«فتح عثمان حقول المعاجم وكسر الجدران. كتب عثمان كما يتنفس الآخرون. لقد وهبنا عثمان كلماته الوضاءة... لقد وهبنا الدنيا»، كما قالت الشاعرة الموريتانية مريم منت درويش. إن أصعب ما يكون هو الكتابة عن أشخاص غير عاديين بكلمات عادية كالتي تكتبنا. وفي زمن التحولات المخيفة التي تضرب بنية التاريخ وتفتت الأنساق وتطاول الشخوص حتى تلتهم الزمن على نحو موجع، يكون تحدياً حقيقياً الكتابة عن اسم مثل عثمان موسى دياكانا، فمن نحاول ملاحقة ظله المائل نحو التراب بالكلمات، قد مضى مكتملاً إلى فجر ظل يسقيه بالضوء والمعنى حتى عم الظلام فجأةً بين يديه.
ولد الفقيد عثمان دياكانا 1951 في مدينة كهيدي المنسية في ذاكرة الجنوب النازفة، هناك حيث تحترق صفائح الماء في نهر الحرمان الدائم عند الغروب، وفاءً لوهجه الذي لم يخفت، إذ ما زال ينير دروب كل السائرين في اتجاه فوتا الأم، التي لا تزال أطلالها ماثلةً في شعر هذا الغائب ونثره المسافر عبر الزمن، حتى وإن خط المخمورون الفرنجة حدود هذا المنفى الدائم لبادية الشيخ محمد المامي، وكف عن الحديث بالسوننكية ومضى مأخوذاً بأقدس الصمت، هذا الموت الكبير. تعلم الشاعر الذي كان يدعى عثمان اللغة العربية وتهجي السلام بالسوننكية التي سيكون بعد ذلك إحدى كلمات قاموسها، وبدأت مخيلته تبتل بخرير الضفة، إذ يتردد في المساء ليرتب ملامح طفولته. دخل عثمان المدرسة باكراً، وختم دروسه من إعدادية مدينة كيهدي، قبل أن يشد وتر عمره الموسيقي - تساءلت الباحثة المخضرمة كاترين الشيخ عن السر وراء تسمية الجانبه البيظة والكحلة بهذه الألوان، لعلها وجدت الإجابة - ويتجه إلى مدينة نواكشوط ويلتحق بالثانوية الوطنية. بعد حصوله على شهادة الباكلوريا 1970، ابتعد عثمان عن اسم جده قليلاً، وحال بينه وبين الروح جدرانا وصحاري وجنود، إذ رحل إلى مغرب الطاهر بن جلون، الذي افتتح بالمناسبة باقتباس له أغنيته المطرية أو قصيدته التي تتخللها التفجيرات على حد تعبيره: الشرقية.. أغاني إلى امرأة في الساحل. بعد سنوات من الدراسة الجادة في المغرب بمنحة حكومية حصل عليها عن جدارة، ظل حلم الفقيد ينمو كما الأشجار، إذ حاز عام 1976 على شهادة المتريز من جامعة محمد الخامس في «التداخل الصوتي والمعجمي والنحوي بين العربية والسنونكية»، ومنها انتقل إلى فرنسا ليزداد المنفى اتساعاً، لكن شجر الحلم ما زال ينمو، فقد خط الفقيد لحياته مساراً ظل يلاحقه حتى النهاية.
بعد انتقاله وفوتا التي تسكنه إلى جامعة السوربون وبعد ليال من الحنين لبلاد كان صيدو وعمر با، بلاد الشرقية، حصل عثمان على دكتوراه السلك الثالث في اللسانيات عن مقاربة صوتية ومورفولجية للغة السوننكية في كيهيدي التي تنام في ركن قصي من قلبه، وهنا لا بد من التوقف قليلاً على ملاحظات مهمة تكشف عن خبايا هذه الروح السننكية التي غابت عن الأنوار في السنة ذاتها التي ابتعد فيها حبيب ولد محفوظ عن موريتانيا، وحظيت بالكثير من الإعجاب من البروفسيور عبدالودود ولد الشيخ عالم الاجتماع العظيم.
