" الذي كان يعمل موفدا للأمم المتحد إلى النيجر، ومساعده، قبل أن يفرج عنهما بصفقة شملت تسليم المال والرجال، كما نفذت نفس الجماعة عملية اختطاف من وسط العاصمة النيجرية "نيامي" استهدفت مواطنين فرنسيين في يونيو عام 2011، وانتهت بقتلهما أثناء محاولة القوات الفرنسية الخاصة تحريرهما بالقوة.
غير أن كون الرعية هذه المرة مواطن أمريكي، يدفع ببعض المراقبين إلى التشكيك في احتمال وقوف "جماعة المرابطون" وراءه، نظرا لأن هذه الأخيرة درجت على القيام بعمليات اختطاف رهائن وإطلاق سراحهم مقابل فديات مالية أو الإفراج عن جهاديين معتقلين في دول المنطقة أو بلدان المخطوفين، ومن المعلوم لدى هذه التنظيمات أن الولايات المتحدة الأمريكية درجت على رفض التفاوض مع من تصنفهم إرهابيين، أو تقديم فديات مالية أو تنازلات لهم، كما هو الحال بالنسبة لبريطانيا، والتالي فإن اختطاف أي مواطن أمريكي يعني في النهاية تصفيته الجسدية وفقا لأغلب الاحتمالات، إن لم تتجدد المطالب هذه المرة وتختلف عن سابقاتها، وهو ما كان ممكنا ببساطة مع توفير جهد ومخاطرة عملية الخطف، وتكاليف الاحتفاظ بالرهينة حيا وتأمينه فترة من الزمن.
وللتأكيد على أن انتماء الرهينة لبلد لا يقبل ـ علنا ـ التفاوض مع المصنفين إرهابيا أو تقديم فديات مالية لهم، نستطرد هنا حادثة اختطاف المهندس البريطاني "كريستوف ماكمانوس" على يد مسلحين تابعين لبلمختار في مايو عام 2011، وهي الحادثة التي انتهت بقتله مع زميله الإيطالي "فرانكو لامولينارا" أثناء محاولة القوات الخاصة النيجرية والمخابرات البريطانية تخليصهما بالقوة سنة 2012 بعد دفع جزء من الفدية المالية المطلوبة لقاء حريتهما.
لذلك يمكن القول إن جنسية "جيفري" لا تستبعد وقوف "جماعة المرابطون" وراء حادثة اختطافه، حتى ولو كان الهدف منها إرباك المشهد السياسي الأمريكي عشية الانتخابات الرئاسية، ومحاولة إذلال الأمريكيين في أحد مواطنيهم، ومساومتهم على حياته، ومن ثم إعدامه وتحميلهم المسؤولية عن ذلك أمام الرأي العام الأمريكي، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تصنف بالنسبة للتنظيمات الجهادية عموما والمرتبطة منها بتنظيم القاعدة خصوصا على رأس قائمة الأعداء الغربيين الذين ينبغي استهدافهم أينما كانوا ومهما كانوا، وبالتالي فإن أي فرصة لإلحاق الأذى بهم تبقى واردة الاستغلال لدى هذه الجماعات مهما كلف الثمن.
وقبل الاسترسال في الاحتمالين الأخيرين، وعلى ضوء الحديث عن المشهد السياسي الأمريكي لابد من التوقف عند فكرة راودت الجماعات الجهادية منذ فترة طويلة في كل أنحاء العالم وعبرت عنها في أدبياتها وخطابتها، وهي السعي الدائم للتأثير في المشهد السياسي الغربي، بغية الدفع باليمين المتطرف إلى الواجهة، على أمل أن يحقق وصوله إلى سدة الحكم مفاصلة نهائية بين الغرب والعالم الإسلامي، وإقامة الحجة على دعاة السلم والتعايش بين الحضارتين الغربية والإسلامية، وفي هذا السياق تمكن قراءة الكثير من الأحداث المماثلة والتي وقعت عشية المواسم الانتخابية في الدول الغربية، وهو مشهد يتكرر الآن في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يترشح "دونالد ترامب" بما يمثله من يمينية متطرفة معادية للإسلام جهرا، ومناهضة للمسلمين علنا، إذ يشكل وصوله إلأى السلطة دعما قويا لحجة دعاة القطيعة والحرب المفتوحة بين الغرب والعالم الإسلامي.
