تشهد بلادنا بين الفينة والأخري سجالات بل وملاسنات بين بعض المثقفين والكتاب حول الهوية الثقافية ومكانة اللغة العربية حيث يطلق البعض نداء استغاثة لنجدتها، فينشئ النوادي والرابطات وينعش المحاضرات تلو المحاضرات محذرا أن لغة القرآن في خطر ويحذر آخر من تهميشها المتصاعد في الإدارة و التعليم وما قد ينتج عنه من تمييع للهوية وتعريض لخاصرة الثقافة العربية في منكبها الغربي.
وفي المقابل يري البعض الآخر أن ترسيم العربية و إعطاءها مكانتها الدستورية إنما يراد به غبن الأقليات الثقافية بل إن البعض يوغل في الشطط ليري في اللغة العربية تهديدا حياتيا له ولقومه.
ظل هذا الفريق يحذر مما أسماه الإحتواء العربي لغير العرب في موريتانيا بل و يتوعد البعض أن السلم الأهلي والتعايش الوطني مرتبطان بالقضاء علي ما وصفوه بآبارتيد ثقافي ومحو آثاره.
هذا السجال المتجدد ظل يطل بين الفينة والأخرى علي خلفية التطورات السياسية محليا وانعكاسا في أحايين أخري لتورط بعض دول الإقليم في استغلال التنوع الثقافي قي بلادنا للنفاذ إلي الداخل سعيا لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية .
اليوم ينطلق في بلادنا حوار سياسي قد يفضي إلي مراجعة بعض النصوص الدستورية الضابطة لنمط الحكم و لشكل المؤسسات و حتما ستكون القضية الثقافية والهوية القومية من أهم أجندات المتحاورين بل يتوقع أن تكون أهمها علي الإطلاق.
وقد استبق السياسي الكبير بالاس انطلاقة الحوار بأن طالب بترسيم اللغة الفرنسية إلي جانب اللغة العربية لخلق ما يراه توازنا ثقافيا وعدلا بين مختلف مكونات الأمة وهو ما يعني أن الأغلبية لا تعني له كثير شيئ و أن أي أمة متعددة الثقافات و الأديان والمذاهب عليها أن تقرر ثقافة أجنبية علي الجميع ودينا لايدين به أحد من قوم ولغة غريبة علي الكل لتشعر الأقلية أنها غير مغبونة !
إن هذا الحوار الذي كان بدأ عبر وسائط التواصل الاجتماعي و المحطات الإذاعية و التلفزيونية أسابيع قبل انطلاقته الفعلية يشير إلي أن القضية الثقافية ستكون أحد المواضيع المهمة بل والأساسية لدي جميع من سيشاركون فيه.
لا أحد ينكر أن الدولة - أي دولة- لا بد لها من لغة رسمية تكون إما ترجمة لهويتها الثقافية والقومية أو نتيجة اختيار طوعي من غالبية سكانها لمصالح يرونها مرتبطة بها أو حاجات لا يمكن لهم الحصول عليها إلا بها كما يحصل و حصل مع بعض الدول التي لا تملك لغة مكتوبة و مقوعدة اختارت ما تراه الأقرب لها ثقافيا وتاريخيا من لغات الغير.
ولكن مثل هكذا اختيار يبقي مؤقتا لحين إنقضاء الدافع الموجب له لأن السيادة لا تكتمل بدون هوية والدولة كالفرد لا بد لها من إ سم و لغة و عنوان.
ولا شك في أن القومية كما يقول البعض قدر محبب، وهي فطرية لا يملك الإنسان كبير سلطان في كبتها أو التنكر لها، لكن الناس تختلف في مستوي القدرة علي توجيه اللاشعور القومي وتطويع العاطفة لتساير العقل وتنصاع لمقتضيات المنطق.
وبين هوية الفرد التي يحس بها وتوجه أحيانا الكثير من لاشعوره ومن أفعاله الواعية وهوية الدولة التي هي في واقعها ترجمة لواقع ديمغرافي أفرز تركيبة بشرية تفاوتت مكوناتها في الحجم ، يقع الإنسان ضحية لتجاذبات العقل والعاطفة، فإذا غفل العقل - كما يبدو بالنسبة للبعض- تكون الآراء المعبر عنها تنفيسا عن غل أكثر من نظرة تستدعي المعالجة الفكرية..