يقول البروفسيور في ورقة تأبينية قرأت بالنيابة عنه في حفلة تأبين نظم 2015 للفقيد: «أشير هنا بشكل عابر إلى أن هذا الفرانكفوني الذي كان كامل الازدواجية – السونينكية البلارية - مع إلمام بالولفية والحسانية، كان قد أنهى المرحلتين الأوليين من تعليمه العالي في المغرب، وكان كذلك منفتحاً علي اللغة العربية لأن والده موسى دييدي، أحد كبار أعيان حي كاتاكا السوننكي في مدينة كيهيدي، وعلى نطاق أوسع، محيطه العائلي ممن يتقنون الكتابة والقراءة باللغة العربية وورثة تقليد عريق في الإلمام بالثقافة الإسلامية العالمة».
ويضيف البروفسيور: «عندما يتعلق الأمر بالشاعرية أو التعبير العاطفي الذاتي في الأسلوب الشعري يعبر عثمان دياغانا عن ذائقة جماعية مشتركة متجاوزة الحدود الجمالية والمعالم الثقافية لمحيطه الأصلي. على سبيل المثال لاحظوا احتفاءه بالمرأة البيظانية في مجموعته الشعرية التي تحمل عنواناً ذا رمزية بالغة شرقية».
إن هذه الملاحظات المنهجية والجميلة ذات الأبعاد المختلفة، تعيد طرح السؤال الذي فرض نفسه، لماذا لم يلق هذا السوننكي «إنسان كل الألوان.. إنسان كل الجهات» على حد تعبير سمي عثمان في العظمة ونكران الذات جبريل زكريا صال، ما يليق به من احتفاء وتخليد، وسنترك الإجابة عن هذا السؤال معلقةً إلى أن تحل اللحظة الدرويشية التي عبرت عنها مريم في رثائية مشهودة: «حيث لا يعكر صفوك بحث عن أصول أو فصول... في عالم يمكن لكل منا التعرف على الآخر في حدوده إنسانيته، لغاته وثقافاته المختلفة. فقط هناك في ذلك العالم سيتم التعلم من عثمان وتدريسه ومشاركته ابتداء من الفصول التربوية الأولى».
عاد عثمان إلى بلده منفى القصائد، ليربي الأجيال على حفظ اللسان الموريتاني، متعدد اللهجات، وعمل أستاذاً في جامعة نواكشوط، التي بخلت عليه بإطلاق اسمه على مدرج حتى، وفيها ترقى في مناصب عدة، وظل كما هو باسمه ولسانه الموريتاني، «يكتب كما يتنفس الآخرون». وإذا كان بين الساحل ونيويورك قصيدة طويلة كتبها الشهيد تان يوسف كي، فإنه في أقاصي تلك الجغرافيا التي تهب عليها نسائم حوض أرغين الذي يعج بالعطور البرتغالية، فإن عثمان شيد هناك مملكة على تلك الأرض التي أخذت رمالها الذهبية لون الشرقية، مملكةً من الكلمات التي تلمع في ليال المسافرين على جراح الغياب على تلك الجهة الغاوية وكل جهات الحنين.
يقول عثمان الاستثناء في القصيدة الموريتانية في مقطع ساحر حطم فيه وهم الزمان والمكان، وطاف بقلبه الجهات الأربع، ليشكل أخرى خامسة بلا نهائيته المحيرة:
«أحلم..
أفكر بمرتلي ليلي، بليلى وبالليل،
أحلم بلغتهن.. باللغة التي تجمعهن
تلك التي يتخللها الحنين والتسامح،
أحلم بهن.... بنساء مسوفه... بنساء ولاته
الكاهنات الحرائر
يا لعذوبتهن....
إذ هن شبيهات رقة تريقها غوايات النهار الرائقة
شاعريات هن....شاعريات كشهوة الأوتار المرتعشة».
صدر للفقيد معجماً سوننكياً فرنسياً، وديواناً شعرياً وأعمالاً أخرى، لم تنل حظها من الشهرة والتداول والترجمة على رغم أنها تستحق. على أمل بأن يعي من يهمهم الأمر أهمية هذا الرجل كثير الصمت، الذي عاش ومات بصمت، ويمكن القول بالكثير من الفخر والزهو أن شعر عثمان ونثره وأحلامه كانت قدراً ودفتراً لساحل الروح سيد الغواية وكل الجهات، هذا الجميل بهي الروح، الألق الأخير لوجه البلاد الغائبة في الريح والومضة كما عمائم كاسات الشرقية المليئة بالرغوة والسحر والأنوثة وهي تصب الشعر في مخيلة الفقيد، هذه الأسطورة الموريتانية الخالدة.