وبالعودة إلى حادثة اختطاف الأمريكي "جيفري" يمكن القول إن الاحتمال الثاني، هو قيام إحدى الكتائب أو السرايا في "إمارة الصحراء الكبرى" التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي بعملية الاختطاف، ولهذا التنظيم تجارب في هذا المجال، وإن كانت معظم أنشطته العسكرية تتركز في الجزء الغربي من منطقة أزواد بمحاذاة الحدود مع موريتانيا، إلا أن سوابقه في عمليات الاختطاف من النيجر وغيرها من دول الجوار، تفرض وضع احتمال مسؤوليته عن هذه العملية ضمن قائمة الاحتمالات الواردة، ولعلنا نتذكر هنا حادثة اختطاف الفرنسيين العاملين في منجم لليورانيوم تابع لشركة آريفا الفرنسية في منطقة آرليت بشمال النيجر على يد "عبد الحميد أبو زيد" في سبتمبر عام 2010، حيث تحرك من أقصى نقطة في الحدود الغربية من أزواد قرب موريتانيا لينفذ العملية ويختطف الرعايا السبعة من النيجر ويعود إلى معسكراته في شمال مالي، كما قام التنظيم في إبريل عام 2010 باختطاف المهندس الفرنسي المتقاعد "ميشل جرمانو" من شمال النيجر ونقله إلى شمال مالي، قبل إعدامه في يوليو من نفس العام ردا على محاولة تحريره بالقوة، كما أن انتماء الرهينة لبلد يعلن رفضه التفاوض أو المقايضة مع الجماعات التي يصنفها إرهابية لم تكن لتحول بين عناصر "إمارة الصحراء" والأمريكي "جيفري"، فمن قبله اختطف عناصر التنظيم البريطاني "ادوين داير" منتصف عام 2009 وأعدموه في شمال مالي بعد رفض الحكومة البريطانية الإفراج عن النشاط السلفي الجهادي "أبو قتادة الفلسطيني".
الاحتمال الثالث هو أن تكون جماعة تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء بقيادة "عدنان أبو الوليد الصحراوي"، من يقف وراء العملية، ورغم أن الكثير من المراقبين يعتقدون أن تلك الجماعة لا تملك القوة والوسائل التي تؤهلها للقيام بعملية نوعية من هذا القبيل، إلا أن قدرتها على تنفيذ هجماتها الأخيرة في بوركينافاسو والتي كان آخرها يوم الأربعاء الماضي وأسفر عن مقتل ثلاثة عسكريين بوركنابيين قرب الحدود مع مالي، تجعل من غير المنطقي استبعادها من دائرة احتمالات المسؤولية عن الحادث.
أما "جماعة أنصار الدين"، و"كتائب ماسينا" التابعة لها، فإن احتمال تورطهما في العملية يبقى أمرا مستبعدا جدا ، نظرا لاعتبارات عديدة أولها أنها نأت بنفسها سابقا عن عمليات الاختطاف التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، وظلت خارج حساباتها، فضلا عن كونها تنظيمات محلية يقتصر نشاطها على الأراضي المالية، وتستهدف بعملياتها أساسا القوات المالية والفرنسية والدولية التي تقاتل في شمال ووسط البلاد.
أما احتمال تورط إحدى العصابات أو بعض قطاع الطرق في عملية الاختطاف، فيبقى احتمالا ضعيفا، وإن تأكد فقد لا يعدو كونه جزءا من عملية منسقة تقوم بها إحدى الجماعات الجهادية، عبر تأجير مرتزقة لهذا الغرض والاستعانة بهم في تنفيذ العملية، وينتهي دوهم عادة بالتسليم والتسَلُم.
محمد محمود أبو المعالي