ولمعالجة ظاهرة التعدد الثقافي والديني و اللغوي الذي لم تسلم منه دولة في العالم اتفق الجميع من مشرعين وساسة وفلاسفة وحكماء علي أساس واحد للإنصاف و العدل والقسط بٍين الناس: أن تتسم الدولة بسمات أغلبية مواطنيها وأن تحترم خصوصيات أقلياتها وأن تعدل بين الجميع.
وواقع الحال في هذا الزمان كما في الماضي أن الدساتير كلها نصت علي هذه القاعدة ولكن تجارب الحكم تفاوتت في احترامها لخصوصيات الأقليات واتفقت في ما يخص الأكثرية.
قد تجد دولا أقصت أقلياتها وهمشتها- وغالبيتها قامت بذلك بحماية الدول الكبرى التي تدعي رعاية الديمقراطية و حقوق الإنسان- وهو أمر معيب ومنكر....لكن لن تجد دولة يعيش أغلبية سكانها صراعا لإثبات الهوية....إلا موريتانيا.
فالديمقراطية تعني من بين أمور أخرى حكم الأغلبية ليس في السياسة فقط وإنما في الثقافة وغيرها وبغض النظر عن حجم تلك الأغلبية مريحة كانت أو ضعيفة.
فالحزب الفائز والرئيس المنتخب قد يكون فاز أو أنتخب بأغلبية ضئيلة ولكنها تبقى أغلبية، هذا الفائز المفوض من هذه النسبة الغالبة يحمل مشروع مجتمع متكامل في السياسة والإقتصاد والثقافة والإجتماع..... .
والدستور الذي على أساسه قامت العملية السياسية، يتم إقراره بالإستفتاء الشعبي عليه وتفصح مواده عن رغبة غالبية ساكنة البلد مع وجود أركان ضابطة تحول دون الإستغلال السيئ للميزة العددية.
هذه أسس يقر بها الجميع إلا في حالة بلادنا حيث نجد من يعارض ترسيم اللغة العربية، ومن يعارض جعلها لغة الإدارة والدولة بل إننا نسمع أصواتا تشترط الوئام الوطني بإعادة النظر في الأسس التربوية والتعليمية للبلد ويذهب آخر في شطط عجيب إلى أن يصف نظامنا التربوي بأبارتيد ثقافي.
لذلك وجدت من الوارد تحديث مقال سابق حول هذا الموضوع و مخاطبة هؤلاء القوم لنجد أساسا يكون مقبولا الإصغاء إليه، ويمكن من خلاله تحديد هوية البلد، إذا كان الجميع مدركا بأن الهوية ركن أساس من أركان السيادة.
فإما أن نرجع إلي القانون ونحتكم إليه ونري واقع البلد وحجم مكوناته لننصف الكل -أغلبية وأقليات - أو أن ننظر إلي دول الجوار لنري كيف تعاملت مع هويتها ونري إن كانت نجحت حيث فشلنا فنستلهم مكامن القوة في تجربتها أم أن نماذج في العالم القصي كانت أكثر تطورا وشمولية أو نبحث في الأخير في مدي صدقية ما ذهب إليه البعض متحججا أن اللغة العربية - ولو أنها لغة الأكثرية - ليس بمقدورها مواكبة النهضة العلمية والمعرفية التي يشهدها الكون في هذا الزمان.
ففي النقطة الأولي يجمع خبراء القانون و السياسية ونظم الحكم أن اللغة الرسمية لأي بلد هي لغة أغلبية سكانه. وفي بلادنا توجد أربع قوميات :
* العرب أو الناطقين بالعربية : لا يهم إن كانت هناك سلالات غير عربية من بينهم. فالمهم أنهم وجدوا أنفسهم ينطقون بهذه اللغة ولم يجلبوا أحدا ليزيدوا به عديدهم، وهؤلاء يمثلون علي أقل تقدير 90% من سكان البلد ؛ وقد تكون الإنتخابات الرئاسية لعام 2007 التي شهدت اصطفافا قوميا باديا خير دليل علي ذلك .
