جمعتنا الصُّدفة حين أدركتني صلاة العصر بالقرب من أحد بيوت الله في توجنين، فدَلَفْتُ داخله و حييته بركعتين خفيفتين، مددت يدي لمصافحة شاب أسمَر البشرة يرتدي فضفاضة بيضاءَ يناجي ربّه بأذكار مسائية يجلس على مقربة مِنّي.
بصعوبة تمكن من الإهتداء إلى أطراف أصابع يدي الممدودة إليه.
كان في تلهف لسرد قصته حيث قال: "في مثل هذا اليوم من السنة المنصرمة كنت قوي البنية مفتول العضلات مقبلا على الحياة أمارس الرياضة بشكل منتظم ولا أشكو من عِلَّةٍ في جسدي"
وتابع بحسرة..عملت ضمن تشكيلة من الهندسة العسكرية مكلفة بنزع الألغام والأجسام المتفجرة المطمورة في أعماق التربة بالشمال الموريتاني.
وأضاف كنا نعمل تحت درجات حرارة مرتفعة قبل أن أشعر بصداع مبرح اعتقدت في البداية أنه بسبب الشمس الحارقة، إلى أن شعرت بنقص كبير في الرؤية.
حينها قررت الذهاب بحثا عن العلاج،حصلت على الإذن من رئيسي في العمل وانطلقت إلى العاصمة انواكشوط".وكم كانت المفاجئة صادمة عندما أخبرني الطبيب بعد اكتمال الفحوص أن على الرِّضَا بالقدر والعيش ضمن ظلمات العمى وتخيل العالم بدل الإحساس بالرؤية.
ومما زاد في إحساسي بالألم شعوري بالإهمال الطبي لأن إصابتي بالعمى كانت محل تدارك لو تم التشخيص والعلاج في وقت مبكر.
أحسست بألم يعتصر سويداء القلب وأنا أرهف السمع لـ"لشيخ ولد صمب" وهو يسرد تفاصيل قصته الحزينة بعد أن كان شابا طموحا يزرع الحياة ويفدي لأبرياء بنفسه في صحراء قاحلة إلا من ألغام مخلفات حروب مدمرة سابقة.
رافقته وعلى بعد خطوات من شارع "سيد المختار الكنتي" صاح دليلنا "الطفل عمر(10 سنوات) ذاك هو منزلنا الذي نقيم فيه؛ بدا منزلا متواضعا يقع وسط أحزمة من الأعرشة وأشباه البيوت تفصح عن فقر ومآس شديدة .
في طريقنا إلى المنزل كنا نصعد التِّلاَلَ وننزل بين الحفر ونتلمس طريقنا بين ركام المنازل الذي خلفته الجرافات أثناء تخطيط الحَيَ وتأهيله.
استقبلتنا زوجته عائشة بالترحاب ...حدثتنا عن المعاناة التي سببها فقد الزوج لبصره وعمله، وقالت: "لقد فرض عليَّ ذلك مضاعفة الجهد لأتمكن من سَدِّ الحاجيات التي تتطلبها الحياة اليومية في مدينة لا ترحم.
وبمرارة تَخْنِقُهاَ العَبَراَتْ أضافت: "منذ أن أصبح زوجي أسير ظلمة العمى لم تُقدِّمْ لنا المؤسسة العسكرية التي كان يعمل بها أي عون.وبقينا عالة على المحسنين الطيبين مع قلتهم.
بسبب العمى يقضي "ولد صمبه" أغلب وقته في الاستماع للأشرطة الدينية والمحاضرات عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم" وتمنى أن يصل صدى معاناته إلى أصحاب القلوب الرحيمة ليعينوه على نوائب دهر "قَلبَ لهُ ظَهْرَ المِجَنْ
ودَّعْتُهُ بعد أن أرخى الليل سدوله.. كنت مهموما لحاله..بذلت جهودا لظهوره في برامج تلفزيونية تعنى بمثل هذه الحالات الإنسانية..في انتظار فرصة قادمة يبقى مصدر رزقه ما يجود به المحسنون.
ما أقسى الشعور بالموت بعد الحياة.. وأقسى الإحساس بظلمة العمى بعد الإبصار.. وَالْأمَرُّ من ذلك كله الإحساس بالضياع في وطن كنت تفديه بنفسك وبصرك.
بقلم محمد ولد سيدناعمر..كاتب صحفي