محمد سالم (اسم مستعار) شاب ينتمي إلى إحدى أكبر القبائل في موريتانيا، تزوج من سيدة تعتبر قبيلتها أدنى منزلة من قبيلته، وهو يعاني من شبه قطيعة مع أسرته بسبب هذه الزيجة.
حاولت أسرته دفعه إلى الطلاق أكثر من مرة، عبر منحه سيارة ومساعدته في العمل، غير أنه رفض هذه العروض التي يعتبرها "سخيفة وتدل على أن المجتمع مخبول". ويضيف الشاب، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، "هذه عادات جاهلية بعيدة عن الإسلام وعن الأخلاق والقيم الإنسانية السوية، وأنا شخصيا قررت أن أحطم هذه الأعراف وأتحداها، ومتأكد أنني سأنجح وسيوفقني الله. حياتي سعيدة ولديّ طفل وعمل، ولا ينقصني سوى رضا والدتي وستقبل خياراتي فى النهاية".
حالة محمد سالم أفضل من حالات أخرى كان الطلاق مصيرها بسبب الضغوط الاجتماعية والأسرية، إذ طلّق محمد يحيى زوجته بعدما قاطعته أسرته، وعانى من الإساءات اللفظية والمعنوية التي تعيّره بزواجه من سيدة من شريحة اجتماعية أقل منه.
يقول محمد يحيى لـ "العربي الجديد": "العنصرية موجودة في كل المجتمعات لكنها هنا قوية جدّا، والمجتمع قادر على معاقبة من يخالف أعرافه بطريقة قاسية تقوم على الإهانة المعنوية بالدرجة الأولى".
محمد فشل في مواجهة المجتمع و"سلطة الأعراف"، وقرر الطلاق من زوجته الأولى والزواج من إحدى قريباته. ويعتبر محمد يحيى أن الكثير من الشباب الموريتاني يفضلون الزواج وفق المعايير القبلية، خوفاً من الفشل فى حياتهم الاجتماعية، وليس لأنهم مقتنعون بهذا الزواج.
وفيما لا تزال القبائل معياراً أساسياً في الزواج بموريتانيا، من النادر أن تقبل بعضها المصاهرة مع قبائل تعتبر دونها في سلم الهرم القبلي. ويصرّ زعماؤها على السيطرة على قُراهم، وفرض الهيمنة عليها من خلال إنشاء قرى مستقلة عن بعضها البعض، وهو ما أدى إلى أزمة اجتماعية وتنموية كبيرة، بفعل عجز الدولة عن توفير الخدمات الضرورية لهذا الكم الهائل من الأحياء والقرى الصغيرة، التي أصبحت أقرب إلى الإقطاعيات، وهي في غالبيتها مشكلة على أساس قبلي، فيما فشلت مختلف الخطط التنموية بسبب نفوذ رؤساء القبائل ورجالاتها.
وتعتبر القبيلة ذات نفوذ واسع في موريتانيا يشمل مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومنذ إنشاء الدولة الموريتانية مطلع ستينيات القرن الماضي استطاعت الحفاظ على نفوذها والتكيف مع الواقع الجديد.
وبالرغم من الخطاب الرسمي المناهض ظاهريا للقبيلة، إلا أن الأنظمة المتعاقبة على موريتانيا ساهمت في ترسيخ حكمها ومحاربة خصومها السياسيين، خصوصاً التيارات السياسية والأيديولوجية، التي انتشرت مطلع سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
النفوذ السياسي للقبائل في موريتانيا معروف، إلا أن نفوذها الاجتماعي يعدّ الأخطر بالنظر إلى مخلفاته وتأثيراته السلبية في الحيلولة دون تطور المجتمع، وفتح المجال أمام الأجيال الجديدة للتعبير عن نفسها والخروج من شرنقة المنظومة القبلية بأعرافها وتقاليدها البالية.
وفي القرى المنتشرة على طول طريق "الأمل" الرابط بين العاصمة نواكشوط وغالبية الولايات الجنوبية والشرقية، حيث لا يفصل بين قرية وأخرى سوى كيلومترين أو ثلاثة، تنقسم القرية الواحدة إلى قريتين بسبب التنازع والخلاف.
نفوذ القبائل يشمل كذلك التعيينات في المناصب، ومن المعروف أن التوازن القبلي شرط غير معلن في أية تشكيلة حكومية بموريتانيا منذ الاستقلال حتى الآن، إلا أن الأخطر من ذلك حماية بعض القبائل لبعض الموظفين، الذين يتم اعتقالهم بتهم تتعلق بالفساد، حيث تدفع قبائل الغرامات وتكاليف المحامين، فضلا عن تنظيم احتجاجات وحملة علاقات عامة لضمان الإفراج عن هؤلاء المتهمين.
هناك أوجه إيجابية للقبيلة في موريتانيا، مثل نظام التضامن الاجتماعي، خاصة في ظل هشاشة الدولة وضعف خدماتها، لكن حالة "الزواج غير المعلن" بين الدولة والقبيلة جعل كيان الدولة رهين منظومة ما قبل ظهور الدولة الحديثة، واستطاعت المنظومة القبلية أن "تتمدد" فى جسم الدولة بشكل "ناعم" وأن تكيفها مع مصالحها، وفق بعض الباحثين.
من سلبيات وجود القبيلة كإطار متماسك في موريتانيا، حسب الباحث الاجتماعي الدكتور الشيخ أحمد ولد البان، "عدم الولاء للدولة وهو ما يؤثر على مفهوم الوطنية وعلى تقدم الدولة نفسها، لأن المجتمع في الدولة حينما يكون غير مؤمن بالدولة ولا يحس بالحاجة إليها، بل ويؤدي الكثير من الوظائف الاجتماعية دونها، كما هو الحال في القبيلة داخل المجتمع الموريتاني، فإن هذا يعد سبباً مباشراً لضعف الدولة، خاصة إذا كانت لا تمتلك ما يعزز قوتها، كما هو حال الدول النفطية".
ويضيف الدكتور البان في حديثه مع "العربي الجديد": "المعادلة هي أنه كلما تقوت القبيلة ضعفت الدولة، وهو ما حدث فى موريتانيا للأسف، وبالتالي تضيع قيم الكفاءة في المسؤوليات والوظائف وتستبدل بالتوازن القبلي والجهوي، وهذا من أكبر مظاهر المنظومة القبلية في موريتانيا".
ويعتبر ولد البان أن "القبيلة هي مجموعة أعراف وتقاليد وطقوس، وبالتالي فإن القبائل حريصة على هذه العادات والطقوس لأنها جوهر وجودها".
وأشار الباحث إلى أن "عدم قبول القبائل الخروج على نظام الزواج الداخلي يكشف جانباً من جوانب تحكم القبيلة في مسارات المجتمع، وأي مجتمع ينشد التطور لا بد من أن يفكك النظام القبلي ليبقيه في حدوده الدنيا كإطار للتواصل الاجتماعي لا أكثر، حتى لا يبقى صلبا كمنظومة لرعاية الجهوية والعنصرية والطبقية".
للقراءة من المصدر اضغط هنا