* البلار : وهم الناطقون بالبولارية، سواء منهم من كان من سلالات فلانية Peuls خالصة أو من ترجع أصوله إلي الإختلاط مع القوميات الأخرى الذي أقره القائد سليمان بال Souleymane ballفي القرن 18 عشر والذي نتج عنه ما أصبح يعرف بالتوكولور.
* الولوف : وهم الناطقون بالولفية
* السونيك : الناطقون بالسنوكية وهم بالمناسبة بناة إمبراطورية غانا الشهيرة.
كل هذه القوميات تدين بالإسلام والحمد لله، وكل هذه القوميات شاركت في الماضي وفي أدوار مشهودة في نشر الثقافة العربية الإسلامية في القارة السمراء، وكل هذه القوميات شاركت في محاربة الإستعمار وتأسيس الدولة الحديثة.
والجميع يعي تماما أن الغالبية الساحقة ناطقة بالعربية، وفي الوقت نفسه يسعي بعض الساسة لتهميش هذه اللغة بل و تغييبها إن أمكن متحججا بأن اللغة الفرنسية - الغريبة علي الجميع - هي وحدها الكفيلة بخلق مساواة ثقافية و تربوية بين الجميع.
بعد انتخابات 2007 وما طبعها من إصطفاف قومي وما اتسمت به من نزاهة شهد بها الجميع، ممن كسب الجولة ومن ينتظر؛ بدأ البعض يطور خطابا يشترط الوئام الوطني بتمييع الهوية وإفراغها من معناها، ويروج لمصطلحات هي ببساطة عصية علي الفهم.
جن البعض وتداخلت المفاهيم لديه وجيش الممكن و اللاممكن والمعقول واللامعقول ، من تركيب مصطلحات ونسج معاني حتى أبدع اكتشافات جديدة من قبيل "السود الموريتانيين" سعيا منه أن يجمع الهالبولار و السونينك و الولوف و الحراطين في »مظلومية « واحدة في وجه ما لا يتورع أن يصفه كما أسلفنا بابارتيد ثقافي عربي.
علي هذا القول يجدر التنبيه إلي أن الهالبلار و السونينك و الولوف لا تربط بينهم رابطة ثقافية إلا تلك التي تجمع الجميع مع الناطقين بالعربية، بل إن الكثير من أبناء هذه القوميات يتفاهم بعضهم مع البعض باللهجة الحسانية.
.
أما الحراطين فإنهم لا يقلون عروبة عن سكان نجد و الحجاز، فلم يقل أحد لا في الماضي و لا في الحاضر بان للعرب لونا خاصا بهم، ولم يكن العرب يوما إلا لسانا يجمع الناطقين به و الحريصين علي الثقافة المفصح عنها.
فالرسول (صلعم) يقول: ليست العربية بأحد منكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان...فمن تكلم العربية فهو عربي.
ولم يكن الإمام نافع أبيض البشرة ولا الجاحظ ولا رابعة ولا بلال ولا الحسن البصري....ولو كان اللون عامل ترابط قومي لكنا سمعنا بحضارة البيض و السود و الملونين ، بدل الحديث عن حضارة بابل و آ كد و آشور و الإغريق و الفراعنة و العرب و الرومان و الهند و الفرس و ........
ومن ثوابتنا أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد واللغة الجامعة لكل مكوناته التي بها تلاقي الله في اليوم خمسا ، وبها نزل الكتاب الجامع ، حملته مفصحة مبينة إلي كل فجاج الأرض .
وما ذهب إليه بعضهم من أن اللغة العربية و التدريس بها يساهم في تأجيل بل و عرقلة التنمية، فانه لا يعدو كونه تعبيرا عن كراهية لأمة و ثقافة بعينها، لم يتمكن أعدي أعدائها من إنكار مكانتها الثقافية و العلمية و التراثية التي كانت و ما زالت حية، يحتاج لها الجميع و تأخذ بالكثير إلي مراقي الازدهار و التقدم.
علي ذلك شهد الجميع وحتى الذين لا يربطهم باللغة العربية إلا الشعور بالحاجة للإستزادة مما تزخر به من بيان وما أفصحت عنه في الماضي و ما تزال من علوم ومعارف و ما تعنيه من لغة جامعة لأكثر من مليار من البشر توحد بينهم بعدما فرقتهم الثقافات وباعدتهم الجغرافيا.
فالثقافة العربية هي وحدها التي لم يشعر أحد بالغبن فيها بل إن قواعدها وعروضها ونحوها وصرفها وبيانها وشعرها كلها تدين لغير العرب بالدور الكبير.
لم يكن سيبويه من ولد عدنان ولا من أبناء قحطان حاله حال الخليل وابن الرومي وأبي نواس كما أن أبا حنيفة النعمان أول الأئمة لم يمنعه انتماؤه غير العربي من أن يكون كما هو.
عن هذه اللغة قال المفكر الألماني ٌفريتاج ً إنها أغني لغات العالم وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -والراجح انه إما كردي أو تركماني- إلي القول إن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ً.
ويزيد شيخ الإسلام فيقول ٌ »اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ٌ « في حين يقول الإمام مالك »من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه « وهذا ليس من قبيل الإكراه بل حرصا من إمام دار الهجرة علي أن يتعلم المسلم اللغة العربية ليدرك بنفسه الكثير من الأبعاد الإيمانية للدين تعجز الترجمة عن الإفصاح الكامل عنه.
أقر الغرب بغناها واستوعبت كتاب الله وثقافات أمم شتي في الماضي وأفتي العلماء بوجوب معرفتها واليوم تتبوأ مكانة علية في مؤسسات العالم ومنظماته وهيآته.
تعتبر الأمم المتحدة بهيآتها ونظامها والمؤسسات المتفرعة عنها وصلاحيتها ٌ دولة كونية حيث يرجع إليها في فض النزاعات ويسمو القانون الدولي علي القوانين المحلية، وتجيز طرق التعامل بين الدول في كل المجالات.
هذه المنظمة اعتمدت من بين أكثر من 3000 لغة في العالم ستة فقط كلغات رسمية يتم تداولها في الأمم المتحدة وتتعامل بها كافة الهيئات المتفرعة عنها.
ولهذا الإختيار لا شك أسباب، إلا أن ما يهمنا هنا هو أن نشير فقط إلى أن العرب ليسوا أحد المنتصرين في الحرب العالمية الثانية و لا يملكون قوة فتك وتدمير وليسوا أكثر الأمم عددا في العالم.
فاللغة العربية إذا من حيث المكانة لغة عالمية و من حيث القانون لغة الأغلبية في بلادنا، وعليه فإنها هي اللغة الرسمية الوحيدة، واللغة العربية إحدى ست لغات اعتمدتها الأسرة الكونية، مما يجعل التعامل مع العالم أمرا سهلا، واللغة العربية كما سنرى في النقطة الرابعة أم اللغات الحية وأهمها وأكثرها عمقا وأفصحها بيانا.
قد يقول أحد المطالبين بتهميش العربية أو الرافضين التعامل بها، إن دولا ممن نقتسم معهم الكثير من الخصائص والمميزات تشبثت بلغة أخرى و اختارت طريق اللائكية في الثقافة، فتنازلت الأغلبية عن هويتها، من أجل المساواة وخوفا من غبن الأقليات، ويضربون على ذلك مثلا السنغال، عن جهل بوضعيته أو قصد لتحقيق غاية معينة.
إن التجربة السينغالية التي نتطرق لها في هذه النقطة الثانية مرت بمراحل عدة تتوالد من بعضها ولكن تتفق كلها في سبيل إنصاف أكثرية نسبية من مكونات الشعب تزاحمها اثنتان في الحجم الديمغرافي و تقبل بصدارتها.
تشير آخر الإحصائيات إلي أن التركيبة السكانية للسنغال تتكون من :
* الولوف ويمثلون 43.7% بغض النظر عمن هم من سلالات ولفيه أو من هم من قبائل Lebous سكان منطقة الرأس الأخضر) دكار وما حولها (
* الهالبولار )الناطقون بالبولارية( 23.2% : منهم 12% إفلان والبقية توكولور
* السيرير 14.8%
والبقية مجموعات بنسب قليلة .
فهذا البلد المتعدد القوميات والذي كان أول مستعمرة فرنسية في غرب إفريقيا- وصله الفرنسيون مستعمرين عام 1659- لم تكن به لغة محلية مكتوبة و ترك فيه المستعمر سطوة ثقافية قوية وحضورا سياسيا مؤثرا بعد تنصيب ليوبولد سيدار سنغور كأول رئيس للبلاد رغم انتمائه للأقلية الدينية المسيحية والأقلية القومية السرير.
فهو ينتمي إلي أقلية مسيحية داخل مجموعته القومية و مجموعته القومية أقلية داخل النسيج القومي للدولة السنغالية حيث تأتي في المرتبة الثالثة بعد الولوف والبولار وهو قبل ذلك واحد من أكبر المهووسين بعشق اللغة والثقافة الفرنسية وواحد من أكبر الكتاب والشعراء الناطقين بهذه اللغة.
دفع به الإستعمار وهو يغادر السنغال إلي الواجهة، فكان لابد له من أن يبدع معادلة تمكنه من البقاء في الحكم مدركا الصعوبات التي تواجهه من حيث حجم المسيحيين في السنغال والسرير التي إليها ينتمي ولكنه كان مدركا أيضا لقوة الدفع التي يمثلها المستعمر الذي رغم خروجه ما زال حاضرا وبقوة.
لهذه الأسباب أقر سنغور في دستور السنغال في مادته الأولي أن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للبلاد وكتب النشيد الوطني بها.
وجاءت المادة 28 تقول بإلزامية أن يكون المرشح للإنتخابات الرئاسية مجيدا للغة الفرنسية كتابة وقراءة وتحدثا بها. ففصل بذلك الدستور علي مقاسه هو ولم يبق إلا ملء خانة الرئيس فيكتب فيها إسمه حيث يتصدر بشخصه - وبمسافة بعيدة عن أقرب المنافسين له- من تجتمع فيه هذه الصفات المنصوص عليها في القانون الأساس.
شعرت النخب السياسية والفكرية السنغالية مبكرا بحيل الرئيس سنغور وتبارت مجموعات كبيرة في مقارعته للدفاع عن الهوية الولفية للسنغال وكان من أبرز تلك الشخصيات العالم الكبير الشيخ أنتا ديوب Cheikh Anta Diop الذي قال: ٌإن الإستعمار ذهب بأشخاصه البيض وبقي في ثقافته ٌ وكأني به يستحضر كلمة نابليون "إن الفرنسية ستصنع للفرنسيين ما لم يصنعه الفرنسيون لأنفسهم "
وسانده في ذلك الكاتب الكبير سمبين عصمان Sembene Ousmane ، وواصل الشيخ أنتا اديوب نضاله وعلي أساس مقولته الشهيرة "إن فرض اللغات الإستعمارية لن يكون إلا معيقا لتنمية إفريقيا مما جعل الرئيس سنغور – وبعد ضغط كبير- يقرر تدريس الولفية عام 1977 ، ففتح 15 فصلا لتدريس اللغة الولفية وبعد ذلك بفترة وجيزة فتح فصلا واحدا للسرير وفشل في الجميع حتى رحل سنة 1980 عن الحكم.
ولكن هذا الفشل لم يمنع السنغاليين الذين ينطقون ويفهمون الولفية بنسبة 80% - رغم أنها تمثل اللغة الأم لما يقارب 44% فقط من السكان - من مواصلة نضالهم لإثبات هويتهم وهو مسعى يتحقق تدريجيا.
بدأت الولفية تزاحم الفرنسية أمام المحاكم وفي المؤسسات حيث أن الخطوط الجوية السنغالية أصبحت تستخدمها مع الفرنسية وشركات الهاتف النقال تبث رسائلها بها وحدها مع الفرنسية والجريدة الرسمية السنغالية - بعد أن ظلت ردحا طويلا من الزمن باللغة الفرنسية وحدها- أصبحت الآن تطبع بنسخة ولفية. وهنا تجدر الملاحظة أن الجميع في السنغال يقبل بحقيقة أن الولوف أغلبية سكان البلد، فلم نجد بولاريا سنغاليا أو بيظانيا من السنغال-حيث يمثلون أكثر من 1% - يتحدث عن عنصرية ثقافية أوعن هيمنة الولوف.
وقد توالت مجهودات الدولة في سبيل استرجاع الهوية الثقافية بوتيرة متسارعة حتي وصل الأمر بالرئيس عبد الله واد أن عبر عن عزمه إلزام كل الوزراء بدراسة الولفية ليكون كل واحد منهم قادرا على فهمها والتعبير بها و لم يعترض أحد ولم يسأل أحد عن هوية ضائعة ولم يقل أحد بظلم أو إجحاف راح ضحيته.
أما عن التجارب العالمية الأخرى فالواقع أكثر وضوحا والنصوص أكثر إفصاحا، ففي فرنسا لغة الدولة الرسمية والإدارة والمحاكم والأحزاب هي اللغة الفرنسية رغم أنه توجد بفرنسا -علي الأقل- سبع قوميات متفاوتة الأحجام وموزعة علي عموم جغرافية البلد.
رغم تنوع فرنسا الثقافي والإتني فقد صدر مرسوم يحرم علي أي مسؤول في فرنسا استعارة مصطلح غير فرنسي في أي استخدام مع العلم أن كل هذه اللغات الثانوية مكتوبة ومقوعدة، ورغم ذلك لن تجد يوما مواطنا من فرنسا لا يعبر باللغة الفرنسية ولا يلم بها، ولن تسمع أن مواطنا فرنسيا من أصول غير غولية شعر بغبن الأغلبية له أو تحدث عن ابارتيدApartheid ثقافي.
وهذه الدولة التي أخذنا عنها الكثير بعربنا وغير عربنا وأخذ عنها جوارنا الكثير في الشمال والجنوب من القوانين والتنظيم والإدارة، هذه الدولة رابع أقوي اقتصاد في العالم ، وثالث أقوى قوة عسكرية فيه تخشى على هويتها فتنشئ وزارة مكلفة بها ... ويعاب علي الأغلبية في موريتانيا أن تتشبث بلغتها لغة رسمية وأن تطالب بتجسيد ذلك في الحياة اليومية للدولة.
ليست هذه حال فرنسا وحدها، فهذه اسبانيا تقر في المادة الثالثة من الدستور : "إن الكاستيان (الإسبانية) هي اللغة الرسمية للدولة وكل الأسبان عليهم واجب معرفتها وحق استخدامها".
هذه الدولة التي تحمي لغة الأغلبية هكذا، تضم 11 لغة أخرى مكتوبة من بينها 4 لغات تنطق بها أقليات كبيرة كالكاتلان والباسك والآراني والغاليسي.
وغير بعيد تضم إيطاليا 12 لغة مكتوبة بقواعدها وصرفها ونحوها، إلى جنب اللغة الرسمية ومن بين هذه اللغات لغات حية كالفرنسية والجرمانية.
ففي المادة الأولى الفقرة الأولى من القانون 1999/482 "اللغة الرسمية للجهورية هي الإيطالبة". أما المادة 122 من قانون الإجراءات المدنية فتقول "خلال المحاكمات يلزم استخدام الايطالية، وعندما يمثل أمام القاضي شخص لا يفقه الإيطالية، فإن القاضي يمكنه أن يعين مترجماً.
قد يجادل بعضهم - بل إنه بالفعل فعل- بالقول إن اللغة العربية ليست لغة معارف وليست عاملا للنهوض المعرفي والعلمي وأنه من أسباب التقدم التشبث بالفرنسية وتعميم التدريس والمعاملات الرسمية بها.
وينسي هؤلاء أن اليابان تدرس باليابانية وأن الصين تدرس بالصينية، ولم يعقهما ذلك عن أن تكونا واحدتين من أقوى الدول في العالم وأكثرها ازدهارا ونموا بل تزاحمان فرنسا و أمريكا وتصدران البطالة إليهما. كما أن أصحاب هذا الطرح يقعون في تناقض كبير مع أنفسهم حين يطالبون بتدريس البولارية في الوقت الذي يتحججون بقصور اللغة العربية عن مسايرة التنمية.
واللغة العربية- بإجماع الكثير من العلماء والخبراء من غير العرب- هي اللغة الأم لكل اللغات السامية، بل إن البعض ذهب إلى القول بأن سيدنا موسى كان ينطق بها وأن التوراة في نسختها الأصلية كتبت بها وهو مايفسر عجز اليهود عن الإتيان بنسخة مكتوبة بالعبرية إبان نبوءة موسى.
ومن دلائل ذلك ما نزل في القرآن الكريم "وإلى مدين أخاهم شعيبا" ومعروف أن مدين عربية وأن موسى لما وصل إلى البئر خاطب بنات الشيخ الكبير بسهولة وتزوج لاحقا، وكلمة الله بعد حين ... بهذه اللغة.
وقد نقل الجاحظ أن سيدنا إسماعيل نطق بالعربية المبينة وحباه الله من طبائع العرب وثقافتهم وماكان من عاداتهم وتقاليدهم كما تؤكد الكثير من الدراسات أن المسيح عليه السلام آرامي والآرامية فرع من اللغة العربية القديمة.
ومعروف أن لغة استوعبت معاني القرآن وألفاظه ودلالاته وشموليته وشعت بعد ذلك علما وحضارة وكانت من قبل قد احتضنت كل الثقافات القديمة، ليست عاجزة أن تنقل شحنة معرفية في هذا الزمان.
يتضح من كل هذا وذاك أن لا عيب في اللغة العربية يبرر العزوف عنها كما أن لا فضلية أبدا للناطقين بها علي غيرهم ولكنها ببساطة لغة تجمع الناطقين بها -هوية - بالمسلمين كافة لأنها لغة الدين والعبادة.
في يلادنا تعيش قوميات أربع، إحداها أغلبية كبيرة والأخريات متفاوتة النسب تدين كلها بالإسلام وتمتلك مخزونا ثقافيا غنيا وإرثا حضاريا كبيرا ملكا للأمة بأسرها وهذه المجموعات بحاجة ماسة لتوحيد أبجدية جامعة تنقل المعارف وتسهل التواصل كما كان الحال بالأمس.
ولا أحسب أن غير العربية يمكن أن يقوم بهذا الدور كما أدركت ذلك شعوب مسلمة كثر درست لغاتها كلها بالحرف العربي كالفرس والطورانيين والبشتون والسند والأرديين تماما كما كان عمر الفوتي وهو كتب "النصح المبين" و "سيوف العدل" و"رماح حزب الرحيم علي نحور حزب الرجيم" و غيرها باللسان العربي و ظل فوتيا حتى استشهد في واقعة الجبل علي الغزاة المحتلين.
قد لا نفلح بهذا المقال في إ قناع الإخوة المدافعين عن سلبية اللغة العربية وهو أمر مؤسف للغاية وهو ما يدعونا لطرح المقترحات التالية من أجل الوصول إلي حلول مرضية للجميع حول القضية الثقافية:
-1 القيام بإحصاء ثقافي شامل من خلال إستمارة تحوي اللغة الأم
-2الإبقاء علي الواقع الحالي من موازاة بين اللغتين العربية والفرنسية في الوظائف الحكومية علي أن تقوم الدولة بتأهيل المفرنسين في اللغة العربية والمعربين في اللغة الفرنسية، وذلك لغاية تعميم المنهج التعليمي الموحد.
-3إلزامية التعليم باللغة العربية منذ الإبتدائي وذلك ابتداء من السنة القادمة.
وهو ما سيمكن خلال ست سنوات من تنظيم مسابقة واحدة بلغة واحدة جامعة لدخول السنة الأولي إعدادية، عندها نكون قد وحدنا منهجنا التربوي و استجبنا لمخاوف المتفرنسين منا وسددنا الباب أمام من يحاول العبث بوحدتنا وهم كثر.
-4البدء بعمل جاد لكتابة البولارية و السوننكية والولفية بالحرف العربي مع الإدراك أن هكذا مشروعا يتطلب مجهودات مادية وبشرية هائلة ووقتا طويلا.
سنكون ساعتها قد أسسنا لرابطة ثقافية واحدة دعامتها الحرف العربي وشحنتها تراث وثقافة الجميع ونكون عندها قطعنا شوطا مهما في سبيل إحياء الإرث المشترك والجامع والذي ما زال رغم عبث العابثين يعبر عن نفسه في كل لحظة وكل حين.
مقال كتبه الدكتور محمد ولد الراظي